مخاطر عمل تواجه الصحافيين في المكسيك

تعهدات حكومية بحمايتهم بعد سقوط عدد كبير منهم

جنازة جماعية تجسد حالة العنف التي تتعرض لها المكسيك وسط أعمال القتل من قبل الجريمة المنظمة (أ.ف.ب)
جنازة جماعية تجسد حالة العنف التي تتعرض لها المكسيك وسط أعمال القتل من قبل الجريمة المنظمة (أ.ف.ب)
TT

مخاطر عمل تواجه الصحافيين في المكسيك

جنازة جماعية تجسد حالة العنف التي تتعرض لها المكسيك وسط أعمال القتل من قبل الجريمة المنظمة (أ.ف.ب)
جنازة جماعية تجسد حالة العنف التي تتعرض لها المكسيك وسط أعمال القتل من قبل الجريمة المنظمة (أ.ف.ب)

«خوان الماسان» مواطن مكسيكي كان يعمل صحافياً لنحو 30 عاماً. وكانت الصحافة هي حياته وشغفه الأول، ولكنه أصبح يشعر بالخوف في كل يوم. فبعد اختطافه قبل عامين بواسطة إحدى عصابات المخدرات التي تسيطر على أغلب مناحي مسقط رأسه، يقول الماسان إنها كانت أطول 10 دقائق مرت عليه في حياته، وكان يظن أنه سيقتل.
وكما اتضح بعد ذلك، أرادت عصابة المخدرات أن ترسل له ولصحيفته رسالة. ويتذكر الماسان ذلك بقوله: «كلما غطيت وجهي، زادوا في ضربي. وكانت الرسالة واضحة: كل من يعارض العصابة، فسوف تكون العاقبة كذلك؛ لقد كانت معجزة أنهم لم يقتلوني».
يفضل الماسان عدم ذكر المزيد من التفاصيل حول الحادثة. وبعد هذا الموقف، انتقل برفقة عائلته إلى منطقة أخرى في المكسيك، باحثين عن فرص جديدة، وسط خوف مستمر.
ومع ذلك، تزداد حياه الماسان سوءا بسبب أن مهمته الآن أصبحت إعلام الناس حول الحرب المريعة التي تدور بين عصابات المخدرات في ولاية تاماوليباس، وهي منطقة منعزلة في شمال شرقي المكسيك على الحدود المشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية. وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى وقوع المواجهات الثأرية اليومية بين عصابات المخدرات، وهي من المواقع الاستراتيجية لمهربي المخدرات عبر الحدود. وكل عصابة منهم تريد أن تصبح المسيطرة على المنطقة، والسبيل الوحيد للسيطرة لا يكون إلا عن طريق الرعب والإرهاب.
والآن، يكتب الماسان المقالات لصالح إحدى الصحف المحلية الصغيرة، وهو يشعر بالضيق الشديد لاحتمال تعرضه للقتل لمجرد أنه صحافي. ولأجل هذه المقابلة الشخصية، طلب تغيير اسمه الحقيقي لتفادي مخاطر تحديد هويته الحقيقية، وهو يعاني من الضغوط الشديدة في كل يوم، ولكنه في الوقت نفسه يعلم أنه يقوم بعمل بطولي كبير، ويوضح ذلك قائلاً: «في تاماوليباس، سيطرت عصابات الجريمة المنظمة بصورة تدريجية على ما تنشره وسائل الإعلام، حتى أنها أصبحت تتخذ القرار فيما يمكن أو لا يمكن نشره. لدرجة أن الحوادث المرورية البسيطة لا بد أن تمر عليهم أولاً من خلال المكالمات الهاتفية أو الرسائل النصية المباشرة من وسطائهم في تلك الصحف، المعروفين باسم (الروابط)».
ومما يؤسف له أن الأوضاع في المكسيك تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حيث تؤكد لجنة حماية الصحافيين على مخاطر العمل الصحافي في هذا البلد، لا سيما في المناطق التي تشتهر بعصابات تهريب المخدرات، مثل ولايات فيراكروز وغيريرو وتاماوليباس الحدودية. ولقد طالبت اللجنة السلطات المكسيكية والنظام القضائي في البلاد بوضع حد لإفلات أفراد العصابات الإجرامية من العقاب، والتحقيق في جرائم القتل التي لم تُغلق ملفاتها بعد. وذلك لأن هنا، يمكن لأي شخص يعمل بالصحافة أن يكون عقابه هو الموت.
وتقول التقارير الإعلامية الأخيرة حول وضع الصحافيين في المكسيك إن الصحافة هناك تتعرض لدورة مهلكة من العنف، والإفلات من العقاب، مع تعرض الصحافيين في ولاية فيراكروز على وجه الخصوص لمخاطر جمة من الاختطاف والقتل. وعلى الرغم من أن السلطات قد عينت مدعياً خاصاً للتحقيق في الجرائم المرتكبة ضد حرية التعبير، ووضع آلية لحماية الصحافيين، فإن الافتقار إلى الإرادة السياسية المطلوبة لوقف حالات الإفلات من العقاب، يجعل من المكسيك واحدة من أكثر مناطق العالم خطورة بالنسبة لعمل الصحافيين.
وفي الفترة بين عامي 2010 و2016، في ولاية فيراكروز، تعرض ما لا يقل عن 6 صحافيين للقتل بسبب عملهم، وسقط 11 آخرون دون معرفة السبب الحقيقي لوفاتهم، كما أن هناك 3 صحافيين آخرين في عداد المفقودين.
وحول من هم المسؤولون عن التهديدات التي يتعرض لها الصحافيون، يقول الصحافي الماسان بكل يقين إن الجريمة المنظمة هي مَن يقف وراء كل ما يحدث؛ حتى المنشورات الرسمية يتم حذفها من النشر المحلي بسبب الخوف من بطش وانتقام العصابات. وأضاف أن الأمر لا يتعلق بعصابات تهريب المخدرات فحسب، ولكن بعصابات الجريمة المنظمة بوجه عام، التي تسيطر على كثير من الأنشطة الإجرامية، بما في ذلك تهريب المخدرات والخطف والاتجار في البشر وغسل الأموال. إنه تنظيم كامل تحت قيادة موحدة.
ويمكن اعتبار حالة المكسيك مختلفة، إذ إن السلطات لا تحمي ممارسات الصحافة الحرة، حيث يُنظر إلى الصحافيين وكأنهم مجرمون وليس هناك احترام لحياتهم أو عملهم. وتظل القضايا المرفوعة في الجرائم ضد الصحافيين من دون تسوية قضائية، مما يبعث بإحساس من الطمأنينة لكل من يهدد أن يقتل الصحافيين بسبب علمهم أنهم لن يواجهوا السجن جراء الجرائم التي يرتكبونها.



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».