هل تصبح مدينة مالمو شيكاغو السويد؟

المخدرات والهجرة والأوضاع المعيشية السيئة وراء ارتفاع معدلات الجريمة فيها

مدينة مالمو السويدية التي يصل عدد سكانها إلى 300 ألف نسمة تحولت إلى مركز صراع عصابات الاتجار بالمخدرات
مدينة مالمو السويدية التي يصل عدد سكانها إلى 300 ألف نسمة تحولت إلى مركز صراع عصابات الاتجار بالمخدرات
TT

هل تصبح مدينة مالمو شيكاغو السويد؟

مدينة مالمو السويدية التي يصل عدد سكانها إلى 300 ألف نسمة تحولت إلى مركز صراع عصابات الاتجار بالمخدرات
مدينة مالمو السويدية التي يصل عدد سكانها إلى 300 ألف نسمة تحولت إلى مركز صراع عصابات الاتجار بالمخدرات

عندما تسير في حي موليفانغن في مدينة مالمو السويدية، ربما لن تلحظ على الفور أن المدينة الجنوبية معروفة بأنها إحدى النقاط الدولية الساخنة للجريمة المنظمة.
الشابات يدفعن عربات الأطفال، وكبار السن يستمتعون بأشعة الشمس، بينما ساحة وسط موليفانغن صاخبة.
ولكن في شهر فبراير (شباط) الماضي، كانت ذات الساحة مسرحاً لجريمة.
وتضررت صورة مدينة مالمو دولياً بعدما أثارت سلسلة حوادث إطلاق نار، شهدتها خلال الفترة الماضية، انتباه وسائل الإعلام المحافظة، مثل محطة «فوكس نيوز» الأميركية.
حتى الرئيس الأميركي دونالد ترمب ألمح إلى هذه الحادثة في أحد خطاباته في وقت سابق من العام الحالي. وقال: «انظروا إلى ما حدث الليلة الماضية في السويد»، في إشارة على ما يبدو إلى تقرير لـ«فوكس نيوز». وقد أثارت تعليقاته في حينها جدلاً بشأن الحادثة التي كان يعنيها، فقد شهدت الأشهر السابقة عدة حوادث.
وقال مان غريل الباحث في علم الجريمة: «لقد شهدنا زيادة كبيرة في حوادث إطلاق النار وعمليات القتل». ومنذ مطلع عام 2016، قُتل 17 شخصا في أعمال عنف في شوارع مدينة مالمو التي يقطنها نحو 330 ألف شخص. وقد وصفت محطة «آر تي» الروسية مالمو بأنها «شيكاغو السويد» لما تشهده من أعمال عنف.
ويعتقد أن الكثير من الجرائم في مالمو ترتبط بالحرب بين الشبكات الإجرامية. وتعجز الشرطة في أغلب الحالات عن حل لغز الجريمة في مالمو، ففي كثير من القضايا لا يكون حتى لديها مشتبه به واحد.
تقول بائعة في متجر مولان لبيع الأطعمة المعلبة في موليفانجن: إنها ليست خائفة. ولكن في أحد أطراف الساحة في الخارج، توجد زهور وصورة كبيرة تذكّر بمقتل شاب في الثالثة والعشرين من عمره في إطلاق نار أمام مطعم تايلاندي. ووفقاً للشرطة، فإنه كان متورطا في الاتجار بالمخدرات.
يقول مارفين، الذي يعمل منذ عقدين في بيع الخضراوات بسوق مولان: «لم تعد المدينة كما كانت... المخدرات أشعلت الصراع».
ويعيش في مولان كثير من المهاجرين، ومن بينهم هذا البائع قوي البنية. لقد كان طفلا عندما جاء إلى السويد من لبنان قبل 40 عاما.
ورغم خلفيته المهاجرة قال: «لقد سمحنا لعدد كبير جداً من الأشخاص بالمجيء. إننا بحاجة إلى قوانين أكثر صرامة». وهذا الحديث يلقى صدى طيبا لدى الشعبويين اليمينيين في السويد.
يقول إندرياس شونستروم، نائب عمدة مالمو لشؤون البيئة والأمن، «الأمر لم يتعلق أبدا بالعرق، وإنما الطبقة. لا أحد يتحدث عن الطبقة».
وذكر السياسي الاشتراكي الديمقراطي أن 150 من إجمالي 200 عنصر عضو في شبكات للجريمة المنظمة في المدينة، لديهم خلفية أجنبية. وأضاف: «لكن هذا ليس هو السبب. العامل المؤثر هنا هو أن سكان هذه المناطق يعانون من أوضاع معيشية سيئة».
ويقصد بـ«هذه المناطق» أحياء مثل سوفيلوند القريب من مولان وروسنجارد، حيث قتل الشاب (23 عاما) نهاية مارس (آذار) الماضي. وتقول الشرطة إن ضحية روسنجارد كان شاهدا على مقتل فتى في يناير (كانون الثاني).
وقال المتحدث باسم الشرطة لارس فورستيل: «لقد قدمنا له الحماية، ولكنه لم يكن يرغب في التعاون معنا... ربما لأنه كان يتاجر في المخدرات». لقد كانت واحدة من حوادث إطلاق النار القليلة التي ألقت فيها الشرطة القبض على مشتبه به، ولكن لم يتم إغلاق القضية.
ويعتقد نائب العمدة شونستروم أن المدينة تشهد صراعا على النفوذ «بين شبان صغار جدا» متوسط أعمارهم 22 عاما، وذلك بعدما تمكنت الشرطة قبل أعوام من إلقاء القبض على قادة شبكات الجريمة المنظمة. وأضاف لديهم الكثير من الأسلحة».
يقول جريل إن معظم السلاح الذي يتم تهريبه إلى السويد يمر عبر مالمو. كما أن كثيرين من القادمين الجدد إلى السويد يدخلون عبر مالمو. وفيما يسمى بأحياء المشكلات في المدينة، فإن هناك معدلات تنقُّل تقدر بربع عدد السكان كل عام.
يقول شونستروم إن الناس ينتقلون في أسرع وقت ممكن، «ولكن يظل الفقر والمشكلات الاجتماعية والجريمة في الأحياء». وتتطلع المدينة إلى تغيير هذا الوضع، وقد بدأت مشروعا في سوفيلوند، وهو واحد من 15 حيا في أنحاء البلاد تصنفها الشرطة على أنها مناطق مشكلات خاصة. وقد ذهبت بعض وسائل الإعلام الأجنبية إلى وصفها بأنها «مناطق يحظر الذهاب إليها».
ويحاول نادي كرة القدم المحلي جمع الأطفال المشردين في الشوارع في المساء، ويتم تحميل أصحاب العقارات المسؤولية عن أية أحداث تقع في مبانيهم المهجورة، ويقوم فريق متجول على دراجات بتنظيف الحي. وفي مبنى سكني معروف بتجارة المخدرات، تظهر كاميرات المراقبة مثبتة على الجدران.
يقول مدير المشروع هجلمار فالك: «يمكننا أن نلحظ أن الناس يبقون في المنطقة». وردا على ما يقال عن زيادة الشعور بغياب الأمن في مالمو، شدد شونستروم على أن معدل الجريمة في المدينة لم يتراجع إلى هذا المستوى من قبل.
وأعرب عن غضبه من تسبب حوادث إطلاق النار في إثارة الجدل ووضع مالمو على خريطة النقاط الساخنة للجريمة.
يقول ماركوس إكبيرج، المحرر بصحيفة «سيدسفنسكان» اليومية، إن سكان مالمو قد يشعرون بتحسن الأوضاع عندما يتم وضع المتورطين في إراقة الدم خلف القضبان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)