محمد باقر قاليباف فتى الحرس الثوري المدلل

مرشح الرئاسة المحافظ المهدد بصعود إبراهيم رئيسي

محمد باقر قاليباف  فتى الحرس الثوري المدلل
TT

محمد باقر قاليباف فتى الحرس الثوري المدلل

محمد باقر قاليباف  فتى الحرس الثوري المدلل

بعد 12 سنة من تجربة رئاسة بلدية طهران سيخوض محمد باقر قاليباف ثالث محاولة له للوصول إلى كرسي الرئاسة في إيران. وكان قاليباف خلال الشهور الأخيرة قد واجه تحديات مثل «فضيحة العقارات الفلكية» وانهيار مركز بلاسكو التجاري، في وسط المدينة، قبل تقديم أوراق الترشح رسميا.
من جهة ثانية، يعد الرجل من مئات آلاف المراهقين الإيرانيين الذين ابتلعتهم ماكينة غسل الدماغ الآيديولوجية للحرس الثوري الإيراني في بداية تأسيسه. كما يعد قاليباف المنحدر من قرية قريبة من مدينة مشهد ثاني كبرى مدن البلاد، واحداً من الفتيان القلائل الذين كتبت لهم النجاة بعد الحرب العراقية الإيرانية، ليجد طريقه لاحقا إلى أعلى المناصب العسكرية والقيادية في الجهاز المكلف بحماية ثالوث المرشد والنظام والثورة.

ولد محمد باقر قاليباف في أغسطس (آب) 1961 في بلدة طرقبة، قرب مدينة مشهد قاعدة خراسان وثاني كبرى مدن إيران، لأسرة متوسطة الحال. وتعني كلمة «قاليباف» (المركبة من قالي وباف) «حائك السجاد» بالفارسية. وكان عمره 17 سنة عندما أقر آية الله الخميني نظام ولاية الفقيه بعد الثورة الإيرانية عام 1979. ومع تأسيس الحرس الثوري في بداية الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر (أيلول) 1980 التحق قاليباف بصفوف المحاربين في جبهات جنوب غربي البلاد.
ثم بعد سنتين من التحاقه بالحرس الثوري، وجد قاليباف نفسه في قيادة لواء نواته من الخراسانيين اسمه «إمام الرضا» قبل أن يصبح قائد فيلق «نصر خراسان»، أبرز فيالق الحرس الثوري خلال سنوات الحرب في سن الـ22. ومع نهاية الحرب تولى قاليباف قيادة مجموعة «خاتم الأنبياء»، الذراع الاقتصادية للحرس الثوري، قبل أن ينتقل لقيادة القوة الجوية في الحرس بين عامي 1997 و2000. وكان قاليباف من قادة الحرس الذين تلقوا تدريبات عسكرية في كوريا الشمالية عام 1995، وخضع لفترة تدريبية في شركة إيرباص لقيادة الطائرات المدنية قبل تعيينه في منصب قائد جوية الحرس الثوري. وفي الفترة نفسها حصل على دكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة «تربيت مدرس» أحد أهم معاقل المحافظين في المراكز العلمية الإيرانية.

* «جنرال الكماشة»
بعد أيام من انطلاق الاحتجاجات الطلابية في يوليو (تموز)  1999 وجه 23 من أبرز قادة الحرس الثوري رسالة شديدة اللهجة إلى (الرئيس يومذاك) محمد خاتمي، هددوا فيها بالتدخل إن لم توقف الحكومة الحراك الطلابي. ولكن الرسالة حملت ما هو أكبر من التهديد بالتدخل، حيث بدأت بـ«طفح الكيل» تهديداً صريحاً بالانقلاب العسكري ضد الحكومة «الإصلاحية». وكانت تلك من أوضح تدخلات الحرس الثوري في شؤون الحكومة منذ تأسيس الحرس. وفي تسجيل تسرب لاحقاً عبر المواقع الإيرانية يقول فيه قاليباف، إنه ترك مكتبه وأمسك بالعصا ونزل إلى الشارع لمواجهة الطلاب. كما يقول في التسجيل: «عندما وقعت اضطرابات الحي الطلابي 1999، كتبت الرسالة الموجهة إلى خاتمي أنا والسيد قاسم سليماني (قائد فيلق القدس)، وعندما تحرك الطلاب باتجاه بيت المرشد كنت قائد جوية الحرس الثوري». وفي إشارة إلى صوره يتابع: «عندما تكون هناك ضرورة ننزل إلى الشارع ونضرب بالعصا. نكون بين من يضربون العصا. نفتخر بذلك. لم أقل حينها أنا قائد القوات الجوية... ما شأنك بذلك؟».
بعد عام من أحداث الحركة الطلابية، وقع اختيار خامنئي على قاليباف لقيادة الشرطة الإيرانية. ويذكر عنه أنه قام بتحديث الشرطة الإيرانية عبر تعزيزها بأحدث التجهيزات، لكن كثرت المضايقات ضد الناشطين والفنانين والمثقفين في هذه الفترة، وأعاد قاليباف دوريات الآداب العامة التي كانت قد توقفت بعد حل اللجان الثورية عام 1991 ودمج عناصرها بالشرطة. وللعلم، في مناظرات الانتخابات 2013 حاول قاليباف توجيه ضربة للمرشح (الرئيس الحالي حسن روحاني) أثناء حديثه عن ضرورة الانفتاح السياسي متهما إياه بمنع إصدار تراخيص نشاطات سياسية عندما كان أميناً عاما لمجلس الأمن الوطني. ذلك الموقف رد عليه روحاني بضربة أقوى عندما قال: «أنا أستغرب جدا السيد قاليباف. صحيح يجب أن نتنافس لكن ليس بهذه الطريقة. قلبي لم يطاوعني قول ذلك لكنك تجبرني على قوله. أنتم مَن قال: اسمحوا بتقدم الطلاب. نحن لدينا استراتيجية الكماشة. نحن قلنا ليس طريقة مناسبة أن نصدر ترخيصا لكي تقوموا باعتقال بالجملة». ومنذ تلك اللحظة تحديدا تحولت تسمية «الكماشة» - «غازانبري» بالفارسية - إلى شبح يطارد اسم قاليباف في حله وترحاله.
هذه الخلفية العسكرية خدمت منافسي قاليباف في الانتخابات الرئاسية الثلاثة التي شارك فيها. حاول خصومه العزف على وتر سجله الأمني والعسكري للاستدلال على فقدانه للخطاب السياسي الواضح. تقديم قاليباف على أنه الرئيس الذي يجيد توجيه الأوامر بالطريقة العسكرية استهدف سلته الانتخابية بين أطياف المجتمع الذين يطالبون بتنمية الحريات السياسية والاجتماعية.

* أول فشل انتخابي
في عام 2005 قرر قاليباف ترك قيادة الشرطة الإيرانية والملابس العسكرية ودخول معترك السياسة رسمياً عبر الترشح للرئاسة الإيرانية، إلا أن التجربة فشلت تماماً، بعدما حل في المرتبة الرابعة بعد محمود أحمدي نجاد والرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني والزعيم «الإصلاحي» مهدي كروبي، وخرج من الجولة الأولى بعدما كان متقدما على المرشحين المحافظين الآخرين وفق استطلاعات الرأي. لكن دعم أحمدي نجاد من نجل المرشد الإيراني مجتبى خامنئي قلب المعادلة، وهكذا انحصرت الجولة الثانية بين أحمدي نجاد وهاشمي رفسنجاني.
بعد السقوط الأول استقرت مسيرة قاليباف في بلدية طهران. إذ بعد أقل من ثلاثة شهور من هزيمته في الانتخابات الرئاسية صوت مجلس بلدية طهران ذو الغالبية المحافظة لصالحه في منصب رئيس بلدية العاصمة خلفا لأحمدي نجاد وذلك بعد موافقة ثمانية ومعارضة سبعة من أعضاء المجلس.

* التجربة الرئاسية الثانية
بعد ذلك عاد قاليباف لفكرة المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 2013 تحت شعار «الحياة - الشعب - التغيير». وهذه المرة حاز المرتبة الثانية بستة ملايين صوت لكنه خسر بفارق كبير ‌‌‌أمام روحاني. ولقد أسهم ترشح غلام علي حداد عادل وعلي أكبر ولايتي (كلاهما من التيار المحافظ) بإضعاف موقف قاليباف، إذ أظهر عمق الخلافات بين «المحافظين».
وهنا، تجدر الإشارة، إلى أنه على مدى 12 سنة في منصب عمدة طهران عمل قاليباف على زيادة دخل بلدية طهران عبر بيع الأراضي في محيط طهران وتحويل الأراضي الزراعية إلى تجارية. وبالتالي، يواجه تهما بأن إجراءاته استهدفت الفقراء في العاصمة وضواحيها، ولا سيما، توسيع الطرق والقيام بمشروعات عملاقة تركت آثارا سلبية على الطبقة الفقيرة والعاملة في طهران كما تركت شبهات كبيرة بوقوع تجاوزات مالية.

* التجربة الرئاسية الثالثة
في انتخابات هذا العام تراجع قاليباف عن خطابه المعهود في السنوات الثماني الماضية، وتقمص شعارات الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بتركيزه على القضايا التي تهم الطبقة المتوسطة والفقيرة، وتحديدا الوضع المعيشي الضاغط في إيران هذه الأيام. وبموازاة ذلك، حاولت وسائل الإعلام أن ترسم له صورة الرجل المتواضع الذي يفضل الحياة ببساطة على الرجل صاحب «الكاريزما» الخاصة وصاحب البدلات الثمينة. وهي الصورة التي يحرص قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، على الظهور بها أمام الإيرانيين. وخلال المناظرة الثانية التي أجريت في 5 مايو (أيار)  الحالي دافع قاليباف عن أداء حكومة أحمدي نجاد، وقال إنها اهتمت بالطبقات الفقيرة أفضل من إدارة روحاني. لكن ذلك لم يرق أحمدي نجاد الذي اتهم قاليباف بالسعي وراء خطف سلته الانتخابية.
وبعدما أعلنت الجماعات المحافظة تأسيس الجبهة الشعبية للقوى الثورية (جمنا) بهدف تفادي خسارة الانتخابات 2013، برز اسم قاليباف بين المرشحين الأساسيين للمحافظين، إلا أن حضوره لم يتأكد إلا في اللحظات الأخيرة من تقديم طلبات الترشح. وللعلم، قبل تقديمه الطلب بأسبوع أثار قاليباف يوم 5 أبريل (نيسان) تكهنات عن عزوفه، إثر بيان قال فيه إنه لا يوجد لديه أي مخطط لخوض الانتخابات لكنه سيعمل بكل طاقته لقدوم رئيس جديد من أجل تغيير أساسي في البلاد.
ومن ثم، قرأ المراقبون عودة قاليباف للترشح بأنه نتيجة خلافات عميقة بينه وبين «جمنا»، التي تشير التوقعات إلى أنها ستدعم ترشح المدعي العام السابق إبراهيم رئيسي مرشحا نهائيا ضد الرئيس المنتهية ولايته روحاني. ووفق بيان «جمنا» فإن مرشحيها وافقوا على الانسحاب لصالح المرشح الأصلح. وحقاً، مع دخول الحملات الانتخابية الأسبوع الأخير يتقدم رئيسي على قاليباف بعدما أعلنت جماعة «جبهة بايداري» وجمعية رابطة مدرسي وطلاب حوزة قُم العلمية ورابطة العلماء المجاهدين، أهم جمعيات رجال الدين الإيراني، تأييد ترشح رئيسي. في المقابل، لم يعلن أي حزب محافظ تأييد قاليباف بعد.
مع هذا، من النقاط الإيجابية لقاليباف قدرته على تنظيم الحملات الانتخابية في كل مناطق إيران، وهو يحافظ على هيكل حملاته الانتخابية منذ أول فترة شارك فيها عام 2005. كذلك فإنه يملك منابر إعلامية كثيرة تعبّر عن وجهة نظر جماعته من بينها موقعا «فردا نيوز» و«شفاف نيوز»، ثم إن صحيفتي «همشهري» و«تهران أمروز» التابعتين لبلدية طهران تعدان من المنابر المنحازة لاتجاه قاليباف السياسي. ويعتقد وجود أكثر من خمسين موقعاً نشطاً ضمن مجموعة قاليباف الإعلامية. أضف لما سبق أنه عرف عن قاليباف خلال السنوات الماضية قدرته على استقطاب المواهب الإعلامية والسياسية في الجامعات الإيرانية المعروفة وضمها إلى فريقه الإعلامي القوي.
مقابل ذلك، قبل أشهر من انطلاق الحملات الانتخابية واجه قاليباف تحديات مثل فضيحة العقارات الفلكية، إذ كشف موقع «معماري نيوز» عن بيع عقارات مملوكة لبلدية طهران لأعضاء في مجلس البلدية ومسؤولين وقيادات عسكرية بأقل من نصف سعر السوق. وجاءت الفضيحة بعد شهرين من تعرض حكومة روحاني لضغوط واسعة بسبب فضيحة «الرواتب الفلكية». وفي فبراير (شباط) أدى حريق في قلب طهران التجاري إلى انهيار أكبر مجمع لبيع الملابس مما أدى إلى مقتل أكثر من 15 من رجال الإطفاء و10 مواطنين.
اليوم، من أبرز الوعود التي يقطعها قاليباف هذه الأيام توفير أربعة ملايين فرصة عمل لتخلص البلاد من أزمة البطالة، فضلا عن رفع المساعدات المالية المقدمة للمواطنين نحو 2 - 5  إذا ما جلس على كرسي الرئاسة. ومع أن خصومه حاولوا اتهامه بأنه يهدد الحريات، وأنه «الجنرال» الذي يحاول إقصاء الإناث من الوظائف ويعيد الأجواء الأمنية إلى زمن أحمدي نجاد، فإن قاليباف يحظى بدعم بعض أقدم قادة الحرس الثوري والمتنفذين منهم. كذلك تربطه علاقات وثيقة بقاسم سليماني ويجمع في فريقه عددا كبيرا من المستشارين شغلوا مناصب قيادية في الحرس الثوري إبان الحرب. كذلك يحظى قاليباف بدعم قادة الحرس الثوري الصاعدين برافعة الآيديولوجيا.
مع هذا يرى مراقبون أن تأييد رئيسي من قبل آخرين من كبار قادة الحرس الثوري قد يتحول إلى عامل ضغط على قاليباف، قد يجبره على التنازل لصالح المنافس المفضل لخوض الانتخابات. ويذكر هنا أنه في بداية الحملات الانتخابية تردد أن قاليباف تلقى وعودا من «جمنا» بأن يكون نائب الرئيس إذا ما وصل إلى كرسي الرئاسة.
بناءً عليه يمكن القول إن طموح «فتى خراسان المدلل» في الحرس الثوري قد يتعثر بطموح إبراهيم رئيسي «فتى خراسان المدلل» في القضاء... وهو الذي يضع نصب عينيه منصب المرشد الأعلى، الذي يحتله راهناً خراساني ثالث هو علي خامنئي. ثم قد يلعب القدر لعبته في السنوات القليلة المقبلة فيرتدي رئيسي عباءة خامنئي... ويجلس قاليباف بدلا منه على كرسي الرئاسة.
 



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».