المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
TT

المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)

في مثل هذا التوقيت منذ خمسين عاما، وتحديدا في صيف عام 1967 صدرت عن الكرسي الرسولي في حاضرة الفاتيكان وثيقة تسمى «ترقي الشعوب»populorum progressio واعتمدها البابا بولس السادس. ولعل ما يدعونا لإعادة قراءة هذه الوثيقة في هذا التوقيت، هو أن ما جاء بها لو انتبه إليه أصحاب القرار وصناع الأفكار حول العالم في ذلك الوقت، لربما كانت الفرصة قد تجاوزت أفكار الإرهاب والأصولية التي يعانيها عالمنا المعاصر، والتي هي نتاج بصورة جذرية في جانب كبير منها لمسائل اجتماعية تم تجاوزها، وبات على شعوب العالم دفع أكلاف إصلاحها وهي عالية وغالية جدا لو يعلمون.

ضرب من الضروب التي دعت الإرهاب لأن يجد له مسارب إلى النفوس يتصل اتصالا حقيقيا بغياب العدالة الاجتماعية لا سيما لدى الشعوب التي تجهد للتملص من براثن الجوع والبؤس, وسطوة الأمراض السارية، وتنشد المزيد من الاشتراك في الحضارة, وتقيما أوفر إيجابية لصفاتها الإنسانية.
وقت كتابة هذه الوثيقة لم تكن قضية الإرهاب تشغل تفكير العالم، بل الحرب الباردة الدائرة بين المعسكرين الشرقي والغربي, والتي كانت في أوج احتدامها، ومع ذلك يجد من يطالع الوثيقة أن أسباب نشوء وارتقاء الأصولية التي تقود للعنف القاتل كامنة في سطورها.
ينشأ الإرهاب من تجريد الإنسان من كثير من صفاته الإنسانية، الأمر الذي يدفعه دفعا إلى دائرة الانتقام الفتاك، سيما أن المعادل الموضوعي للحياة عنده يضحى الموت, ولهذا ترى الوثيقة أن ما يطمح إليه الناس في يومنا هذا هو أن يتحرروا من ربقة البؤس, ويحصلوا بوجه أضمن على أسباب المعيشة والصحة والعمل المستقر, وأن يصيبوا من العلم نصيبا أكبر.
تختصر الوثيقة هذه الجزئية في القول: إن البشر كافة مدعوون لأن يعملوا أكثر ويعرفوا أكثر ويملكوا أكثر، كي يكونوا أكثر إنسانية.
يتسرب الإرهاب إلى النفوس، عندما تجد شعوب بأكملها وطغمات من الشباب بعينها، أنه محكوم عليها بالحياة في أوضاع تحيل هذه المطامح سرابا، هكذا تقول سطور الوثيقة، وبخاصة عند الشعوب الحديثة العهد بالاستقلال القومي، والتي تشعر إلى جانب هذه الحرية السياسية المكتسبة بأهمية الاقتصاد، لكي تكفل لمواطنيها تفتحهم الإنساني الكامل فيعيشون ضمن شعوب الأرض في الموقع والموضع الذي يمثلهم.
يعن لنا هنا أن نتساءل... إلى أي حدود كان الظلم الاجتماعي لدول العالم الثالث مدعاة لظهور الأصوليات واشتداد عود الإرهاب؟
قطعا أن تلك الشعوب التي تحدثنا عنها الوثيقة، لم تجد لحياتها معنى في ظل الاحتلال العسكري بداية، والرأسمالي الاقتصادي تاليا، ولهذا هربت إلى الماضي السحيق تستجير به، من ظلم الواقع, وفيما البعض منها قبل بالانكسار النفسي والأدبي تحت الضغوط، فإن آخرين اتخذوا العنف المسلح طريقا تتساوى فيه أسباب الحياة مع دوافع الموت، وكان الإرهاب بثوبه الأسود الذي يخيم على عالمنا اليوم.
الرؤية التفكيكية لوثيقة «ترقي الشعوب» تفاجئنا بأنه كانت هناك مصارحة ومكاشفة فاتيكانية للعالم قبل نحو خمسة عقود، بشأن الدور الذي لعبه الاستعمار والدول المستعمرة في مسيرة الشعوب التي تتهم اليوم من قبل الحواضر الغربية بأنها: «معين مورد للإرهاب».
تقر الوثيقة بأن الدول المستعمرة كان مطلبها في الغالب مصلحتها وسيادتها وعظمتها، وقد كان ذهابها دفعة واحدة قد خلق وراءه أحيانا وضعا اقتصاديا سريع العطب هذا الوضع لا نغالي إن قلنا إنه خلق أوضاعا مزرية من الفقر المادي، ومن الكراهية للآخر.
هنا فإن المستعمر تحديدا أعطى للعنف والإرهاب وروح الانتقام ذرائع تكاد تكون نبيلة في عيون أصحابها، ولعل هذا ما نراه في أوروبا اليوم بنوع خاص، من أبناء القارة الأفريقية، أو بعض من الأجيال الجديدة لمواطني دول شمال غربي أفريقيا، أي دول المغرب العربي تحديدا، ما يفسر بدرجة أو بأخرى, مسارات الإرهاب في فرنسا أو بلجيكا وإن كان لا يبرره بحال من الأحوال.
على أن البعض يرد بأن هناك إرهابا وعنفا متوالدا لدى أجيال أو شعوب لا تعيش أزمات اقتصادية أو تعاني فاقة الجوع أو تكابد شظف العيش، وهي مقولات حديثة، ومن المثير أن الوثيقة تنبهت لهذا المشهد مبكرا جدا، ولهذا أشارت إلى أن مسألة الترقي لا تخص مجرد النمو الاقتصادي، فلكي يكون صحيحا يجب أن يكون كاملا، أي أن يشمل كل إنسان، والإنسان كله، والمعنى هنا هو أنه لا تسليم بالفصل بين الاقتصادي والإنساني، ولا بين النماء والحضارات، فهو من شروطها فالذي تحتفل به الوثيقة ومن وراءها هو الإنسان، كل إنسان وكل جماعة من الناس، إلى الإنسانية كلها جمعاء.
يعني ما تقدم أن الوفرة الاقتصادية لدى البعض، قد واكبها قصور شديد في البناء الروحي والاجتماعي, الثقافي والفكري، ولهذا ظهر العنف وطفا الإرهاب على السطح كتوابع لا مناص منها لاختلالات هيكلية في البنية الإنسانية.
قبل نحو خمسين عاما, تناولت الوثيقة إشكالية الرأسمالية التي أضحت متوحشة، والتي دمرت سلم القيم الإنسانية، وفتحت الأبواب واسعة لدعوات الإقصاء والعزل، الإبعاد والأنانية، وهذه بدورها كانت مرتعا لكل من آمن بأن العودة إلى الأصول، هي الطريق الأصوب لملاقاة غوائل المستقبل، ثم من الراديكالية التي أعادت تجذير حضورها، ليشتعل العالم نارا ودمارا من جديد.
في هذا الإطار كان بولس السادس الحبر الروماني الأعظم يرى أن النمو الفردي والجماعي يمسي في خطر إذا فسدت من القيم سلمها الحقيقي، فلا جرم أن ابتغاء ما هو ضروري أمر مشروع، وأن العمل على بلوغه أمر واجب لأن الذي لا يريد أن يعمل لا يأكل أيضا، إلا أن التكالب على متاع الدنيا قد يقود إلى الجشع، وإلى شهوة المزيد من القدرة, كما أن البخل في الأفراد والأسر يولد على الصعيد الآخر أنانية أخرى مستترة.
مثيرة جدا للمتأمل سطور الوثيقة، وكأنها كانت تقرأ مآلات العالم الحديث، والعالمين العربي والإسلامي بنوع خاص رسميا عندما تتناول إشكاليتي العنف والثورة... ماذا عن الأمر؟ أدرك كتاب «ترقي الشعوب» أن الظلم الاجتماعي لا بد أن يولد انفجارات لا قبل للبشرية بها, ولا طائل من ورائها، إذا ما باتت الملايين من البشر في أوضاع الألم والمرض والجوع والخوف والفقر، ولاحظ هنا كيف أن البون بين تقدم البعض وركود البعض الآخر بل تقهقرهم، في تزايد مستمر.
وفي هذا الإطار يظهر العنف أولا والثورات تشيع ثانية... أما العنف، الدالة والتابع والأداة المفضلة للإرهاب فيحدث بسبب الأوضاع التي يصرخ جورها في أذن السماء وعندما تكون شعوب بأكملها خالية الوفاض من كل مبادرة ومسؤولية، ومن كل إمكانية ترقٍ ثقافي واشتراك في الحياة الاجتماعية والسياسية فإن خطر الانزلاق في العنف يضحى الرد الطبيعي أمام مثل هذه الغضاضة اللاحقة بالكرامة الإنسانية, يكون كبيراً...
هل تلقى هذه الكلمات صدى لا سيما تجاه العنف الحادث في أوروبا بنوع خاص، أو فيما خص الحوادث الإرهابية الكبرى التي جرت بها المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على وجه العموم؟
فيما الثورة أو الثورات، وحالات العصيان الثوري - إلا في حال الطغيان الراهن المتمادي، الذي يسيء إلى حقوق الشخص الأساسية إساءة خطيرة، وتنجم عنه أضرار خطيرة للبلاد - فإنها تجر معها مظالم جديدة، وتدخل أنواعاً جديدة من عدم التوازن، وتراكم الخراب فوق الخراب، ذلك أنه لا يجوز قمع الشر الراهن بما يؤول إلى شر أقدح.
المنطوق السابق يجعلنا نتأمل حال العالم العربي في السنوات الست الماضية، والتي أعقبت ما أطلق عليه «الربيع العربي»، فقد عاشت بلادنا ثورات تاريخية، لا ثورات ديمقراطية، والتوصيف هنا لثعلب السياسة الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، فالأولى لا تجر إلا الخراب ولا ينتج عنها إلا المزيد من العنف، وتوالي تفريخ المتطرفين وأصحاب الطرق غير السلمية، الذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة، فيما الثورات الديمقراطية فهي التي تعطي نتائج إيجابية تنعكس برداً وسلاماً على مواطني بلدانها حول العالم.
الوثيقة رغم مضي عشرات السنين عليها، لم تقف مكتوفة الأيدي عند تشخيص الأمراض الاجتماعية، بل ذهبت في طريق الإصلاح، ولهذا ارتأت وقتها - وكم بات البون شاسعاً والعلاج مكلفاً اليوم - أن الأوضاع الحاضرة يجب أن تواجه بجرأة، والمظالم التي تصحبها يجب أن تقاوم وأن تقهر، فالترقي يقتضي تحولات جريئة، وأن من الإصلاحات العاجلة ما يجب الشروع به من دون أدنى تأخير وعلى كل إنسان إذن أن يقوم بقسطه بسخاء، ولا سيما الذين، بثقافتهم ومكانتهم وسلطانهم تتوافر لهم إمكانيات كبيرة للعمل، ليكونوا مثالاً ببذلهم مما لهم.
لكن «ترقي الشعوب» وإغلاق مياذيب الكراهية، وسد متاريس الإرهاب، وإنهاء زمن الأصوليات، جميعها أمور في حاجة ماسة لتخطيط ومنهج، ومن هنا فإنه لا قبل للمبادرة الفردية وحدها - تنص الوثيقة - ولا لعبة المنافسة وحدها بأن تكفلا نجاح الرقي. ولا ينبغي التعرض لخطر المزيد من ثراء الأثرياء وقوة الأقوياء بتكريس بؤس الفقراء، وتمكين عبودية المرهقين.
من أجل ذلك لا بد من مناهج من شأنها أن «تشجع وتحفز، وتعاطف وتسند وتكمل»، عمل الأفراد والهيئات المتوسطة، وعلى السلطات العامة أن تختار، بل أن تفرض، الأغراض التي يجب استهدافها، والغايات التي يجب بلوغها، والوسائل التي توصل إليها.
أفضل طريق لمحاربة العنف والإرهاب اليوم، بخلاف الحلول الأمنية والعسكرية التي أثبتت التجربة التاريخية أنها قصيرة العمر، وضعتها الوثيقة، من خلال التأكيد على أن لا معنى للمزيد من الإنتاج إلا إذا كان في خدمة الإنسان، مهما كان لونه أو دينه، جنسه أو عرقه.
والغاية هنا من الإنتاج تضييق دائرة التفاوت، ومكافحة ضروب التمييز، وعتق الإنسان من عبوديات الأزمنة المعاصرة، وتمكينه من أن يكون هو نفسه العامل المسؤول عن تحسن حاله ماديا وعن ترقيه أدبياً وعن تفتحه روحياً.
أفضل بل وأنفع الطرق لمواجهة دعاوى العنصرية والكراهية، والإرهاب والأصولية، هي النماء، وعليه فإن من قال بالنماء قال بالاهتمام بالتقدم الاجتماعي، بقدر الاهتمام بالتقدم الاقتصادي، أي الاهتمام بالإنسان بوصفه جسدا وروحا وليس جسدا فقط، إذ لا يكفي أن تزيد الثروة العامة حتى تتوزع بإنصاف، ولا يكفي أن تعزز التقنية حتى تكون الأرض أكثر إنسانية للسكنى.
يمكن للمرء أن يستخلص الكثير جداً، النافع والمفيد من هذه الوثيقة التي يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها، لا سيما في سياق الاستعانة بها لمجابهة طاعون عصرنا الحاضر، غير أن أفضل خلاصاتها، تتمثل في القول بأن أخطاء السلف يجب أن تحذر المحدثين من الوقوع في الأخطار التي يجب اجتنابها في هذا المجال.
ذلك بأن «تكنوقراطية» الغد قد تجر من الويلات ما لا يقل هولاً عن «ليبرالية» الأمس، والاقتصاد والتقنية لا معنى لهما إلا بالإنسان اللذين هما في خدمته، والإنسان لا يكون إنساناً حقاً إلا بمقدار ما يكون هو سيد أعماله، والحكم في قيمتها، إذ ذاك هو نفسه عامل تقدمه، وفقاً للطبيعة التي أعطاها الخالق له، ويظل هو حراً بإمكاناتها ومستلزماتها.
أفضل كلمات نختتم بها هذا العرض المختصر للغاية لهذه الوثيقة التاريخية، وفيها الخلاص من كثير من أدران العنف والإرهاب القول بأن ترقي الإنسانية الكامل، الذي يتجاوز الوحشية التي رأيناها في الأعوام القليلة الماضية، لا يمكن أن يتم من دون تضافر الإنسانية عليه...
في بومباي أوائل ستينات القرن العشرين. تحدث البابا بولس بالقول: «على الإنسان أن يلتقي بالإنسان، وعلى الأمم أن تتلاقى كالإخوة والأخوات وكأبناء لله، ففي هذا التفاهم والولاء المتبادلين وفي هذه الشركة المقدسة، يجب إذن أن نبدأ بالعمل معاً، لكي نبني مستقبل البشرية المشترك»... مستقبل لا مكان فيه حكماً للكراهية ولا الإرهاب أو الأصوليات السلبية.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».