المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
TT

المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)

في مثل هذا التوقيت منذ خمسين عاما، وتحديدا في صيف عام 1967 صدرت عن الكرسي الرسولي في حاضرة الفاتيكان وثيقة تسمى «ترقي الشعوب»populorum progressio واعتمدها البابا بولس السادس. ولعل ما يدعونا لإعادة قراءة هذه الوثيقة في هذا التوقيت، هو أن ما جاء بها لو انتبه إليه أصحاب القرار وصناع الأفكار حول العالم في ذلك الوقت، لربما كانت الفرصة قد تجاوزت أفكار الإرهاب والأصولية التي يعانيها عالمنا المعاصر، والتي هي نتاج بصورة جذرية في جانب كبير منها لمسائل اجتماعية تم تجاوزها، وبات على شعوب العالم دفع أكلاف إصلاحها وهي عالية وغالية جدا لو يعلمون.

ضرب من الضروب التي دعت الإرهاب لأن يجد له مسارب إلى النفوس يتصل اتصالا حقيقيا بغياب العدالة الاجتماعية لا سيما لدى الشعوب التي تجهد للتملص من براثن الجوع والبؤس, وسطوة الأمراض السارية، وتنشد المزيد من الاشتراك في الحضارة, وتقيما أوفر إيجابية لصفاتها الإنسانية.
وقت كتابة هذه الوثيقة لم تكن قضية الإرهاب تشغل تفكير العالم، بل الحرب الباردة الدائرة بين المعسكرين الشرقي والغربي, والتي كانت في أوج احتدامها، ومع ذلك يجد من يطالع الوثيقة أن أسباب نشوء وارتقاء الأصولية التي تقود للعنف القاتل كامنة في سطورها.
ينشأ الإرهاب من تجريد الإنسان من كثير من صفاته الإنسانية، الأمر الذي يدفعه دفعا إلى دائرة الانتقام الفتاك، سيما أن المعادل الموضوعي للحياة عنده يضحى الموت, ولهذا ترى الوثيقة أن ما يطمح إليه الناس في يومنا هذا هو أن يتحرروا من ربقة البؤس, ويحصلوا بوجه أضمن على أسباب المعيشة والصحة والعمل المستقر, وأن يصيبوا من العلم نصيبا أكبر.
تختصر الوثيقة هذه الجزئية في القول: إن البشر كافة مدعوون لأن يعملوا أكثر ويعرفوا أكثر ويملكوا أكثر، كي يكونوا أكثر إنسانية.
يتسرب الإرهاب إلى النفوس، عندما تجد شعوب بأكملها وطغمات من الشباب بعينها، أنه محكوم عليها بالحياة في أوضاع تحيل هذه المطامح سرابا، هكذا تقول سطور الوثيقة، وبخاصة عند الشعوب الحديثة العهد بالاستقلال القومي، والتي تشعر إلى جانب هذه الحرية السياسية المكتسبة بأهمية الاقتصاد، لكي تكفل لمواطنيها تفتحهم الإنساني الكامل فيعيشون ضمن شعوب الأرض في الموقع والموضع الذي يمثلهم.
يعن لنا هنا أن نتساءل... إلى أي حدود كان الظلم الاجتماعي لدول العالم الثالث مدعاة لظهور الأصوليات واشتداد عود الإرهاب؟
قطعا أن تلك الشعوب التي تحدثنا عنها الوثيقة، لم تجد لحياتها معنى في ظل الاحتلال العسكري بداية، والرأسمالي الاقتصادي تاليا، ولهذا هربت إلى الماضي السحيق تستجير به، من ظلم الواقع, وفيما البعض منها قبل بالانكسار النفسي والأدبي تحت الضغوط، فإن آخرين اتخذوا العنف المسلح طريقا تتساوى فيه أسباب الحياة مع دوافع الموت، وكان الإرهاب بثوبه الأسود الذي يخيم على عالمنا اليوم.
الرؤية التفكيكية لوثيقة «ترقي الشعوب» تفاجئنا بأنه كانت هناك مصارحة ومكاشفة فاتيكانية للعالم قبل نحو خمسة عقود، بشأن الدور الذي لعبه الاستعمار والدول المستعمرة في مسيرة الشعوب التي تتهم اليوم من قبل الحواضر الغربية بأنها: «معين مورد للإرهاب».
تقر الوثيقة بأن الدول المستعمرة كان مطلبها في الغالب مصلحتها وسيادتها وعظمتها، وقد كان ذهابها دفعة واحدة قد خلق وراءه أحيانا وضعا اقتصاديا سريع العطب هذا الوضع لا نغالي إن قلنا إنه خلق أوضاعا مزرية من الفقر المادي، ومن الكراهية للآخر.
هنا فإن المستعمر تحديدا أعطى للعنف والإرهاب وروح الانتقام ذرائع تكاد تكون نبيلة في عيون أصحابها، ولعل هذا ما نراه في أوروبا اليوم بنوع خاص، من أبناء القارة الأفريقية، أو بعض من الأجيال الجديدة لمواطني دول شمال غربي أفريقيا، أي دول المغرب العربي تحديدا، ما يفسر بدرجة أو بأخرى, مسارات الإرهاب في فرنسا أو بلجيكا وإن كان لا يبرره بحال من الأحوال.
على أن البعض يرد بأن هناك إرهابا وعنفا متوالدا لدى أجيال أو شعوب لا تعيش أزمات اقتصادية أو تعاني فاقة الجوع أو تكابد شظف العيش، وهي مقولات حديثة، ومن المثير أن الوثيقة تنبهت لهذا المشهد مبكرا جدا، ولهذا أشارت إلى أن مسألة الترقي لا تخص مجرد النمو الاقتصادي، فلكي يكون صحيحا يجب أن يكون كاملا، أي أن يشمل كل إنسان، والإنسان كله، والمعنى هنا هو أنه لا تسليم بالفصل بين الاقتصادي والإنساني، ولا بين النماء والحضارات، فهو من شروطها فالذي تحتفل به الوثيقة ومن وراءها هو الإنسان، كل إنسان وكل جماعة من الناس، إلى الإنسانية كلها جمعاء.
يعني ما تقدم أن الوفرة الاقتصادية لدى البعض، قد واكبها قصور شديد في البناء الروحي والاجتماعي, الثقافي والفكري، ولهذا ظهر العنف وطفا الإرهاب على السطح كتوابع لا مناص منها لاختلالات هيكلية في البنية الإنسانية.
قبل نحو خمسين عاما, تناولت الوثيقة إشكالية الرأسمالية التي أضحت متوحشة، والتي دمرت سلم القيم الإنسانية، وفتحت الأبواب واسعة لدعوات الإقصاء والعزل، الإبعاد والأنانية، وهذه بدورها كانت مرتعا لكل من آمن بأن العودة إلى الأصول، هي الطريق الأصوب لملاقاة غوائل المستقبل، ثم من الراديكالية التي أعادت تجذير حضورها، ليشتعل العالم نارا ودمارا من جديد.
في هذا الإطار كان بولس السادس الحبر الروماني الأعظم يرى أن النمو الفردي والجماعي يمسي في خطر إذا فسدت من القيم سلمها الحقيقي، فلا جرم أن ابتغاء ما هو ضروري أمر مشروع، وأن العمل على بلوغه أمر واجب لأن الذي لا يريد أن يعمل لا يأكل أيضا، إلا أن التكالب على متاع الدنيا قد يقود إلى الجشع، وإلى شهوة المزيد من القدرة, كما أن البخل في الأفراد والأسر يولد على الصعيد الآخر أنانية أخرى مستترة.
مثيرة جدا للمتأمل سطور الوثيقة، وكأنها كانت تقرأ مآلات العالم الحديث، والعالمين العربي والإسلامي بنوع خاص رسميا عندما تتناول إشكاليتي العنف والثورة... ماذا عن الأمر؟ أدرك كتاب «ترقي الشعوب» أن الظلم الاجتماعي لا بد أن يولد انفجارات لا قبل للبشرية بها, ولا طائل من ورائها، إذا ما باتت الملايين من البشر في أوضاع الألم والمرض والجوع والخوف والفقر، ولاحظ هنا كيف أن البون بين تقدم البعض وركود البعض الآخر بل تقهقرهم، في تزايد مستمر.
وفي هذا الإطار يظهر العنف أولا والثورات تشيع ثانية... أما العنف، الدالة والتابع والأداة المفضلة للإرهاب فيحدث بسبب الأوضاع التي يصرخ جورها في أذن السماء وعندما تكون شعوب بأكملها خالية الوفاض من كل مبادرة ومسؤولية، ومن كل إمكانية ترقٍ ثقافي واشتراك في الحياة الاجتماعية والسياسية فإن خطر الانزلاق في العنف يضحى الرد الطبيعي أمام مثل هذه الغضاضة اللاحقة بالكرامة الإنسانية, يكون كبيراً...
هل تلقى هذه الكلمات صدى لا سيما تجاه العنف الحادث في أوروبا بنوع خاص، أو فيما خص الحوادث الإرهابية الكبرى التي جرت بها المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على وجه العموم؟
فيما الثورة أو الثورات، وحالات العصيان الثوري - إلا في حال الطغيان الراهن المتمادي، الذي يسيء إلى حقوق الشخص الأساسية إساءة خطيرة، وتنجم عنه أضرار خطيرة للبلاد - فإنها تجر معها مظالم جديدة، وتدخل أنواعاً جديدة من عدم التوازن، وتراكم الخراب فوق الخراب، ذلك أنه لا يجوز قمع الشر الراهن بما يؤول إلى شر أقدح.
المنطوق السابق يجعلنا نتأمل حال العالم العربي في السنوات الست الماضية، والتي أعقبت ما أطلق عليه «الربيع العربي»، فقد عاشت بلادنا ثورات تاريخية، لا ثورات ديمقراطية، والتوصيف هنا لثعلب السياسة الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، فالأولى لا تجر إلا الخراب ولا ينتج عنها إلا المزيد من العنف، وتوالي تفريخ المتطرفين وأصحاب الطرق غير السلمية، الذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة، فيما الثورات الديمقراطية فهي التي تعطي نتائج إيجابية تنعكس برداً وسلاماً على مواطني بلدانها حول العالم.
الوثيقة رغم مضي عشرات السنين عليها، لم تقف مكتوفة الأيدي عند تشخيص الأمراض الاجتماعية، بل ذهبت في طريق الإصلاح، ولهذا ارتأت وقتها - وكم بات البون شاسعاً والعلاج مكلفاً اليوم - أن الأوضاع الحاضرة يجب أن تواجه بجرأة، والمظالم التي تصحبها يجب أن تقاوم وأن تقهر، فالترقي يقتضي تحولات جريئة، وأن من الإصلاحات العاجلة ما يجب الشروع به من دون أدنى تأخير وعلى كل إنسان إذن أن يقوم بقسطه بسخاء، ولا سيما الذين، بثقافتهم ومكانتهم وسلطانهم تتوافر لهم إمكانيات كبيرة للعمل، ليكونوا مثالاً ببذلهم مما لهم.
لكن «ترقي الشعوب» وإغلاق مياذيب الكراهية، وسد متاريس الإرهاب، وإنهاء زمن الأصوليات، جميعها أمور في حاجة ماسة لتخطيط ومنهج، ومن هنا فإنه لا قبل للمبادرة الفردية وحدها - تنص الوثيقة - ولا لعبة المنافسة وحدها بأن تكفلا نجاح الرقي. ولا ينبغي التعرض لخطر المزيد من ثراء الأثرياء وقوة الأقوياء بتكريس بؤس الفقراء، وتمكين عبودية المرهقين.
من أجل ذلك لا بد من مناهج من شأنها أن «تشجع وتحفز، وتعاطف وتسند وتكمل»، عمل الأفراد والهيئات المتوسطة، وعلى السلطات العامة أن تختار، بل أن تفرض، الأغراض التي يجب استهدافها، والغايات التي يجب بلوغها، والوسائل التي توصل إليها.
أفضل طريق لمحاربة العنف والإرهاب اليوم، بخلاف الحلول الأمنية والعسكرية التي أثبتت التجربة التاريخية أنها قصيرة العمر، وضعتها الوثيقة، من خلال التأكيد على أن لا معنى للمزيد من الإنتاج إلا إذا كان في خدمة الإنسان، مهما كان لونه أو دينه، جنسه أو عرقه.
والغاية هنا من الإنتاج تضييق دائرة التفاوت، ومكافحة ضروب التمييز، وعتق الإنسان من عبوديات الأزمنة المعاصرة، وتمكينه من أن يكون هو نفسه العامل المسؤول عن تحسن حاله ماديا وعن ترقيه أدبياً وعن تفتحه روحياً.
أفضل بل وأنفع الطرق لمواجهة دعاوى العنصرية والكراهية، والإرهاب والأصولية، هي النماء، وعليه فإن من قال بالنماء قال بالاهتمام بالتقدم الاجتماعي، بقدر الاهتمام بالتقدم الاقتصادي، أي الاهتمام بالإنسان بوصفه جسدا وروحا وليس جسدا فقط، إذ لا يكفي أن تزيد الثروة العامة حتى تتوزع بإنصاف، ولا يكفي أن تعزز التقنية حتى تكون الأرض أكثر إنسانية للسكنى.
يمكن للمرء أن يستخلص الكثير جداً، النافع والمفيد من هذه الوثيقة التي يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها، لا سيما في سياق الاستعانة بها لمجابهة طاعون عصرنا الحاضر، غير أن أفضل خلاصاتها، تتمثل في القول بأن أخطاء السلف يجب أن تحذر المحدثين من الوقوع في الأخطار التي يجب اجتنابها في هذا المجال.
ذلك بأن «تكنوقراطية» الغد قد تجر من الويلات ما لا يقل هولاً عن «ليبرالية» الأمس، والاقتصاد والتقنية لا معنى لهما إلا بالإنسان اللذين هما في خدمته، والإنسان لا يكون إنساناً حقاً إلا بمقدار ما يكون هو سيد أعماله، والحكم في قيمتها، إذ ذاك هو نفسه عامل تقدمه، وفقاً للطبيعة التي أعطاها الخالق له، ويظل هو حراً بإمكاناتها ومستلزماتها.
أفضل كلمات نختتم بها هذا العرض المختصر للغاية لهذه الوثيقة التاريخية، وفيها الخلاص من كثير من أدران العنف والإرهاب القول بأن ترقي الإنسانية الكامل، الذي يتجاوز الوحشية التي رأيناها في الأعوام القليلة الماضية، لا يمكن أن يتم من دون تضافر الإنسانية عليه...
في بومباي أوائل ستينات القرن العشرين. تحدث البابا بولس بالقول: «على الإنسان أن يلتقي بالإنسان، وعلى الأمم أن تتلاقى كالإخوة والأخوات وكأبناء لله، ففي هذا التفاهم والولاء المتبادلين وفي هذه الشركة المقدسة، يجب إذن أن نبدأ بالعمل معاً، لكي نبني مستقبل البشرية المشترك»... مستقبل لا مكان فيه حكماً للكراهية ولا الإرهاب أو الأصوليات السلبية.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».