النقد الذاتي المفقود في الثقافة العربية

أشرنا سابقا في هذا العمود إلى غياب التوازن في حياتنا الثقافية، ولم يكن المقصود من تلك الإشارة التقليل من شأن لون إبداعي بعينه، ورفع شأن لون آخر، كما قد فهم البعض، بل تشخيص حالة معينة أبرزتها ظروف معينة، لا بد أن تتغير يوما لأنها ليست نتيجة تطور طبيعي في مجتمعات شبه مختنقة تجاهد لتأكيد نفسها، وما تزال تبحث عن وسائل تعبيرها في ثقافة لم تترسخ أصولها بعد، ولم تجد مرجعيتها المعرفية بعد. وغياب هذا التوازن لن يؤدي بالضرورة سوى إلى ثقافة كسيحة كما هي حال ثقافتنا اليوم. ومن جانب آخر، يبدو أن عدم التوازن هذا لا بد منه، أي أنه محكوم بجملة عوامل موضوعية وذاتية، مرتهنة بطبيعة مجتمعاتنا وتركيبتنا الثقافية، التي ما تزال في مرحلة التكوين، كما في كل الظواهر الأخرى.
تحقيق التوازن الثقافي يعتمد أساساً على عدة عوامل اجتماعية وثقافية قد تكون مستقلة عنا تماما، أي إنها نتاج أسباب موضوعية، قد تظهر لفترة زمنية معينة، حتى لو امتدت لحقب طويلة، وقد تضمحل مع اضمحلال الأسباب التي ولدتها. ولكن هذه الأسباب الموضوعية لا تنفي بالطبع غياب العامل البشري، وتأثيره على حركة الواقع، وحتى حرفه بهذا الاتجاه أو ذاك. ومن هنا، تنشأ الظواهر المشوهة، على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، التي تمنعنا من رؤية الواقع كما هو. من هنا يبدأ دور المثقف. لكنه المثقف المسلح بوعي تاريخي ثاقب، ومعرفة عميقة قادرة على قراءة ما هو أبعد من الظواهر المشوهة الجارفة، وما وراء الواقع السائد، والمثقف المسكون، بل المصاب بحمى التغيير. وأكثر من هذا، المستعد دائما لتجرع السم. والتاريخ مليء بمثل هؤلاء المثقفين الذين دفعوا البشرية خطوات كبيرة إلى الأمام، وما يزالون يسكنون وعينا ووجداننا وعقولنا، ويشكلون هدى لنا رغم مرور قرون ولم يكن هؤلاء المثقفون يحملون سوى سلاح واحد: النقد الذاتي.
التفتح الثقافي، الذي تخضوضر ألوانه جنبا إلى جنب، هو وليد إنجازات حضارية تحققت في الغرب بعد تراكم طويل جدا، ومنعطفات تاريخية واجتماعية خطيرة فتحت كوى في الوعيين الذاتي والجمعي، وخلقت عند المبدعين قبل غيرهم غنى المنظور التاريخي، والعمق الأخلاقي، والذكاء والحساسية العاليين، كما أن عملية التغيير الحقيقي، على مستوى الوعي والممارسة، هي عملية بشرية طويلة تحتاج إلى مراجعة شاملة وصارمة ومؤلمة أيضاً للذات والمواقف، وتتطلب قيمة أخلاقية عليا، ونعني بها عملية النقد الذاتي. وفي رأينا لن تقوم قائمة للثقافة العربية بمعناها الأوسع من دون هذا النقد، الذي ما يزال للأسف مفقودا عموما في حياتنا الثقافية المعاصرة، لأسباب كثيرة مفهومة. ولكن هذه الأسباب نفسها كانت موجودة في المجتمعات الأوروبية قبل قرون، ومع ذلك لم تعدم وجود المثقف المستعد دائما لتجرع السم.