التشكيل وروح الإبداع بين المدينة والصحراء

صنوان في بيئة الجزيرة العربية

من أعمال نجلاء السليم
من أعمال نجلاء السليم
TT

التشكيل وروح الإبداع بين المدينة والصحراء

من أعمال نجلاء السليم
من أعمال نجلاء السليم

حضرت أخيراً في الرياض معرضاً للفنانة التشكيلية السعودية نجلاء محمد السليم، قدمته للجمهور تحت عنوان «روح المدينة»، وتضمن لوحات ترتسم فيها معالم لمدن تقترح على المشاهد قراءتها من خلال ذلك العنوان، أو من خلال ما يتراءى له/ لها من زوايا مختلفة، لا سيما أن من اللوحات ما حمل توجهات يصعب اختزالها تحت عنوان محدد. اللوحات التي حملت روح المدينة جاءت ممثلة لموضوعها من خلال خطوط لبنايات متراصة ومضغوطة بين خطوط أفقية من أعلى ومن أسفل تكاد تحاصر البنايات، لتشكل بذلك ما يبدو وكأنه تحدي الطبيعة للحياة المدنية. والطبيعة هنا صحراوية بامتياز نظراً إلى طغيان اللون البني والبيج في الخطوط والمساحات الممتدة في سماء المدينة وعلى أرضها. ومع أن البنايات، في إحدى اللوحات على الأقل، تميزت بألوان فاتحة، يميل بعضها إلى البياض أو «الأوف وايت» والأخضر الفاتح، فإنها ظلت مع ذلك جزءاً من البيئة المحيطة، وكأنها امتداد للصحراء أو نبتة من نباتاتها المصرة على الحياة.
استوقفتني تلك اللوحات التي حملت روح المدينة لأنها أيضاً حملت روح الصحراء. المدينة والصحراء صنوان في بيئة الجزيرة العربية، بل وفي كل البيئات التي تحكم الصحراء أفقها، وتتحدى قدرة الإنسان على العيش والبناء. ولم يكن غريباً أن تشكل الصحراء والمدينة جدلية الحياة وسمات الثقافة طوال تاريخ تلك البيئة. إنها جدلية تتحول إلى حوار حين تكون العلاقة هادئة ومسالمة، وإلى صراع حين تقسو الصحراء أو تقسو المدينة، كما تعبر عن ذلك حكايات وقصائد وأغان، وفي العصر الحديث لوحات، تشكل في مجموعها إرث الإنسان وقصة وجوده على الرمال والجبال التي يتجرد الكثير منها ويخضر القليل. كانت تلك العلاقة ما لفت انتباهي في بداية تعرفي على معالم الأدب الذي أنتجته الجزيرة العربية في عصرها الحديث، لأخرج من ذلك بأول كتبي تحت عنوان «ثقافة الصحراء» (1991).
استعدت ثقافة الصحراء وأنا أتأمل ما وصفته نجلاء السليم بروح المدينة. وجدت روح الصحراء تمثل أمامي، تلف معالم المدينة وتشكل ملامحها، تماماً مثلما وجدت تلك الروح من قبل تشكل معالم الحداثة الأدبية في قصائد وقصص لشعراء وكتاب أرادوا الانتماء للمدينة فانتموا إلى الصحراء أيضاً، عن قصد أو عن غير قصد. في لوحات الفنانة التشكيلية حضور طاغٍ للصحراء من خلال أفقها وألوانها وخطوطها، وهو حضور ورثته الفنانة من بيئتها أولاً، من انتمائها إلى بلاد صحراوية، من بينها البلدة التي جاءت منها في وسط الصحراء النجدية، بلدة مرات إلى الشمال الغربي من مدينة الرياض. ثم ورثته، ربما بدرجة مباشرة وأكثر تأثيراً، من أعمال والدها الفنان التشكيلي الراحل محمد السليم الذي يعد رائداً من رواد الحركة التشكيلية في المملكة العربية السعودية، طور أسلوباً جديداً في الرسم عرف بالآفاقية.
تتسم الآفاقية، كما يوحي اسمها، بالخطوط الأفقية التي تشكل اللوحة على شكل منحنيات وألوان تتراوح بين البني والبيج، في محاكاة لخطوط الأفق في بيئة مفتوحة كالبيئة الصحراوية. ومع أنه من الصعب العثور على دراسات تحليلية توقفت عند ما ابتكره محمد السليم، إذا استثنينا بعض الكتابات الإنشائية التي تحوم حول ذلك الأسلوب، والتي كتبها بعض الفنانين التشكيليين السعوديين، فإن هناك تصوراً عاماً وغائماً إلى حد كبير حول سمات ذلك الأسلوب، الذي يوصف عادة بالمدرسة، واتفاقاً على أن السليم كان يسعى جاداً لتطوير الفن التشكيلي المحلي باتجاه خصوصية لم يسع إليها كثير من الفنانين، أو على الأقل لم يحققوها.
في لوحات نجلاء السليم كثير من خطوط والدها، وإن كان ثمة مدرسة تشكلت إثر ابتكارات الوالد الفنان، فهي في أعمال ابنته في المقام الأول، ولكن ذلك لا يكفي عادة لوصف الاتجاه الفني بالمدرسة. لا بد من تحول الاتجاه إلى اتجاه عام يسير فيه عدد من الفنانين لكي تتضح معالم المدرسة. ويصدق ذلك على الفنون التشكيلية مثلما يصدق على غيرها من الفنون وأنماط الإنتاج الثقافي والإبداعي الأخرى. لكن ما سعى إليه السليم الأب ثم الابنة قد يتحول إلى مدرسة بظهور جيل من الفنانين الذي يرون في ابتكارات الفنانَين ريادة فنية يمكن السير على خطاها. ولعل من نافلة القول أن أضيف أن من سمات المدرسة ألا يستنسخ التالي ما أنجزه الأول، وإنما أن يضيف إليه، وهذا في واقع الأمر ما نلحظه في أعمال نجلاء السليم التي تبتعد أعمالها عن الاستنساخ لتحمل روح الآفاقية وتمضي بها في اتجاهات أخرى، إلى معالم المدينة تارة، وإلى الأشكال التجريدية تارة أخرى، في مسعى إبداعي واضح للسير في ذلك الاتجاه، والسير به أيضاً نحو أفق آخر يكون امتداداً له وإضافة إليه في الوقت نفسه.
المهم هنا هو روح الابتكار التي تتوارى غالباً تحت قناعة كثير من الفنانين التشكيليين بأن المدارس المنتشرة، وهي مدارس تطورت في أوروبا، مدارس عالمية لا ضير في السير على منوالها. أي أن بوسع الفنان أن يكون سريالياً أو تكعيبياً، ويكون مبتكراً في الآن نفسه. والحق أن هذا ممكن، فليس ثمة قوانين حتمية في الفن عموماً، لكن ما يستحيل تحقيقه هو الجمع بين استنساخ المدارس المختلفة والانتماء أو الخصوصية على نحو مبتكر. قد يتحقق الابتكار لكن دون أن يكون منتمياً إلى معالم واضحة. وقد يضيف الفنان إلى السريالية أو التأثرية، لكن دون أن تكون لإضافته سمة الانتماء إلى المحلي والخاص. أن تبتكر وتنتمي معاً هو أن تسعى للصدور في ابتكارك عن رؤية تتفاعل مع مكوناتك الثقافية والبيئية المختلفة، أن تشكل شخصيتك الفنية، وبالتالي أعمالك وفق جدل مع الواقع المحيط، وليس المستورد. كانت السريالية ثورة على العقلانية ونتائجها، وسعياً للصدور عن اللاوعي في حضارة فقدت الثقة بكون الوعي مصدراً للحقيقة. تلك كانت رؤية فلسفية ليست بالتأكيد ما يسعى إليه فنان عربي أو غير غربي عموماً يتبنى السريالية دون أن تكون لديه مشكلة مع الوعي، أو يعني له اللاوعي شيئاً، أي تتحول لديه السريالية إلى تكنيك لا أقل ولا أكثر، أسلوباً للرسم المختلف، للتجريب.
لقد مر محمد السليم بمراحل في حياته الفنية جرب فيها ما يجربه الفنانون الآخرون، ثم استقر في النهاية عند قناعته بأنه من المهم أن يسعى إلى تلك الروح التي لم يجدها في أساليب الرسامين في فرنسا أو فلورنسا، حيث درس. ومحاولته ليست مختلفة، كما ذكرت في بداية هذه المقالة، عن محاولات كتاب وفنانين في مجالات أخرى لأن غيره وجدوا أيضاً آفاقيات في الكلمة وفي الإيقاع، فحاولوا أن يختلفوا، ولكن باتجاه المزيد من الأصالة والابتكار معاً. فالمهم في نهاية الأمر ليس روح المدينة، ولا روح الصحراء، وإنما روح الإبداع التي تحمل الأُخريين معاً وتتنفسهما لوحات وقصائد وسرديات ورؤى.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.