المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
TT

المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)

في مثل هذا التوقيت منذ خمسين عاما، وتحديدا في صيف عام 1967 صدرت عن الكرسي الرسولي في حاضرة الفاتيكان وثيقة تسمى «ترقي الشعوب»populorum progressio واعتمدها البابا بولس السادس. ولعل ما يدعونا لإعادة قراءة هذه الوثيقة في هذا التوقيت، هو أن ما جاء بها لو انتبه إليه أصحاب القرار وصناع الأفكار حول العالم في ذلك الوقت، لربما كانت الفرصة قد تجاوزت أفكار الإرهاب والأصولية التي يعانيها عالمنا المعاصر، والتي هي نتاج بصورة جذرية في جانب كبير منها لمسائل اجتماعية تم تجاوزها، وبات على شعوب العالم دفع أكلاف إصلاحها وهي عالية وغالية جدا لو يعلمون.

ضرب من الضروب التي دعت الإرهاب لأن يجد له مسارب إلى النفوس يتصل اتصالا حقيقيا بغياب العدالة الاجتماعية لا سيما لدى الشعوب التي تجهد للتملص من براثن الجوع والبؤس, وسطوة الأمراض السارية، وتنشد المزيد من الاشتراك في الحضارة, وتقيما أوفر إيجابية لصفاتها الإنسانية.
وقت كتابة هذه الوثيقة لم تكن قضية الإرهاب تشغل تفكير العالم، بل الحرب الباردة الدائرة بين المعسكرين الشرقي والغربي, والتي كانت في أوج احتدامها، ومع ذلك يجد من يطالع الوثيقة أن أسباب نشوء وارتقاء الأصولية التي تقود للعنف القاتل كامنة في سطورها.
ينشأ الإرهاب من تجريد الإنسان من كثير من صفاته الإنسانية، الأمر الذي يدفعه دفعا إلى دائرة الانتقام الفتاك، سيما أن المعادل الموضوعي للحياة عنده يضحى الموت, ولهذا ترى الوثيقة أن ما يطمح إليه الناس في يومنا هذا هو أن يتحرروا من ربقة البؤس, ويحصلوا بوجه أضمن على أسباب المعيشة والصحة والعمل المستقر, وأن يصيبوا من العلم نصيبا أكبر.
تختصر الوثيقة هذه الجزئية في القول: إن البشر كافة مدعوون لأن يعملوا أكثر ويعرفوا أكثر ويملكوا أكثر، كي يكونوا أكثر إنسانية.
يتسرب الإرهاب إلى النفوس، عندما تجد شعوب بأكملها وطغمات من الشباب بعينها، أنه محكوم عليها بالحياة في أوضاع تحيل هذه المطامح سرابا، هكذا تقول سطور الوثيقة، وبخاصة عند الشعوب الحديثة العهد بالاستقلال القومي، والتي تشعر إلى جانب هذه الحرية السياسية المكتسبة بأهمية الاقتصاد، لكي تكفل لمواطنيها تفتحهم الإنساني الكامل فيعيشون ضمن شعوب الأرض في الموقع والموضع الذي يمثلهم.
يعن لنا هنا أن نتساءل... إلى أي حدود كان الظلم الاجتماعي لدول العالم الثالث مدعاة لظهور الأصوليات واشتداد عود الإرهاب؟
قطعا أن تلك الشعوب التي تحدثنا عنها الوثيقة، لم تجد لحياتها معنى في ظل الاحتلال العسكري بداية، والرأسمالي الاقتصادي تاليا، ولهذا هربت إلى الماضي السحيق تستجير به، من ظلم الواقع, وفيما البعض منها قبل بالانكسار النفسي والأدبي تحت الضغوط، فإن آخرين اتخذوا العنف المسلح طريقا تتساوى فيه أسباب الحياة مع دوافع الموت، وكان الإرهاب بثوبه الأسود الذي يخيم على عالمنا اليوم.
الرؤية التفكيكية لوثيقة «ترقي الشعوب» تفاجئنا بأنه كانت هناك مصارحة ومكاشفة فاتيكانية للعالم قبل نحو خمسة عقود، بشأن الدور الذي لعبه الاستعمار والدول المستعمرة في مسيرة الشعوب التي تتهم اليوم من قبل الحواضر الغربية بأنها: «معين مورد للإرهاب».
تقر الوثيقة بأن الدول المستعمرة كان مطلبها في الغالب مصلحتها وسيادتها وعظمتها، وقد كان ذهابها دفعة واحدة قد خلق وراءه أحيانا وضعا اقتصاديا سريع العطب هذا الوضع لا نغالي إن قلنا إنه خلق أوضاعا مزرية من الفقر المادي، ومن الكراهية للآخر.
هنا فإن المستعمر تحديدا أعطى للعنف والإرهاب وروح الانتقام ذرائع تكاد تكون نبيلة في عيون أصحابها، ولعل هذا ما نراه في أوروبا اليوم بنوع خاص، من أبناء القارة الأفريقية، أو بعض من الأجيال الجديدة لمواطني دول شمال غربي أفريقيا، أي دول المغرب العربي تحديدا، ما يفسر بدرجة أو بأخرى, مسارات الإرهاب في فرنسا أو بلجيكا وإن كان لا يبرره بحال من الأحوال.
على أن البعض يرد بأن هناك إرهابا وعنفا متوالدا لدى أجيال أو شعوب لا تعيش أزمات اقتصادية أو تعاني فاقة الجوع أو تكابد شظف العيش، وهي مقولات حديثة، ومن المثير أن الوثيقة تنبهت لهذا المشهد مبكرا جدا، ولهذا أشارت إلى أن مسألة الترقي لا تخص مجرد النمو الاقتصادي، فلكي يكون صحيحا يجب أن يكون كاملا، أي أن يشمل كل إنسان، والإنسان كله، والمعنى هنا هو أنه لا تسليم بالفصل بين الاقتصادي والإنساني، ولا بين النماء والحضارات، فهو من شروطها فالذي تحتفل به الوثيقة ومن وراءها هو الإنسان، كل إنسان وكل جماعة من الناس، إلى الإنسانية كلها جمعاء.
يعني ما تقدم أن الوفرة الاقتصادية لدى البعض، قد واكبها قصور شديد في البناء الروحي والاجتماعي, الثقافي والفكري، ولهذا ظهر العنف وطفا الإرهاب على السطح كتوابع لا مناص منها لاختلالات هيكلية في البنية الإنسانية.
قبل نحو خمسين عاما, تناولت الوثيقة إشكالية الرأسمالية التي أضحت متوحشة، والتي دمرت سلم القيم الإنسانية، وفتحت الأبواب واسعة لدعوات الإقصاء والعزل، الإبعاد والأنانية، وهذه بدورها كانت مرتعا لكل من آمن بأن العودة إلى الأصول، هي الطريق الأصوب لملاقاة غوائل المستقبل، ثم من الراديكالية التي أعادت تجذير حضورها، ليشتعل العالم نارا ودمارا من جديد.
في هذا الإطار كان بولس السادس الحبر الروماني الأعظم يرى أن النمو الفردي والجماعي يمسي في خطر إذا فسدت من القيم سلمها الحقيقي، فلا جرم أن ابتغاء ما هو ضروري أمر مشروع، وأن العمل على بلوغه أمر واجب لأن الذي لا يريد أن يعمل لا يأكل أيضا، إلا أن التكالب على متاع الدنيا قد يقود إلى الجشع، وإلى شهوة المزيد من القدرة, كما أن البخل في الأفراد والأسر يولد على الصعيد الآخر أنانية أخرى مستترة.
مثيرة جدا للمتأمل سطور الوثيقة، وكأنها كانت تقرأ مآلات العالم الحديث، والعالمين العربي والإسلامي بنوع خاص رسميا عندما تتناول إشكاليتي العنف والثورة... ماذا عن الأمر؟ أدرك كتاب «ترقي الشعوب» أن الظلم الاجتماعي لا بد أن يولد انفجارات لا قبل للبشرية بها, ولا طائل من ورائها، إذا ما باتت الملايين من البشر في أوضاع الألم والمرض والجوع والخوف والفقر، ولاحظ هنا كيف أن البون بين تقدم البعض وركود البعض الآخر بل تقهقرهم، في تزايد مستمر.
وفي هذا الإطار يظهر العنف أولا والثورات تشيع ثانية... أما العنف، الدالة والتابع والأداة المفضلة للإرهاب فيحدث بسبب الأوضاع التي يصرخ جورها في أذن السماء وعندما تكون شعوب بأكملها خالية الوفاض من كل مبادرة ومسؤولية، ومن كل إمكانية ترقٍ ثقافي واشتراك في الحياة الاجتماعية والسياسية فإن خطر الانزلاق في العنف يضحى الرد الطبيعي أمام مثل هذه الغضاضة اللاحقة بالكرامة الإنسانية, يكون كبيراً...
هل تلقى هذه الكلمات صدى لا سيما تجاه العنف الحادث في أوروبا بنوع خاص، أو فيما خص الحوادث الإرهابية الكبرى التي جرت بها المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على وجه العموم؟
فيما الثورة أو الثورات، وحالات العصيان الثوري - إلا في حال الطغيان الراهن المتمادي، الذي يسيء إلى حقوق الشخص الأساسية إساءة خطيرة، وتنجم عنه أضرار خطيرة للبلاد - فإنها تجر معها مظالم جديدة، وتدخل أنواعاً جديدة من عدم التوازن، وتراكم الخراب فوق الخراب، ذلك أنه لا يجوز قمع الشر الراهن بما يؤول إلى شر أقدح.
المنطوق السابق يجعلنا نتأمل حال العالم العربي في السنوات الست الماضية، والتي أعقبت ما أطلق عليه «الربيع العربي»، فقد عاشت بلادنا ثورات تاريخية، لا ثورات ديمقراطية، والتوصيف هنا لثعلب السياسة الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، فالأولى لا تجر إلا الخراب ولا ينتج عنها إلا المزيد من العنف، وتوالي تفريخ المتطرفين وأصحاب الطرق غير السلمية، الذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة، فيما الثورات الديمقراطية فهي التي تعطي نتائج إيجابية تنعكس برداً وسلاماً على مواطني بلدانها حول العالم.
الوثيقة رغم مضي عشرات السنين عليها، لم تقف مكتوفة الأيدي عند تشخيص الأمراض الاجتماعية، بل ذهبت في طريق الإصلاح، ولهذا ارتأت وقتها - وكم بات البون شاسعاً والعلاج مكلفاً اليوم - أن الأوضاع الحاضرة يجب أن تواجه بجرأة، والمظالم التي تصحبها يجب أن تقاوم وأن تقهر، فالترقي يقتضي تحولات جريئة، وأن من الإصلاحات العاجلة ما يجب الشروع به من دون أدنى تأخير وعلى كل إنسان إذن أن يقوم بقسطه بسخاء، ولا سيما الذين، بثقافتهم ومكانتهم وسلطانهم تتوافر لهم إمكانيات كبيرة للعمل، ليكونوا مثالاً ببذلهم مما لهم.
لكن «ترقي الشعوب» وإغلاق مياذيب الكراهية، وسد متاريس الإرهاب، وإنهاء زمن الأصوليات، جميعها أمور في حاجة ماسة لتخطيط ومنهج، ومن هنا فإنه لا قبل للمبادرة الفردية وحدها - تنص الوثيقة - ولا لعبة المنافسة وحدها بأن تكفلا نجاح الرقي. ولا ينبغي التعرض لخطر المزيد من ثراء الأثرياء وقوة الأقوياء بتكريس بؤس الفقراء، وتمكين عبودية المرهقين.
من أجل ذلك لا بد من مناهج من شأنها أن «تشجع وتحفز، وتعاطف وتسند وتكمل»، عمل الأفراد والهيئات المتوسطة، وعلى السلطات العامة أن تختار، بل أن تفرض، الأغراض التي يجب استهدافها، والغايات التي يجب بلوغها، والوسائل التي توصل إليها.
أفضل طريق لمحاربة العنف والإرهاب اليوم، بخلاف الحلول الأمنية والعسكرية التي أثبتت التجربة التاريخية أنها قصيرة العمر، وضعتها الوثيقة، من خلال التأكيد على أن لا معنى للمزيد من الإنتاج إلا إذا كان في خدمة الإنسان، مهما كان لونه أو دينه، جنسه أو عرقه.
والغاية هنا من الإنتاج تضييق دائرة التفاوت، ومكافحة ضروب التمييز، وعتق الإنسان من عبوديات الأزمنة المعاصرة، وتمكينه من أن يكون هو نفسه العامل المسؤول عن تحسن حاله ماديا وعن ترقيه أدبياً وعن تفتحه روحياً.
أفضل بل وأنفع الطرق لمواجهة دعاوى العنصرية والكراهية، والإرهاب والأصولية، هي النماء، وعليه فإن من قال بالنماء قال بالاهتمام بالتقدم الاجتماعي، بقدر الاهتمام بالتقدم الاقتصادي، أي الاهتمام بالإنسان بوصفه جسدا وروحا وليس جسدا فقط، إذ لا يكفي أن تزيد الثروة العامة حتى تتوزع بإنصاف، ولا يكفي أن تعزز التقنية حتى تكون الأرض أكثر إنسانية للسكنى.
يمكن للمرء أن يستخلص الكثير جداً، النافع والمفيد من هذه الوثيقة التي يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها، لا سيما في سياق الاستعانة بها لمجابهة طاعون عصرنا الحاضر، غير أن أفضل خلاصاتها، تتمثل في القول بأن أخطاء السلف يجب أن تحذر المحدثين من الوقوع في الأخطار التي يجب اجتنابها في هذا المجال.
ذلك بأن «تكنوقراطية» الغد قد تجر من الويلات ما لا يقل هولاً عن «ليبرالية» الأمس، والاقتصاد والتقنية لا معنى لهما إلا بالإنسان اللذين هما في خدمته، والإنسان لا يكون إنساناً حقاً إلا بمقدار ما يكون هو سيد أعماله، والحكم في قيمتها، إذ ذاك هو نفسه عامل تقدمه، وفقاً للطبيعة التي أعطاها الخالق له، ويظل هو حراً بإمكاناتها ومستلزماتها.
أفضل كلمات نختتم بها هذا العرض المختصر للغاية لهذه الوثيقة التاريخية، وفيها الخلاص من كثير من أدران العنف والإرهاب القول بأن ترقي الإنسانية الكامل، الذي يتجاوز الوحشية التي رأيناها في الأعوام القليلة الماضية، لا يمكن أن يتم من دون تضافر الإنسانية عليه...
في بومباي أوائل ستينات القرن العشرين. تحدث البابا بولس بالقول: «على الإنسان أن يلتقي بالإنسان، وعلى الأمم أن تتلاقى كالإخوة والأخوات وكأبناء لله، ففي هذا التفاهم والولاء المتبادلين وفي هذه الشركة المقدسة، يجب إذن أن نبدأ بالعمل معاً، لكي نبني مستقبل البشرية المشترك»... مستقبل لا مكان فيه حكماً للكراهية ولا الإرهاب أو الأصوليات السلبية.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.