المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
TT

المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)

في مثل هذا التوقيت منذ خمسين عاما، وتحديدا في صيف عام 1967 صدرت عن الكرسي الرسولي في حاضرة الفاتيكان وثيقة تسمى «ترقي الشعوب»populorum progressio واعتمدها البابا بولس السادس. ولعل ما يدعونا لإعادة قراءة هذه الوثيقة في هذا التوقيت، هو أن ما جاء بها لو انتبه إليه أصحاب القرار وصناع الأفكار حول العالم في ذلك الوقت، لربما كانت الفرصة قد تجاوزت أفكار الإرهاب والأصولية التي يعانيها عالمنا المعاصر، والتي هي نتاج بصورة جذرية في جانب كبير منها لمسائل اجتماعية تم تجاوزها، وبات على شعوب العالم دفع أكلاف إصلاحها وهي عالية وغالية جدا لو يعلمون.

ضرب من الضروب التي دعت الإرهاب لأن يجد له مسارب إلى النفوس يتصل اتصالا حقيقيا بغياب العدالة الاجتماعية لا سيما لدى الشعوب التي تجهد للتملص من براثن الجوع والبؤس, وسطوة الأمراض السارية، وتنشد المزيد من الاشتراك في الحضارة, وتقيما أوفر إيجابية لصفاتها الإنسانية.
وقت كتابة هذه الوثيقة لم تكن قضية الإرهاب تشغل تفكير العالم، بل الحرب الباردة الدائرة بين المعسكرين الشرقي والغربي, والتي كانت في أوج احتدامها، ومع ذلك يجد من يطالع الوثيقة أن أسباب نشوء وارتقاء الأصولية التي تقود للعنف القاتل كامنة في سطورها.
ينشأ الإرهاب من تجريد الإنسان من كثير من صفاته الإنسانية، الأمر الذي يدفعه دفعا إلى دائرة الانتقام الفتاك، سيما أن المعادل الموضوعي للحياة عنده يضحى الموت, ولهذا ترى الوثيقة أن ما يطمح إليه الناس في يومنا هذا هو أن يتحرروا من ربقة البؤس, ويحصلوا بوجه أضمن على أسباب المعيشة والصحة والعمل المستقر, وأن يصيبوا من العلم نصيبا أكبر.
تختصر الوثيقة هذه الجزئية في القول: إن البشر كافة مدعوون لأن يعملوا أكثر ويعرفوا أكثر ويملكوا أكثر، كي يكونوا أكثر إنسانية.
يتسرب الإرهاب إلى النفوس، عندما تجد شعوب بأكملها وطغمات من الشباب بعينها، أنه محكوم عليها بالحياة في أوضاع تحيل هذه المطامح سرابا، هكذا تقول سطور الوثيقة، وبخاصة عند الشعوب الحديثة العهد بالاستقلال القومي، والتي تشعر إلى جانب هذه الحرية السياسية المكتسبة بأهمية الاقتصاد، لكي تكفل لمواطنيها تفتحهم الإنساني الكامل فيعيشون ضمن شعوب الأرض في الموقع والموضع الذي يمثلهم.
يعن لنا هنا أن نتساءل... إلى أي حدود كان الظلم الاجتماعي لدول العالم الثالث مدعاة لظهور الأصوليات واشتداد عود الإرهاب؟
قطعا أن تلك الشعوب التي تحدثنا عنها الوثيقة، لم تجد لحياتها معنى في ظل الاحتلال العسكري بداية، والرأسمالي الاقتصادي تاليا، ولهذا هربت إلى الماضي السحيق تستجير به، من ظلم الواقع, وفيما البعض منها قبل بالانكسار النفسي والأدبي تحت الضغوط، فإن آخرين اتخذوا العنف المسلح طريقا تتساوى فيه أسباب الحياة مع دوافع الموت، وكان الإرهاب بثوبه الأسود الذي يخيم على عالمنا اليوم.
الرؤية التفكيكية لوثيقة «ترقي الشعوب» تفاجئنا بأنه كانت هناك مصارحة ومكاشفة فاتيكانية للعالم قبل نحو خمسة عقود، بشأن الدور الذي لعبه الاستعمار والدول المستعمرة في مسيرة الشعوب التي تتهم اليوم من قبل الحواضر الغربية بأنها: «معين مورد للإرهاب».
تقر الوثيقة بأن الدول المستعمرة كان مطلبها في الغالب مصلحتها وسيادتها وعظمتها، وقد كان ذهابها دفعة واحدة قد خلق وراءه أحيانا وضعا اقتصاديا سريع العطب هذا الوضع لا نغالي إن قلنا إنه خلق أوضاعا مزرية من الفقر المادي، ومن الكراهية للآخر.
هنا فإن المستعمر تحديدا أعطى للعنف والإرهاب وروح الانتقام ذرائع تكاد تكون نبيلة في عيون أصحابها، ولعل هذا ما نراه في أوروبا اليوم بنوع خاص، من أبناء القارة الأفريقية، أو بعض من الأجيال الجديدة لمواطني دول شمال غربي أفريقيا، أي دول المغرب العربي تحديدا، ما يفسر بدرجة أو بأخرى, مسارات الإرهاب في فرنسا أو بلجيكا وإن كان لا يبرره بحال من الأحوال.
على أن البعض يرد بأن هناك إرهابا وعنفا متوالدا لدى أجيال أو شعوب لا تعيش أزمات اقتصادية أو تعاني فاقة الجوع أو تكابد شظف العيش، وهي مقولات حديثة، ومن المثير أن الوثيقة تنبهت لهذا المشهد مبكرا جدا، ولهذا أشارت إلى أن مسألة الترقي لا تخص مجرد النمو الاقتصادي، فلكي يكون صحيحا يجب أن يكون كاملا، أي أن يشمل كل إنسان، والإنسان كله، والمعنى هنا هو أنه لا تسليم بالفصل بين الاقتصادي والإنساني، ولا بين النماء والحضارات، فهو من شروطها فالذي تحتفل به الوثيقة ومن وراءها هو الإنسان، كل إنسان وكل جماعة من الناس، إلى الإنسانية كلها جمعاء.
يعني ما تقدم أن الوفرة الاقتصادية لدى البعض، قد واكبها قصور شديد في البناء الروحي والاجتماعي, الثقافي والفكري، ولهذا ظهر العنف وطفا الإرهاب على السطح كتوابع لا مناص منها لاختلالات هيكلية في البنية الإنسانية.
قبل نحو خمسين عاما, تناولت الوثيقة إشكالية الرأسمالية التي أضحت متوحشة، والتي دمرت سلم القيم الإنسانية، وفتحت الأبواب واسعة لدعوات الإقصاء والعزل، الإبعاد والأنانية، وهذه بدورها كانت مرتعا لكل من آمن بأن العودة إلى الأصول، هي الطريق الأصوب لملاقاة غوائل المستقبل، ثم من الراديكالية التي أعادت تجذير حضورها، ليشتعل العالم نارا ودمارا من جديد.
في هذا الإطار كان بولس السادس الحبر الروماني الأعظم يرى أن النمو الفردي والجماعي يمسي في خطر إذا فسدت من القيم سلمها الحقيقي، فلا جرم أن ابتغاء ما هو ضروري أمر مشروع، وأن العمل على بلوغه أمر واجب لأن الذي لا يريد أن يعمل لا يأكل أيضا، إلا أن التكالب على متاع الدنيا قد يقود إلى الجشع، وإلى شهوة المزيد من القدرة, كما أن البخل في الأفراد والأسر يولد على الصعيد الآخر أنانية أخرى مستترة.
مثيرة جدا للمتأمل سطور الوثيقة، وكأنها كانت تقرأ مآلات العالم الحديث، والعالمين العربي والإسلامي بنوع خاص رسميا عندما تتناول إشكاليتي العنف والثورة... ماذا عن الأمر؟ أدرك كتاب «ترقي الشعوب» أن الظلم الاجتماعي لا بد أن يولد انفجارات لا قبل للبشرية بها, ولا طائل من ورائها، إذا ما باتت الملايين من البشر في أوضاع الألم والمرض والجوع والخوف والفقر، ولاحظ هنا كيف أن البون بين تقدم البعض وركود البعض الآخر بل تقهقرهم، في تزايد مستمر.
وفي هذا الإطار يظهر العنف أولا والثورات تشيع ثانية... أما العنف، الدالة والتابع والأداة المفضلة للإرهاب فيحدث بسبب الأوضاع التي يصرخ جورها في أذن السماء وعندما تكون شعوب بأكملها خالية الوفاض من كل مبادرة ومسؤولية، ومن كل إمكانية ترقٍ ثقافي واشتراك في الحياة الاجتماعية والسياسية فإن خطر الانزلاق في العنف يضحى الرد الطبيعي أمام مثل هذه الغضاضة اللاحقة بالكرامة الإنسانية, يكون كبيراً...
هل تلقى هذه الكلمات صدى لا سيما تجاه العنف الحادث في أوروبا بنوع خاص، أو فيما خص الحوادث الإرهابية الكبرى التي جرت بها المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على وجه العموم؟
فيما الثورة أو الثورات، وحالات العصيان الثوري - إلا في حال الطغيان الراهن المتمادي، الذي يسيء إلى حقوق الشخص الأساسية إساءة خطيرة، وتنجم عنه أضرار خطيرة للبلاد - فإنها تجر معها مظالم جديدة، وتدخل أنواعاً جديدة من عدم التوازن، وتراكم الخراب فوق الخراب، ذلك أنه لا يجوز قمع الشر الراهن بما يؤول إلى شر أقدح.
المنطوق السابق يجعلنا نتأمل حال العالم العربي في السنوات الست الماضية، والتي أعقبت ما أطلق عليه «الربيع العربي»، فقد عاشت بلادنا ثورات تاريخية، لا ثورات ديمقراطية، والتوصيف هنا لثعلب السياسة الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، فالأولى لا تجر إلا الخراب ولا ينتج عنها إلا المزيد من العنف، وتوالي تفريخ المتطرفين وأصحاب الطرق غير السلمية، الذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة، فيما الثورات الديمقراطية فهي التي تعطي نتائج إيجابية تنعكس برداً وسلاماً على مواطني بلدانها حول العالم.
الوثيقة رغم مضي عشرات السنين عليها، لم تقف مكتوفة الأيدي عند تشخيص الأمراض الاجتماعية، بل ذهبت في طريق الإصلاح، ولهذا ارتأت وقتها - وكم بات البون شاسعاً والعلاج مكلفاً اليوم - أن الأوضاع الحاضرة يجب أن تواجه بجرأة، والمظالم التي تصحبها يجب أن تقاوم وأن تقهر، فالترقي يقتضي تحولات جريئة، وأن من الإصلاحات العاجلة ما يجب الشروع به من دون أدنى تأخير وعلى كل إنسان إذن أن يقوم بقسطه بسخاء، ولا سيما الذين، بثقافتهم ومكانتهم وسلطانهم تتوافر لهم إمكانيات كبيرة للعمل، ليكونوا مثالاً ببذلهم مما لهم.
لكن «ترقي الشعوب» وإغلاق مياذيب الكراهية، وسد متاريس الإرهاب، وإنهاء زمن الأصوليات، جميعها أمور في حاجة ماسة لتخطيط ومنهج، ومن هنا فإنه لا قبل للمبادرة الفردية وحدها - تنص الوثيقة - ولا لعبة المنافسة وحدها بأن تكفلا نجاح الرقي. ولا ينبغي التعرض لخطر المزيد من ثراء الأثرياء وقوة الأقوياء بتكريس بؤس الفقراء، وتمكين عبودية المرهقين.
من أجل ذلك لا بد من مناهج من شأنها أن «تشجع وتحفز، وتعاطف وتسند وتكمل»، عمل الأفراد والهيئات المتوسطة، وعلى السلطات العامة أن تختار، بل أن تفرض، الأغراض التي يجب استهدافها، والغايات التي يجب بلوغها، والوسائل التي توصل إليها.
أفضل طريق لمحاربة العنف والإرهاب اليوم، بخلاف الحلول الأمنية والعسكرية التي أثبتت التجربة التاريخية أنها قصيرة العمر، وضعتها الوثيقة، من خلال التأكيد على أن لا معنى للمزيد من الإنتاج إلا إذا كان في خدمة الإنسان، مهما كان لونه أو دينه، جنسه أو عرقه.
والغاية هنا من الإنتاج تضييق دائرة التفاوت، ومكافحة ضروب التمييز، وعتق الإنسان من عبوديات الأزمنة المعاصرة، وتمكينه من أن يكون هو نفسه العامل المسؤول عن تحسن حاله ماديا وعن ترقيه أدبياً وعن تفتحه روحياً.
أفضل بل وأنفع الطرق لمواجهة دعاوى العنصرية والكراهية، والإرهاب والأصولية، هي النماء، وعليه فإن من قال بالنماء قال بالاهتمام بالتقدم الاجتماعي، بقدر الاهتمام بالتقدم الاقتصادي، أي الاهتمام بالإنسان بوصفه جسدا وروحا وليس جسدا فقط، إذ لا يكفي أن تزيد الثروة العامة حتى تتوزع بإنصاف، ولا يكفي أن تعزز التقنية حتى تكون الأرض أكثر إنسانية للسكنى.
يمكن للمرء أن يستخلص الكثير جداً، النافع والمفيد من هذه الوثيقة التي يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها، لا سيما في سياق الاستعانة بها لمجابهة طاعون عصرنا الحاضر، غير أن أفضل خلاصاتها، تتمثل في القول بأن أخطاء السلف يجب أن تحذر المحدثين من الوقوع في الأخطار التي يجب اجتنابها في هذا المجال.
ذلك بأن «تكنوقراطية» الغد قد تجر من الويلات ما لا يقل هولاً عن «ليبرالية» الأمس، والاقتصاد والتقنية لا معنى لهما إلا بالإنسان اللذين هما في خدمته، والإنسان لا يكون إنساناً حقاً إلا بمقدار ما يكون هو سيد أعماله، والحكم في قيمتها، إذ ذاك هو نفسه عامل تقدمه، وفقاً للطبيعة التي أعطاها الخالق له، ويظل هو حراً بإمكاناتها ومستلزماتها.
أفضل كلمات نختتم بها هذا العرض المختصر للغاية لهذه الوثيقة التاريخية، وفيها الخلاص من كثير من أدران العنف والإرهاب القول بأن ترقي الإنسانية الكامل، الذي يتجاوز الوحشية التي رأيناها في الأعوام القليلة الماضية، لا يمكن أن يتم من دون تضافر الإنسانية عليه...
في بومباي أوائل ستينات القرن العشرين. تحدث البابا بولس بالقول: «على الإنسان أن يلتقي بالإنسان، وعلى الأمم أن تتلاقى كالإخوة والأخوات وكأبناء لله، ففي هذا التفاهم والولاء المتبادلين وفي هذه الشركة المقدسة، يجب إذن أن نبدأ بالعمل معاً، لكي نبني مستقبل البشرية المشترك»... مستقبل لا مكان فيه حكماً للكراهية ولا الإرهاب أو الأصوليات السلبية.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.