سؤال يطرح بحدة في الأوساط الفرنسية بشكل خاص، والأوروبية بشكل عام على المستوى الفكري والفلسفي والأدبي. وتزداد حدته مع صدور أي كتاب مؤيد أو معارض لمقولة إن الحضارة الأوروبية «يهودية - مسيحية». منذ بداية هذا العام انشغلت الأوساط المثقفة بصدور كتابين متعارضين حول هذا الموضوع؛ الأول بعنوان: «الانحطاط» للفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري، والثاني بعنوان: «لقاء غريب بين اليهود واليونان والرومان»، للكاتبة اليهودية الفرنسية من أصل تونسي ناتالي كوهين. هذا الكتابان يطرحان المسألة بمعالجتين مختلفتين، بخاصة أن أونفري الملحد يعد أن الأديان تمارس سلطة على العباد لا تجعلها تفكر في الواقع، لكنه في الوقت نفسه يقول: «أنا ملحد مسيحي» ويقصد من ذلك أن الثقافة الأوروبية التي تشربها هي ثقافة «يهودية - مسيحية». أثار أونفري في كتابه هذا موجه عاصفة من الانتقادات لأنه يعدّ أوروبا في حالة انحطاط وتتماشى بصعوبة مع بروز قوى أخرى تتطور بسرعة على الساحة العالمية. الفيلسوف المعروف بفكره «الأبيقوري» يعود في كتابه إلى الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ويتوقف بإسهاب عند عمليات القتل والتعذيب التي مارسها المسيحيون على أساس معتقد ديني، ثم يتطرق لمقولة: «اليهودية - المسيحية»، ويفصلها عن مقولة: «معاداة السامية»، ويرى أنها في حالة انحطاط ما دامت أوروبا عاجزة عن حل أزماتها المستعصية في مجتمع استهلاكي يواجه فيه المستهلك المنتج.
في المقابل، ترى ناتالي كوهين عبر بحث في الجذور التاريخية، هذا التقارب المنشود بين اليهودية والمسيحية، وتشير إلى أنه للوصول إلى الفهم الصحيح لهذا التقارب، فلا بد للمرء من معرفة عميقة وصلبة لتاريخ وأحداث هاتين الديانتين السماويتين اللتين تشتركان في إله واحد. وتشتط الكاتبة بالتأكيد على أن اليهود اختلطوا مع اليونانيين، فهناك من يشير إلى اشتراك أعداد كبيرة من اليهود في الحروب بعد أن انخرطوا في جيوش الإسكندر المقدوني بصفتهم مرتزقة، والمقايضة بين الإسكندر تلميذ أرسطو واليهود هي أن يسمح لهم بتدريس التوراة مقابل الخدمة العسكرية لأبنائهم في جيشه الذي سيغزو العالم، فترجمت التوراة إلى اليونانية حتى باتت اللغة اليونانية لغة مقدسة بالنسبة لليهود، ثم جاء الرومان من بعد، وحسب كوهين، ثابروا على منوال أسلافهم نفسه. ومن هنا يمكن القول إن الحضارة الأوروبية هي حضارة «يهودية - مسيحية» لأن أوروبا اليوم تتشرب من ماضي هذا المزج الحضاري بين اليهود واليونان والرومان. لكن الجدل لم ينته، فانبرى نقاد كثر لدعم، أو دحض، أو تفنيد هذا الطرح. ماكسيم روفر يذكر من جانبه بالفترة التاريخية التي سادت بعد طرد العرب واليهود من الفردوس الأندلسي، وكيف هرب اليهود من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية وانتقل بعضهم إلى هولندا واستقروا في أمستردام، حيث استطاعوا هناك أن يتفاعلوا مع مجتمع أوروبي ثائر دينيا بعد حركة جان كلفان، ومارتن لوثر، حيث انتشرت الملل والنحل المختلفة مسيحيا ويهوديا، فانقسم اليهود إلى شيعة وطوائف، وتزعم ثلاثة حاخامات تيارات ثلاثة خلفت نزاعات كثيرة بين اليهود أنفسهم. هذا الوضع الديني الجديد المتفجر جذب انتباه المفكرين من أمثال ديكارت، وبيير بايل، وأعطى مولد فلسفة سبينوزا. ويشير الناقد إلى أنه في القرن السابع عشر ادعى اليهودي التركي ساباتاي تزيفي النبوة، وأنه المسيح المنتظر، وتنبأ بنهاية العالم بظهوره في وقت كانت فيه أوروبا تشهد كوارث طبيعية مختلفة، وانتشار المجاعات والطاعون. لكن السلطان التركي خير المسيح المنتظر بين أن يصمد تحت ضربات النبال إذا كان نبيا، أو أن يعتنق الإسلام، فاختار الأخير، واستمرت الحياة على الأرض. الناقد فرنسوا كوليسمو يعد أن الخلافات بين اليهود والمسيحيين عبر التاريخ كانت أكبر من أن تجمعهم، لكن العالم الجديد في الولايات المتحدة التي جعلت من اليهودية مكونا أساسيا في البروتستانتية المنتشرة، غير المفاهيم، على عكس ما حصل في فرنسا، حيث جنح بعض الكتاب والمفكرين الفرنسيين كإرنيست رينان وبول فاليري مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين إلى إبراز المسيحية الكاثوليكية على أنها دين مستقل، رغم أن نابليون بونابرت كان قد حرر اليهود بعيد الثورة الفرنسية، لكن النازية الغازية التي احتلت فرنسا وقسمتها إلى قسمين جعلت حكومة فيشي تتبنى الطرح النازي في محاربة اليهود ونسخ مقولة «اليهودية المسيحية»، وبالطبع انقلب الأمر رأسا على عقب بعد هزيمة النازية لتعود هذه المقولة بقوة «كتكفير عن ذنوب أوروبا إزاء المحرقة اليهودية» كما رأى البعض. وما قيام دولة إسرائيل إلا ضمن هذا المفهوم، وراح البعض يعد أن إسرائيل جزء من الحضارة الأوروبية اليهودية - المسيحية. ومن هذا المنطلق أيضا هناك عمل دؤوب لمنع قيام أي حضارة مغايرة أو منافسة في المنطقة. لكن الجدل لم ينته، ويأخذ أشكالا مختلفة في الفكر والسياسة (رئيسة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبان تنفي مسؤولية فرنسا عن ترحيل اليهود إلى ألمانيا النازية، وهناك أحزاب يمينية أوروبية تتبنى طروحات مشابهة)، خافيير تيكسدور javier teixidor في كتابه «اليهودية - المسيحية»le judéo - christianisme يعيد طرح المسألة؛ بدءا من المنشأ، بالقول: «المسيح يهودي، والمسيحية تشربت من كتاب العهد القديم صحيح؛ لكن الفروقات كبيرة جدا جعلت المسيحية تبتعد عن اليهودية، بل إن رجال الكنيسة في فترة تاريخية دعوا إلى نبذ اليهودية، وديدرو في موسوعته كان واضحا في تعريفه لليهودية بحيث إنه قدمها كديانة مستقلة وبعيدة عن الكاثوليكية، وبمفهوم آخر، هو دحض فكرة اليهودية - المسيحية». في نهاية الأمر، هذا المصطلح وليد نهاية القرن الماضي، وجاء نتيجة حتمية لصعود العلمانية في أوروبا وانحسار المسيحية، وسطوة الكنيسة التي كانت معادية لليهود، وتحرر هؤلاء من الغيتو الذي اعتادوا عليه خلال قرون في مختلف دول أوروبا، كل ذلك أفضى إلى تمتين مقولة «اليهودية - المسيحية» وإن كانت على أسس متأرجحة وغير متفق عليها بالإجماع، بخاصة أن حضارة الإسلام المشعة في دمشق وبغداد وقرطبة تم تجاهلها، بل حتى نكران مساهماتها الكبيرة في بناء الحضارة الأوروبية، فلماذا لا يقال إن الحضارة الأوروبية هي «يهودية - مسيحية، إسلامية» مثلا؟
سؤال مطروح يحتاج لمعالجة جديدة وجدية فكرياً وسياسياً.
هل الحضارة الأوروبية يهودية ـ مسيحية؟
قضايا تحتاج لمعالجات جديدة وجدية فكرياً وسياسياً
هل الحضارة الأوروبية يهودية ـ مسيحية؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة