«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (4) : ثلاثة مخرجين يطرحون قضايا اجتماعية شائكة

تونسي وإيراني وروسي ينتقدون عدالة غائبة

لقطة من «على كف عفريت» - مشهد من  «رجل كبرياء» - مشهد من فيلم «بلا حب»
لقطة من «على كف عفريت» - مشهد من «رجل كبرياء» - مشهد من فيلم «بلا حب»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (4) : ثلاثة مخرجين يطرحون قضايا اجتماعية شائكة

لقطة من «على كف عفريت» - مشهد من  «رجل كبرياء» - مشهد من فيلم «بلا حب»
لقطة من «على كف عفريت» - مشهد من «رجل كبرياء» - مشهد من فيلم «بلا حب»

«ما يهمك أمن تونس؟ تونس الخضراء؟ غادي الإرهابيين يقتلونك إنت وأهلك… فين تصير البلاد من دون أمن؟».
هذا بعض ما يقوله المحقق للفتاة (مستخدماً باللهجة التونسية المحددة صيغة المذكر كما العادة هناك) التي تشتكي من أن رجلين قاما باغتصابها قبل ساعات. هو يحاول إثارة شعورها الوطني وهي تسأل عن العدل والقانون.
يريدها أن تتراجع عن دعواها وتتجاهل ما حدث لها وتوقع على ذلك لكي تُريح وترتاح. لكن فيلم كوثر بن هنية «على كف عفريت» (أو «الجميلة والكلاب»، كما عنوانه الفرنسي) الذي مثل تونس في قسم «نظرة ما» كما كان «اشتباك» لمحمد ديب، مثل مصر في المسابقة ذاتها في العام الماضي، لا يرتاح.
اقتبست المخرجة حكاية عملها الثالث (والأفضل بعد «شلاط تونس» و«زينب تكره الثلج») من واقعة حقيقية تعرضت لها فتاة في الحادية والعشرين من عمرها عندما كانت تسير ليلاً مع صديق لها على شاطئ البحر عندما استوقفهما ثلاثة رجال شرطة. اثنان منهما تناوبا على اغتصابها في سيارة البوليس، والثالث منع صديقها من الحركة.
* الطرف الآخر من الحكاية
هذا لا نراه في الفيلم الذي رقّمته المخرجة فصولاً من 1 إلى 9. ففي الفصل الأول، نشاهد مريم (تقوم بها مريم الفرجاني) وهو في حفلة بعدما تسللت إليها من المدرسة الخاصة. ترتدي فستاناً أزرق مفتوح الصدر وترقص ثم تتحدث مع شاب اسمه يوسف (غانم زريللي). عند حديثهما غير المسموع ينتهي هذا الفصل وننتقل إلى الفصل الثاني: يسيران في أحد الشوارع (والأحداث كلها تدور في رحى ليلة واحدة وتنتهي عند الفجر) وهي مهزوزة من وقع ما حدث لها وخائفة. يقنعها يوسف بأن تلجأ للشرطة وتتقدم ببلاغ، لكن عليهما أولاً الحصول على شهادة طبية تثبت فعل الاغتصاب. المستشفى الذي يدخلانه يرفض منح الشهادة من دون طلب من الشرطة.
التداول طويل نوعاً في هذا الفصل، الذي يريه متى وكيف ستذهب مريم إلى الشرطة واثنان من أفرادها اعتديا عليها. في البداية تذهب ويوسف (الذي تدعي الآن أنه خطيبها) إلى أحد الأقسام والضابط هناك ينبئنا بما سيكون حال سواه: إنه شخص مهين يسخر من الفتاة وشكواها ويتشاجر مع يوسف ولا يجدان بدّاً من التوجه إلى مبنى آخر للشرطة حيث ستكمن معظم مشاهد الفيلم التالية.
توفر المخرجة هنا عدة نماذج: هناك الشرطي «البلايبوي» والضابطة الحامل التي تهتم بالشكليات فقط، والشرطي الخمسيني الذي يحاول المساعدة محشوراً بين أترابه من رجال البوليس الذين يضنون على الضحية حقها ويحاولون ابتزازها وتوجيه التهم لها كما لو أن هي التي جنت على نفسها.
عندما تجد حقيبة يدها وهاتفها في إحدى سيارات البوليس وتتعرّف على الشرطيين اللذين اغتصباها تصبح المسألة أكثر تراجيدية، كون هذا سيورطها أكثر وأكثر في محاولة البوليس الدفاع عن رجاله بتخويفها من مغبة الإصرار على حقها في تقديم الشكوى.
يهم المخرجة كوثر بن هنية أن تعكس في الفيلم نظرات القسوة الموجهة إلى الضحية لما حدث لها. على عكس فيلم جوناثان كابلان «المتهمة» (1988) عندما واجهت جودي فوستر حالة مماثلة، تعمد المخرجة للوقوف تماماً لجانب مريم (في حين أن فيلم كابلان طرح أسئلة حول ما إذا كانت جنت على نفسها بسبب انفلاتها). على ذلك، هناك ما يتسرب، ربما ليس بقصد الفيلم، من موقف مماثل: فستان مريم الكاشف والقصير (قبل أن تجد ما تغطي نفسها به) وهروبها من المدرسة لتحضر الحفل مسألتان لا يمكن إيجاد مبرر أخلاقي لهما. إنه كالقول إنها جلبت على نفسها ذلك. لكن «على كف عفريت» لا يترك بطلته محصورة في هذه الزاوية بل يتعاطف معها، كما يوسف الذي لا حول له ولا قوّة.
والمشهد الأخير في الفيلم يعكس هذا التأييد إذ ستغادر الفتاة مركز الشرطة بعدما تدخل الشرطي الخمسيني ضد زميليه المحققين وساندها. الكاميرا في لقطة بعيدة متوسطة عليها وهي تخرج من المركز وكلها تصميم على فضح المجتمع.
ليس فيلماً بلا مشكلات. تغييب مشهد الاغتصاب كان فعلاً جيداً لأنه جعل الحقيقة تتكشف ببطء، لكن تقسيم الفيلم إلى فصول يغطي على غياب التسلسل الدرامي الطبيعي والاستبدال به القفز من فصل لآخر من دون رابط حدثي سليم.
لكن المشكلة تكمن على الطرف الآخر. تقديم الحكاية بالإصرار على المكان (تونس) يحصر الحادثة في إطار ضيق كما لو أن حوادث مشابهة لا تقع في كل مكان حول العالم. بذلك فإن الضعف كامن في قوّة المضمون والفيلم ذاته وهو إشعار المشاهد الأجنبي بـ«تونسية» الحدث، ما يجعله ينسى أحداثاً (وأفلاماً غربية كثيرة) دارت حول الموضوع نفسه.
* تفرقة طائفية
قبل «على كف عفريت» بساعات، وفي مسابقة «نظرة ما»، تم عرض فيلم إيراني للمخرج محمد رسولوف عنوانه «رجل كبرياء» (أو «ليرد» كما عنوان آخر له) وهو يحمل الهوية الإيرانية، لكن هناك ما يوحي بأن لمسات ما بعد الإنتاج جميعاً خضعت لمعالجات تقنية فرنسية.
محمد رسولوف حذر من أن ينتقد مباشرة ويكتفي بالإيحاء. ربما لأنه أمضى في السجن الإيراني عقوبة لأربع سنوات (تفصل بين فيلمه هذا وفيلم السابق «المخطوطات لا يمكن حرقها») ولا يود العودة إلى السجن مرّة ثانية. على ذلك فإن هذا الإيحاء متواصل الوجود وكاف ليوصم المجتمع الإيراني بالتفكك والانهيار تحت وقع المتطلبات الإنسانية غير المحقة والعدالة التي يقف القانون غير قادر على فرضها.
بطل الفيلم رضا (رضا أخلاغيراد) مزارع سمك. يملك بيتاً خارج طهران ويعيش مع زوجه (صدابة بيزائي). ربّى في برك واسعة أسماكه ليعيش على تجارتها بينما تعمل زوجته مدرسة في البلدة القريبة. يبدأ رضا بالعثور على سمك ميّت بين أسماكه. في أحد المشاهد المبكرة في الفيلم ذي الساعتين تقريباً، يستيقظ صباحاً على صياح زوجته المريع. يركض خارجاً ليجدها تقرع على طنجرة نحاسية لطرد عشرات العقبان السود التي كانت أخذت تقتات على الأسماك. يشارك القرع ثم يلتفت إلى بركته ليجد أن كل أسماكه (بالمئات) تطفو ميتة.
السبب هو قطع الماء عن مجري النهر الذي يملأ منه رضا بركه. ينطلق إلى أعلى المجرد ليجد أن جاره عباس قد أنشأ سداً ومنع الماء. حال يبدأ بفتح الماء من جديد يُلقى القبض عليه.
هناك تغييب مماثل لما حدث لرضا في السجن (كتغييب كوثر هنية لما حدث لبطلته في مطلع تلك الليلة) لكن الأمور تتضح فيما بعد. كان عبّاس رفع قضية على رضا يدعي فيها أنه كسر يده وتزوّد بشهادة طبية مزوّرة. في الوقت ذاته لم يعد رضا قادراً على تلبية احتياجاته المادية. لقد فقد سمكه وباع سيارة زوجته ولديه قرض من البنك لا يستطيع ردّه.
هنا يركّز المخرج على تداعي المجتمع في صورته الكبيرة: الطبيب فاسد، البوليس لا يكترث، جاره قوي يدمن الحشيش ويتاجر بها. والجميع يقبل الرشوة بلا تردد.
خلال هذا المضمون هناك مشهدان لافتان يزج بهما المخرج مُخاطِراً بأن يُزج به في السجن من جديد؛ أولهما توسل أم لفتاة صغيرة ستطرد من المدرسة لأنها ليست شيعية، والثاني لمشهد موت امرأة جاء الإسعاف لأخذها وسط حشد قليل من الكسالى. لكن المراسم وطريقة الندب غير شيعية، فهل المقصود هي التفرقة الطائفية التي يُعامل بها غير الشيعة؟ هل الفتاة الصغيرة وأمها ومشهد ما قبل الدفن من السُنّة؟ لا يحدد المخرج (ولا يستطيع التحديد) تماماً، لكنه يزوّد المشهد الثاني بعبارة تفي بأنه ممنوع على الشخص المتوفي الدفن في مقابر الشيعة، مما يؤكد بعض ما يذهب إليه الفيلم.
إنه فيلم جريء بطله الإنسان الرافض لعبث مستديم في الأخلاق والمبادئ. رجل يلحظ ما يدور معه وما يدور حوله ويواجه زوجته بأنها «قضية كفاح»، كما يقول. هذا قبل أن ينتصر الشر الكامن في شخص عباس والمعنيين الآخرين ويتم حرق المنزل الذي رفض رضا بيعه.
* عدالة غائبة
ضمن هذا التيار المتجدد على شاشة المهرجان الحالي، ينضم فيلم «بلا حب» (Loveless) للمخرج الروسي أندريه زفيغنتسف. الأول له منذ أن حقق، قبل ثلاث سنوات، «لفياثان»، الذي هو أول ما عرض من أفلام المسابقة مباشرة بعد فيلم الافتتاح الباهت «أشباح إسماعيل».
يبدأ الفيلم، بعدة مشاهد للطبيعة المحيطة بالحكاية التي سنتابعها، بالصبي أليكسي (ماتفي نوفيكوف) الذي يخرج مع أترابه من المدرسة وقت الانصراف، وينطلق مشياً للعودة إلى البيت. طريقه تمر بغابة وبحيرة قبل أن تنتهي عند المبنى حيث يعيش مع والديه. الأب (أليكسي روزين) موظف في مؤسسة والزوجة (ماريانا سبيفاك) تملك صالون تجميل. وهما على بعد يسير من فض الزيجة والطلاق رسمياً بعد أشهر من الانفصال، لكن هذا لا يمنع قيام خناقة عاصفة بينهما يسمعها الصبي باكياً ثم يهب هارباً من البيت.
كل من الأب والأم يعيش الآن مع حبيب جديد: هو مع ماشا (مارينا فاسيليفا) الحبلى منه، وهي مع رجل ثري اسمه أنطون (أندريس كايش). وبعد هذا التقديم الذكي للشخصيات ومكامن المشكلات التي ستعصف بهما قريباً، تكتشف الأم اختفاء ابنهما ويهب الأب ليكون حاضراً في هذه المعضلة. لكن على عكس أفلام كثيرة سابقة (غالبها أميركي) لا يوظف الفيلم مشاهده لكي يؤدي هذا الحدث بالزوجين إلى مصالحة، مدركين خطأهما تحت وقع المأساة، بل سيستمر في تصوير النزاع القائم بينهما وينتقل، لاحقاً، إلى فصل كامل يضطر فيه كل منهما للعيش مع شريك حياته الجديد بعد سنوات من اختفاء ابنهما من دون أن يعثرا عليه.
زفيغنتسف لا يخفي، عادة، نظرته المدينة للمرأة. هي هناك في فيلمه الأول «العودة» (2003) وفي أفلامه بعد ذلك: «المنفى» (2007) و«إلينا» (2011 ولو على نطاق محدود) و«ليفياثان» (2013). هنا يصوّر المخرج الزوجة لاهية ويوصم تصرفاتها بالأنانية ويطلق، حتى من خلال كلماتها، ما يجعلنا ندرك أنها ليست على صواب في معظم ما تذهب إليه.
يستطيع المرء منا أن يلحظ أن المخرج في نهاية المطاف إنما يتحدث، مرّة أخرى، عن زواج متصدّع ينهار أمامنا. هناك بفعل خيانة ما، في فيلم ثانٍ بفعل ضعف قرار وهنا في صورة امرأة أنانية لا تقبل أن تستمع إلى المنطق.
لكن هذا ما يبنى لزفيغنتسف العالم الذي يزداد منه. بعد إدانة الوضع القائم في زيجات أفلامه يومئ إلى إشراك القانون في التقاعس منتقداً عدم رغبته توفير الوقت والدعم الكامل للبحث عن الطفل الذي ربما يكون سقط في الماء أو تم خطفه. هذا البحث في العلاقات الزوجية وغير العاطفية قريب من بحث برغمن وأنطونيوني وسواهما، لكن أسلوب زفيغنتسف قائم على رقة في النواحي البصرية ترفع من جماليات الفيلم بمقدار كبير.
ما يجمع بين هذا الفيلم وسابقيه هو الإشارة إلى عدالة غائبة، بدرجات، في هياكل اجتماعية متباعدة. لكن في حين أنه من المتاح تونسياً وروسياً هذا القدر من حرية التعبير، فإن الأمر أصعب منالاً بالنسبة لفيلم إيراني. لكن رسولوف فعل ذلك بنبرة أعلى من زميله أصغر فرهادي مع أن الفيلم يتبع هذا النسق من الطروحات الاجتماعية.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».