«لويس فويتون» تستنفر اليابانيين لاستقبال ضيوفها

أقامت عرضها لـ«كروز 2018» بين أحضان متحف ميهو في بادرة غير مسبوقة

لقطة تلخص جمال المكان والأزياء
لقطة تلخص جمال المكان والأزياء
TT

«لويس فويتون» تستنفر اليابانيين لاستقبال ضيوفها

لقطة تلخص جمال المكان والأزياء
لقطة تلخص جمال المكان والأزياء

الفرق بين عروض الـ«هوت كوتير» والأزياء الجاهزة وعروض الـ«كروز»، أن هذه الأخيرة تجربة سفر قائمة بحد ذاتها. والمقصود هنا ليس السفر بمعناه المجازي، بل سفر فعلي إلى أماكن بعيدة باتت بيوت الأزياء الكبيرة تتسابق فيما بينها بحثا عليها. صحيح أن أي عرض يكون عموما عن الأزياء والإكسسوارات، إلا أن الأمر يختلف بالنسبة لعروض الكروز، التي أصبحت لصيقة بأماكن وديكورات مُبهرة، هدفها أن تخلق تجربة تتحول إلى ذكرى لا تُنسى، حتى بعد أن تُطرح هذه الأزياء للبيع بعد ستة أشهر، وتنفد من الأسواق بعد سنوات. البعض يعتقد خطأ أن اختيار هذه الأماكن عملية اعتباطية، بينما هي في الحقيقة تخضع لحسابات عدة، على رأسها أهمية السوق التي تتوجه إليها كل دار، فضلا عن علاقتها بها في الماضي، أو نوع العلاقة التي تريد أن تربطها معها في المستقبل. لهذا؛ عندما قررت دار «لويس فويتون» أن تقيم عرضها لعام 2018 في كيوتو اليابانية، أثار الخبر حماسا سببه أن اليابان وجهة ساحرة، ولا تزال غامضة في الكثير من الجوانب، وفي الوقت ذاته لم يكن مفاجئا؛ إذ إن علاقة الدار بهذا الركن من العالم تعود إلى القرن الثامن عشر بفضل زبائن مهمين تعرفوا إلى مؤسس الدار لويس فويتون، وصمم حقائب سفر خصيصا لهم وعلى مقاسهم. مع مرور الزمن تطورت هذه العلاقة وتحولت من التجاري إلى الفني، وهو ما تشهد عليه تعاوناتها مع مجموعة من الفنانين اليابانيين.
لكن بالنسبة للمصمم نيكولا غيسكيير، فإن الاختيار هذه المرة لا علاقة له بتعاون جديد بقدر ما كان نابعا من علاقة الدار بالسفر والترحال من جهة، وشغفه بالطبيعة اليابانية، بدءا من انسيابية تناقضاتها وتناغمها من جهة ثانية. يقول: «ألهمني المكان منذ النظرة الأولى. فبعد الأجواء الصحراوية في بالم سبرينغز الذي شهد عرض (الكروز 2016)، والمحيط والماء في ريو دي جانيرو في عرض 2017، أردت أن أقدم له في العام المقبل تجربة طبيعية مختلفة أجمع فيها الماء بالخضرة». وهكذا رسا اختياره على متحف ميهو الواقع بكوكا، جنوب شرقي كيوتو، ليس لطبيعته الخلابة وموقعه بين جبلين فحسب، بل لأن مصممه إ.إم. باي هو نفسه من صمم الهرم الزجاجي باللوفر بباريس. غني عن القول، أن العملية تطلبت جهودا جبارة لإقناع السلطات اليابانية بقبول الفكرة وتقبلها. ولحسن الحظ جاء الرد بالإيجاب بفضل علاقة اليابان التاريخية بـ«لويس فويتون». وهكذا كما أقنعت الدار المسؤولين في باريس بقبول إقامة عرض أزيائها للملابس الجاهزة الأخير في اللوفر، ولأول مرة، أقنعت السلطات اليابانية.
ومع ذلك، لا يمكننا القول إن الطبيعة، أو بالأحرى خضرتها، هي المحفز الوحيد للمصمم نيكولا غيسكيير لكي يقيم عرضه في كيوتو. فمتابعة سريعة لمسيرته تشير إلى أنه عاشق للهندسة المعمارية ومسكون بها، بدليل أماكن العرض التي احتضنت عروضه لحد الآن، ولم تقتصر أهميتها على طبيعتها وحدها.
صحيح أنه أقام عرض الـ«كروز» لعام 2016 في بالم سبرينغ، لكنه أقامه في بيت الممثل الراحل بوب هوب، الذي تميز بمعمار مستقبلي يبدو فيه من بعيد كما لو كان مركبة فضائية ضخمة. وفي العام الماضي عندما توجه إلى ريو دي جانيرو قرر تقديم تشكيلته لعام 2017 في متحف نيتروي للفنون المعاصرة، الذي صممه المعماري البرازيلي أوسكار نيماير.
اختياره لمتحف «ميهو» هذه المرة جاء تتويجا لهذا العشق، ولا سيما أنه يضم أعمالا فنية مهمة تجمع الماضي بالحاضر، كما تربط اليابان بالعالم، وهذا بحد ذاته أمر يثير أي مبدع. طبيعته الخلابة وبُعده عن زحمة المدينة يجعلانه أيضا كنزا لم يسمع به سوى المتذوقين للفن. فهو معلّق بين جبلين وتكاد الأشجار الخضراء الوارفة أن تغطيه تماما. فقط عند الاقتراب منه عبر نفق وجسر، تواجهك بوابته الضخمة وأسقفه الزجاجية التي صُممت بنية ألا تحجب عنه أشعة الشمس والضوء الطبيعي.
يوم الأحد الماضي كسرت «لويس فويتون» سكينته باستضافتها مئات الشخصيات من كل أنحاء العالم، واستنفرت مدينة كيوتو وأماكنها المجاورة لخدمتهم. طبعا، كان الهدف من الدعوة استكشاف المكان والأزياء على حد سواء؛ إذ لا ننسى أهمية ما اقترحه غيسكيير لموسم أصبح يعتبر من أهم المواسم في خريطة الموضة العالمية من الناحية التجارية. فبحكم أنه يبقى في الأسواق فترة أطول، وبحكم أن تصاميمه تراعي كل البيئات والمواسم والمناسبات، فإنه يخاطب كل الأذواق، وبالتالي يحقق أعلى الأرباح مقارنة بالخطوط الأخرى. كل هذا أكدته التشكيلة التي قدمها غيسكيير للدار على سجاد أبيض مثل الثلج. تشكيلة أقل ما يقال عنها إنها تجارية فنية، لكل المواسم والمناسبات والأذواق. فحتى أزياء السهرة والمساء التي لم تكن الدار توليها أهمية كبيرة بالمقارنة مع أزياء النهار والإكسسوارات الجلدية، اكتسبت هنا جمالية ستُدخلها مناسبات السجاد الأحمر بسهولة. كان الطبق غنيا ومشكلا لم يستثن فيه المصممة ولا امرأة، سواء كانت تعيش في الولايات المتحدة الأميركية أو في الشرق الأوسط أو الأقصى أو سيبيريا. من المعاطف المصنوعة من الصوف والجلود إلى التصاميم الـ«سبور» والفساتين المنسابة كان الإيقاع شبابيا وديناميكيا. ولم ينس المصمم أن يقدم مجموعة استعرض فيها عضلاته في التفصيل العصري، مثل مجموعة من الجواكت بياقات مستوحاة من التوكسيدو، بينما جاءت أكمامها منفوخة بعض الشيء وأحجامها واسعة. وبما أن المصمم عاشق للمعمار، فإن الأشكال الهندسية ظهرت في بعض التفاصيل، مثل أكمام فستان قصير من الجلد جاءت مقببة وعالية لتُرز من تحتها جزء آخر مرصع بدوائر معدنية صغيرة. هذا التنوع في التصاميم والأقمشة لم يضاهه سوى تنوع الألوان والطبعات، التي ربما تكون أكثر ما يُشير إلى التأثير الياباني في هذه التشكيلة، وهي طبعات ظهرت على شكل رسمات تنانين مثلا، إلى جانب أحزمة تستحضر الكيمونو.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)