مثقفو فرنسا يفقدون سطوتهم التاريخية في عاصمة الأنوار

يكاد يتفق كل المراقبين السياسيين على أن الحراك الاجتماعي الذي رافق الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة الأخيرة انتهى إلى تغيّرات حاسمة في بنية الحياة السياسيّة في البلاد على نحو لم يسبق له مثيل أقلّه منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، بعد تولي الجنرال ديغول السلطة وتوسيع صلاحيّات الرئيس مدشناً في ذلك ما يعرف بمرحلة الجمهوريّة الخامسة في التاريخ الفرنسي المعاصر.
لقد بدا واضحاً أن الشعب الفرنسي على مختلف أطيافه قد ضاق ذرعاً برجال الظّل التقليديين: أي السياسيين الفرنسيين المحترفين بأحزابهم التقليديّة القديمة وصراعاتهم ومؤامراتهم التي لا تنتهي في الغرف الخلفيّة (كما في المسلسل الفرنسي الشهير رجال الظّل) لمصلحة صعود رئيس غير حزبي، ذي آيديولوجيّة ملتبسة، ظهر في سماء السياسة الفرنسيّة منذ ما يقارب العام فحسب، تواجهه معارضة تقودها شخصيّة رصيدها تراكم شعبويات مبني على تراث حكومة فيشي العميلة للاحتلال، وانقلابيي حرب الجزائر.
لكن كبار السياسيين الفرنسيين المحترفين لم يسقطوا وحدهم في هذا الزلزال الكبير. فمعهم سقط أيضاً ملمح هام من ملامح الحياة الفرنسيّة رافقها منذ ما قبل قيام الجمهوريّة الأولى إبان الثورة الفرنسيّة: ذلك الصوت العالي لنجوم الثقافة والفكر الفرنسيين في الشأن العام. إذ بدا من هيمنة الأصوات الباهتة للمحللين اليمينين المتطرفين، وإعلاميي النيوليبرالية الأشبه بالببغاوات أنّه لا أحد في فرنسا يستمع اليوم لما يقوله المثقفون، وإن هؤلاء انسحبوا للتنظير والتفكير في الظلّ، في جامعاتهم ومراكزهم المتخصصة دون أن يكون لهم صدى في كل ما يحدث.
«هذه ليست فرنسا جان بول سارتر، ونحن لم نعد في موقع القيادة الفكريّة للبلاد» يعلّق أحد أساتذة الفلسفة الفرنسيين على ذلك الغياب لقادة الفكر من الشأن العام. كان سارتر ذلك الفيلسوف اليساري الطاغي الشهرة في الشوارع على رأس تلامذة باريس المتظاهرين عام 1968. وحتى عندما اعتقل بتهمة العصيان المدني سارع الجنرال تشارلز ديغول رئيس فرنسا حينها إلى العفو عنه وإطلاق سراحه قائلاً لرجاله: «فرنسا لا يمكنها أن تعتقل فولتير».
كان موقف الجنرال ديغول حينها أفضل تعبير عن حقيقة أن فرنسا دائماً تميزت عن غيرها من أمم أوروبا بتراث مستمر من تأثير مثقفيها الكبار على مسار الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة فيها وتصديهم لقيادة الحركات الشعبيّة والتيارات الفكريّة - غالباً على يسار السلطة الحاكمة - مدافعين عن الفقراء والعمال والمهمشين وحتى عن ضحايا الكولونياليّة الفرنسيّة، من جيل فولتير الناقد اللاذع لمؤسسات النخبة والمنافح الصريح عن الإصلاح الاجتماعي، وجان جاك روسو الذي شكلت أفكاره عن العقد الاجتماعي المزاج الذي أنتج الثورة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر ولاحقاً الثورة الأميركيّة، مرورا بفيكتور هوغو صوت البؤساء والمهمشين في القرن التاسع عشر، إلى إميل زولا الروائي والصحافي الذي واجه أعلى مستويات السلطة عندما تآكلتها العنصريّة في قضيّة الضابط اليهودي دريفوس على مشارف القرن العشرين فكتب مقالته المشهورة «إنّي أتّهم..» التي تسببت بالحكم عليه بالسجن ومن ثم الهرب إلى منفى اختياري في لندن، مروراً ببيير بورديو عالم الاجتماع المناضل الذي قضى جزءا من حياته يقود إضرابات عمال السكك الحديدية وجان بول سارتر الفيلسوف الذي انخرط بنفسه في المقاومة الفرنسيّة وكان صوتاً لقضايا اليسار العالمي في قلب باريس، وألبير كامو الذي كان مصدر إلهام جيل الستينات الغاضب، وميشيل فوكو الذي غيّر طبيعة النقاش العام في فرنسا عن إصلاح نظام السجون والمعاقبة، وجان بودريارد الذي كان دليل الفرنسي العادي لكشف زيف الأمركة ومتاهة الاستهلاك الرأسمالي. وحتى في بدايات القرن الحادي والعشرين بقيت هذه المكانة الخاصة للمثقفين الفرنسيين في التأثير على الحدث، فكان الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي يعتمد على مشورة فيلسوف اليمين الجديد بيرنارد هنري - ليفي عندما قرر المشاركة في إسقاط حكم العقيد معمر القذافي في 2011.
يفسّر المعنيّون بالشأن الفرنسي هذا التحوّل كجزء من موجة الارتداد نحو اليمين التي تعم المزاج الغربي كلّه وتسببت في انعكاسات كبرى على توجهات الناخبين كما في البريكست البريطاني، وانتخاب ترمب في الولايات المتحدة، والتقدّم غير المسبوق لليمين المتطرف في غير ما بلد أوروبي بما فيها فرنسا ذاتها بالطبع التي حصلت فيها مرشحة الجبهة الوطنية على أصوات ثلث الفرنسيين.
هذه الموجة لم تبدأ من اللاشيء بالتأكيد، إذ إن مناخ الاكتئاب الحاد (كما يصفها المفكر الإيطالي الذي يكتب بالفرنسيّة إنزو ترافيرزو) الذي أصاب مثقفي اليسار بعد تراكم انكسارات التجارب الاشتراكيّة حول العالم في الثمانينات أدى إلى انزوائهم وانصراف الكتل الشعبيّة عنهم إلى منظري اليمين الذين نقلوا موضوع الصراع الاجتماعي من الانقسام الأفقي بين الطبقات إلى انقسامات عموديّة حول الهجرة والهويات القوميّة والدينيّة. ولا شك أن خيبة أمل الناخبين الكبيرة بحكم الاشتراكيين خلال السنوات الأخيرة قبل انتخاب الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي لم تساعد الفرنسيين كثيراً على تجنب السقوط في شباك عنكبوت اليمين القومي الشوفيني.
إن نظرة سريعة على قوائم الكتب الفرنسيّة الأكثر مبيعاً تعطي صورة واضحة عن ذلك. ففي نطاق الكتب غير الأدبيّة كانت صدارة المبيعات لأعمال مثل الآن فينكيلكروت (الهوية غير السعيدة) الذي يجادل بأن فرنسا تستسلم للإسلاميين بحجة التسامح والليبرالية المعتقد، وإريك زيمور (فرنسا التي تنتحر) الذي يرى أن فرنسا فقدت هويتها ويدعو إلى العودة إلى عصر ذهبي ماض. وحتى في مجال الروايات فإن كتاباً مثل ميشيل هويلبيك تتصدر أعمالهم واجهات المكتبات في باريس لا سيما روايته (الاستسلام) والتي يتنبأ فيها بفوز رئيس مسلم بمنصب الرئاسة الفرنسيّة عام 2022 وكان موضوع نقاش واسع في الشارع الفرنسي. وعلى نطاق موازٍ. تسببت هيمنة وسائل الإعلام النيوليبراليّة الطابع على فضاء التعبير الجماهيري في إعطاء مثل هذه الأعمال هالة واسعة أو أنها أفردت مساحاتها المطبوعة والمصورة لتقديم نقاشات عديمة المعنى لإعلاميين من الدرجة الثانية، دون منح فرصة حقيقيّة لرأي مخالف بالوصول إلى النقاش العام، فالبروبغاندا - على النسق الأميركي الذي أبدعته شركات الدعاية والإعلان الحديثة - هي سيّدة الموقف اليوم في عاصمة الأنوار. ويبدو أنه سينتج عن ذلك نوع من قطيعة متزايدة - ستستمر بعضاً من الوقت - بين مفكري فرنسا الحقيقيين والكتل الشعبيّة الفرنسيّة، لا سيما خارج نطاقات العاصمة والمدن الكبرى والجامعات.
بالتأكيد لا يزال هناك مفكرون وفلاسفة في فرنسا، لكنّهم فقدوا فيما يبدو موقعهم كقادة أخلاقيين لهذه الأمة، وتلك حتماً خسارة شخصيّة لكل واحد منهم. لكن الخاسر الأكبر من وراء انتصار الهراء على الفكر هو الأمة الفرنسيّة بأكملها بما فيها نخبتها المهيمنة ذاتها، التي ستجد نفسها في مستقبل قريب تدير جمهوريّة غي بلا ضمير حي يردعها.