اتساع الثقوب في النسيج الليبي

نزاع إقليمي على إدارة الملف... وواشنطن تترقب

اتساع الثقوب في النسيج الليبي
TT

اتساع الثقوب في النسيج الليبي

اتساع الثقوب في النسيج الليبي

تتسع الثقوب في النسيج الوطني الليبي. ووصل الحديث، محليا ودوليا، لاحتمالات تقسيم البلاد، أو عودة الحكم فيها إلى نظام الولايات الثلاث، أو النظام الفيدرالي. وفي الوقت الراهن يبدو أن هناك قطبين إقليميين يتنافسان على الملف الليبي. القطب الأول، كما تقول الدكتورة أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، يضم مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، والقطب الثاني، يضم تركيا وقطر. وفي ظل نظام دولي آخذ في التراجع، أدى استمرار الفوضى في هذا البلد الغني بالنفط، إلى تفاقم الصراع على خلفيات ثقافية وعلى إرث قديم يتعلق بمن تكون له الأولوية في تقرير مصير الدولة الليبية. وبينما تترقب واشنطن الموقف، أصبحت مجموعة من القوى الإقليمية والدولية، تبحث عن موضع قدم في ليبيا، للاستفادة من النفط والغاز، وإيجاد نفوذ على الساحل وفي العمق الأفريقي.
اليوم، في عصر المعلومات والمشاعر المتضاربة، يسود التنافس محليا أيضا. يشتعل ويخبو، ثم يعود مرة أخرى للتوهج، بين «القبلية»، وأغلبها في مناطق الشرق، والجهوية ومعظمها في مدن الغرب.

من قصر المنار، مقر إقامة ملك ليبيا الراحل إدريس السنوسي في مدينة بنغازي، إلى باب العزيزية مقر حكم العقيد معمر القذافي في مدينة طرابلس، تعامل كل زعيم من الزعماء الذين أداروا شؤون الدولة الصحراوية المطلة على البحر المتوسط، بطريقة تصب في اتجاه التوفيق بين طبيعة الشرق المتحفزة، وحالة الغرب التي تنزع إلى الاستقرار. ويمكن أن تفهم من رجل عسكري، مثل العميد مصطفى الشركسي، قائد سرايا الدفاع عن بنغازي، أن تحفُّز الشرق أصبح يقترن، في بعض الأحيان، بعملية تشبه التطهير العرقي، لطرد ذوي الأصول الغربية الذين يعيشون منذ مئات السنين في بنغازي.
وأيا ما كانت الظروف، فإن الأوضاع في ليبيا اليوم تُنذر بالخطر على مستقبل الدولة نفسها. وتقول الدكتورة الطويل، إن الخسارة، في هذه الحالة، ستطال الجميع؛ الشعب الليبي، ودول الجوار، وأفريقيا وأوروبا. وتحذر من الصراع على «التورتة الليبية».
في رأي البعض، فإن الفهم العميق ينبغي ألا يستند فقط على قراءة تقارير السياسيين وأجهزة الاستخبارات والتوجيه الإعلامي، ولكن لا بد من استشراف رؤى القيادات المحلية، والاستماع جيدا إلى قصائد الشعراء الشعبيين الذين يحظون باحترام في الأوساط العامة، ويخلطون قصص الحب والوفاء ونكران الجميل، بالواقع والتاريخ واحتمالات المستقبل.
«العقل عندكم والقلب عندي دامي... والعين تدمع والخطى قاصرات». هذا مطلع قصيدة يشكو فيها الشاعر الليبي الشعبي كيلاني عبد الحفيظ المغربي، من ضيق الحال وقلة الحيلة. ويقول إن وضع ليبيا المضطرب، إذا استمر على ما هو عليه، فقد يؤدي إلى التقاء بين أنصار العهد الملكي، وهو تيار صاعد بالفعل، وأنصار نظام القذافي.
* الاعتراف بالاستقلال
في منتصف القرن الماضي كان الملك يُحضِّر للحصول على اعتراف دولي باستقلال ليبيا. كانت العقبة الوحيدة هي الخلافات بين قادة الشرق وزعماء الغرب، واستطاع أن يذيب الفوارق بين هذين التكتلين المتنافسين، عن طريق إدارة ليبيا عبر ثلاثة أقاليم: طرابلس وبرقة وفزان.
وحين جاء القذافي للحكم واجهته المشكلة نفسها بعدما قضى على نظام الأقاليم الثلاثة. وتقول الدكتورة الطويل: الذاكرة الليبية ما زالت تحتفظ بفترة نظام تلك الأقاليم الإدارية. وتضيف أن «دولة الاستقلال الوطني على النظم البالية (حكم القذافي نموذجا) ، لم تنجح في تحقيق دولة المواطنة ودولة المؤسسات»، بل اتبع القذافي نظاما شعبويا، عاد بليبيا لتكوينات ما قبل الدولة.
ويقول مصدر شارك في اجتماعات عقدت قبل يومين في لجنة في الكونغرس الأميركي، إن موضوع العودة إلى الأقاليم الثلاثة يعد من ضمن الحلول الموجودة لدى مستشاري الرئيس دونالد ترمب، لكنه أشار إلى ما أدلى به الكولونيل ولفغانغ بوزستاي، وهو عسكري نمساوي ذو خبرة مهمة لحلف شمال الأطلسي «ناتو»، عن إمكانية الوصول إلى تحقيق وحدة الدولة الليبية استنادا إلى شخصية قوية في طرابلس، وليس عن طريق فايز السراج المدعوم دوليا.
ارجع قليلا إلى الوراء... إلى ما قبل العهد الملكي. لقد كانت المشكلة قائمة أيضا منذ أكثر من مائة سنة، أي منذ بداية الصراع بين الإمبراطورية العثمانية المريضة، وتطلعات الدولة الإيطالية إلى شمال أفريقيا. لكل دولة رعايا ومصالح ونقاط عسكرية على البحر وفي الصحراء. وأدى ذلك إلى ظهور «الجمهورية الطرابلسية» في الغرب الليبي، بينما اختار الشرق الصدام مع القادمين من وراء الحدود.
حتى في أيام مقاومة الوجود الإيطالي، بقيادة عمر المختار، ظهرت مشكلة القبائل البدوية والجهويين في الغرب. ويقول أحد أحفاد المختار، الدكتور ولاء خطاب، وهو أستاذ متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، إن المشكلة التي تمر بها ليبيا اليوم، هي نتاج الموروث الثقافي.
ويتابع: «إقليم طرابلس فيه أصول متعددة، بحكم استقرار كثير من رعايا دول البحر المتوسط كتركيا وإيطاليا واليونان ومالطا، في طرابلس ومصراتة... وبينما يعرف المواطن نفسه في شرق البلاد باسم قبيلته؛ برعصي، أو منفي، أو عبيدي، أو مغربي، تجد المواطن في الغرب يحرص على تعريف نفسه باسم المدينة التي ينتمي إليها؛ مصراتي، أو طرابلسي، أو زليتني، وغيرها».
كان آلاف الشبان الذين خرجوا لإطاحة القذافي، في ساحة المحكمة على بحر بنغازي، لا يسيرون على هذا النهج. ويعد الشاب رجب بن غزي، من بين هؤلاء. وهو ناشط ليبي وإعلامي مشهور، ومن الأجيال التي كان لها تطلعات لعهد جديد بعد 2011، لكنه اليوم يعيد قراءة الماضي. ويقول: «كثيرٌ من الليبيين يحمِّلون مسؤولية ما انتهت إليه الدولة اليوم، إلى إرث 42 سنة من حكم القذافي، لكن هذا تبين لي أنه غير صحيح».
* حساسيات محلية وجهوية
وتعج ليبيا بحساسيات قبلية يعود بعضها إلى أكثر من 300 سنة مضت، ليس في الشرق فقط، ولكن في الغرب أيضا. وأغلبية القبائل الليبية ذات أصول عربية، لكن توجد أيضا قبائل وعائلات كبيرة ذات أصول غير عربية. ومن الصراعات القبلية التاريخية، الخلافات القديمة التي تتجدد كل حين وآخر بين «المشاشية» و«الزنتان»، و«تاورغاء»، و«مصراتة»، و«ورفلة»، و«الطوارق»، و«التبو»، و«الأمازيغ»، و«العرب»، وغيرها.
ويقول الدكتور خطاب: كل هذه الصراعات أوقفها القذافي، وسيطر على ما كان يظهر منها في عهده بالحيلة حينا وبالطريقة القبلية حينا آخر.
وعلى مدار عقود كثيرة كان ظهور المنتديات الفكرية والسياسية الصاخبة، يقتصر على مدينتي بنغازي وطرابلس. ولم تكن الطليعة الليبية آنذاك، تعنى بقضية الداخل فقط، لكنها اتسمت بطابع قومي وإسلامي عابر للحدود، ما زالت آثاره باقية حتى اليوم. ويعد هذا، في رؤية البعض، من أسباب ارتباط كثير من سياسيي وزعماء الداخل، إلى الآن، بدول إقليمية أو حتى بأطراف دولية، ما يؤدي إلى صعوبة الوصول إلى حل.
وفي كتابه «التاريخ السياسي ومستقبل المجتمع المدني في ليبيا»، الصادر عن «دار برنيق للطباعة والترجمة والنشر»، يرى الكاتب والسياسي الليبي، إبراهيم عميش، أن بلاده كانت قِبلة لـ«قيادات إقليمية لفروع أحزاب سياسية وقومية ودينية، بكل ألوانها وانحيازاتها؛ اليمينية واليسارية... المتشددة منها والمعتدلة... ومنها حركة الإخوان وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب».
ويشغل عميش في الوقت الحالي رئاسة لجنة العدالة والمصالحة الوطنية في البرلمان الليبي. وكان في عهد القذافي من أعضاء جبهة الإنقاذ الليبية المعارضة في المنفى. ويقول إن الحراك الثقافي والسياسي المشار إليه كان مستمرا في ليبيا حتى منتصف القرن الماضي.
* ... لكنها لا تهدد الوحدة
ولا توجد في ليبيا مطالب عرقية أو مذهبية يمكن أن تهدد وحدة الدولة، مثل تلك التي نراها اليوم في العراق أو سوريا. لكن يبدو من الواقع أن الموضوع يتعلق بحساسيات قديمة حول مناطق النفوذ وحدود السلطة. وهذا ما حاول علاجه عمر المختار والملك السنوسي، والقذافي، لكن كل بطريقته.
ويقول الدكتور خطاب، إن عمر المختار «واجهته مشكلة الإرث القبلي، والإرث الحضري، ولهذا قسَّم عمليات الجهاد ضد الجيش الإيطالي المستعمر، على أدوار بين القبائل... دور لقبيلة العواقير، ودور لقبيلة البراعصة، ودور لقبيلة المغاربة، وهكذا». ويبدو أن هذا كان نظاما مرنا ومتوافقا مع الواقع حينذاك. مساحة كبيرة من حرية الحركة للقادة الميدانيين، مقابل إشراف وتوجيه مركزي من المختار. وظل كل قائد زعيما في منطقته وبين عشيرته.
ويضيف: «لهذا، حركة المقاومة ضد الطليان نجحت في برقة، وفشلت في طرابلس». وفي نهاية المطاف دبت الخلافات بين الشرق والغرب من جديد، وانتهى الأمر بإعدام الإيطاليين للمختار، وبعد ذلك بسنوات بدأ الأمير محمد إدريس السنوسي يجهز لرحلته إلى بريطانيا أملا في نيل الاستقلال وقيادة دولة موحدة.
كان إقليم برقة قد استقل بالفعل. وكان السنوسي يخشى من تقسيم البلاد. وفي قصر المنار الملكي، يوم الأول من يونيو (حزيران) عام 1949، عقدت جلسات المؤتمر الوطني البرقاوي، بحضور وفد المؤتمر الوطني الطرابلسي، برئاسة الشيخ محمد أبو الإسعاد العالم.
وافتتح السنوسي الجلسة الأولى بكلمة قال فيها: «لقد طلبت من بريطانيا العظمى والدول الأخرى، بما فيها البلدان العربية والإسلامية، أن تعترف باستقلال برقة». وأضاف: «أتمنى لإخواني في طرابلس أن يحصلوا على مثل ما حصلنا عليه في برقة، ونعلن وحدتنا معا تحت راية واحدة». وهذا ما حدث. ويقول المغربي: «وحدة ليبيا هو ما نريده اليوم بالفعل».
أما خلال حكم القذافي، فقد بدا أن هناك مراجل تغلي تحت السطح طوال 42 سنة. وتقول الدكتورة الطويل: «كان نظاما شعبويا هدفه الاحتفاظ بالسلطة لفترة طويلة، وعاد لتكوينات ما قبل الدولة. وهذه الشعبوية المسماة الكتاب الأخضر وحكم الشعب، أسفرت عن عدم وجود أحزاب سياسية في ليبيا. كما أن المؤتمر الشعبي (البرلمان أيام النظام السابق)، كان وثيق الصلة بشخص القذافي بشكل مباشر. وبالتالي لم يكن تعبيرا صحيحا عن جموع الناس».
وخرج آلاف الليبيين من البلاد هربا من التعسف والسجن، بداية من سبعينات القرن الماضي، وانصهروا في بوتقتين رئيسيتين في الخارج، بوتقة أنصار الدولة المدنية من يساريين وليبراليين، وبوتقة الإسلام السياسي. وعادوا جميعا في 2011 للالتحاق بانتفاضة الشرق ضد القذافي، وهم يرفعون شعار «لا للقبلية».
وكما يوضح المغربي: «هذا الشعار أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، ولم يوجد بديل له قابل للحياة حتى الآن. وبدأ الليبيون يبحثون عن طريقة للعيش؛ هل يعودون لنظام الأقاليم إبان حكم الملك، أم ماذا؟».
* أي نظام إداري؟
وتضمن كتاب «ليبيا إلى أين» الذي أعده مجموعة من الباحثين، وصدر عن دار «مدبولي الصغير» بالقاهرة، كثيرا من الشهادات التي تعكس حالة عدم اليقين لدى قطاع كبير من الليبيين بشأن شكل النظام الإداري للدولة من فيدرالية، أو كونفيدرالية، أو دولة مركزية. وبشكل عام يتمسك غالبية الليبيين، مع حالة من الوجد يزكيها الشعراء الشعبيون، بخيار العيش معا تحت مظلة نظام واحد، أيا ما كان حجم التضحيات. وفي الوقت الراهن، وعلى غير ما هو شائع، يقول المغربي إن أنصار العهد الملكي، وأنصار نظام القذافي، يمكن أن يتصالحا، و«بالتالي يمكن التحدث حول الأقاليم الثلاثة من جديد، والالتفاف حول الدستور الملكي»، وهذا مما قاله القذافي حين أصيب باليأس من الشعب في آخر أيامه: «ها هو دستور 1951... أعيدوه إذا كنتم تريدونه». وهذا يعطي مدخلا لأنصار القذافي بأنهم لن يعارضوا العودة للدستور القديم.
ويقول المغربي الذي عاصر فترة الانتفاضة، إن من رفعوا شعار «لا للقبلية» في مظاهرات 2011 كان معظمهم من ذوي الأصول الحضرية ممن يعيشون في بنغازي، أو ممن عادوا من المنافي... و«استجاب الناس في البداية لهذا الشعار، وكان مَن تسأله: أنت من أي قبيلة، يقول لك: لا تسأل مثل هذا السؤال... أنا ليبي فقط». ويضيف: «استمر هذا حتى تمت السيطرة على الوضع بمقتل القذافي»، و«وصل الأمر بعد ذلك إلى أن من قام بحكم بنغازي كان من شخصيات ذات أصول تعود إلى غرب ليبيا، وللأسف كان حكما متعسفا تجاه أبناء قبائل الشرق. ومن هنا وقع الصدام في بنغازي».
ومن بين من خرجوا من الشرق، وأقاموا في الغرب العميد الشركسي نفسه، وهو من أصول مصراتية، وكان يعيش في بنغازي مع عائلته التي تقيم في الشرق منذ أكثر من مائة سنة. وهو يسعى حاليا، مع نحو ألف ضابط وجندي، ممن طردوا من بنغازي قبل سنة، للعودة إليها ولو بالقوة.
ومن أبرز الأمثلة على قدرة القبيلة وزعماء المناطق البدوية والحضرية، على تغيير موازين القوى، كما يقول المغربي، تلك الواقعة التي تخص الآمر السابق لحرس المنشآت النفطية في الشمال الأوسط من البلاد، الذي كان يبسط نفوذه على أكثر المناطق حيوية لاقتصاد الدولة.
ويوضح: «حين وقفت قبيلة المغاربة وقالت نحن مع الجيش (بقيادة المشير خليفة حفتر) وجد آمر حرس المنشآت نفسه وحيدا ومعزولا عن قبيلته، واضطر للفرار من المنطقة، رغم أنه كان يحظى بدعم من مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا مارتن كوبلر، ويحظى باهتمام الأميركيين والإنجليز والطليان». ويزيد: «لو كل قبيلة ترفع غطاءها عن ميلشياتها، فستنهار هذه الميليشيات التي تعرقل التفاهم بين الليبيين». ويقول الدكتور خطاب إن المتشددين نجحوا في المنطقة الغربية، لأنها تركيبة مدن، وتهاوت مراكزهم في المنطقة الشرقية، لأنهم لم يجدوا مأوى لدى أي قبيلة. ومن بين الحلول اللافتة لحل مشكلة الحكم والإدارة، تلك التي وردت في كتاب «ليبيا... إرادة التغيير»، الصادر عن «دار العلوم للنشر والتوزيع»، للكاتب الليبي إبراهيم قويدر، حيث اقترح فيه أن يكون التوزيع الجغرافي للإدارة التنفيذية والسياسية مقسما إلى عشرة أقاليم أو عشر ولايات، هي درنة، والجبل الأخضر، وبنغازي، وأجدابيا، والواحات، وسبها، ومصراتة، وطرابلس، وجبل نفوسة، والزاوية، على أن ينتخب من كل إقليم عشرة لعضوية المؤتمر العام (البرلمان) بمقدار مائة عضو.
* دور المصالح العالمية
إلا أن الحنين إلى حل الأقاليم الثلاثة لإنهاء الخلافات بين الأفرقاء، كما تقول الدكتورة أماني الطويل، يأتي في وقت أصبحت توجد فيه مصالح عالمية تخيف الليبيين على مستقبلهم. وتقول إن بعض القوى الدولية تريد إحياء أحزمة نفوذها القديمة في ليبيا. وعلى سبيل المثال «الفرنسيون يريدون إحياء الحزام الفرنسي القديم الممتد في وسط أفريقيا، من إقليم فزان في الجنوب، إلى تشاد وغيرها»، وهو أمر «يعزز بشكل أو بآخر مسألة تقسيم ليبيا».
وتوضح، فيما يتعلق بعدد من دول المنطقة التي يبدو أنها تتنازع حول الملف الليبي، بالقول إنه «في لحظة تشكل النظام الدولي الجديد، تظهر التنافسات الإقليمية بشكل واضح... وهذه سنة تاريخية كما يقال. وتحاول هذه التنافسات سد الفراغ الناجم عن ارتباك النظام الدولي أو انهياره، ولاقتناص الفرصة للحصول على جزء كبير في التورتة». وفي خضم الصراع الدائر في ليبيا، يبدو من جلسة لجنة الكونغرس، وفقا للمصدر ذاته، أن واشنطن تترقب، وتسعى، في الوقت نفسه، لإعادة قراءة المشهد وموازين القوى المحلية، والتشاور مع شركائها في المنطقة «قبل أي تصرف جذري».
ومن جانبها، تشدد الطويل على الاستقطاب الإقليمي بين قطر وتركيا من جانب، ومصر والإمارات من جانب آخر. لكنها توضح أن «العبرة هنا بالنتائج، بمعني مَن مِن المعسكرين، أو القطبين، أو التجمعين الإقليميين، هو الذي لديه مشروع لصالح الشعب الليبي؟». وتختتم: «أتصور أن تكون القوى السياسية الليبية واعية. هل مصلحة الشعب الليبي تتطلب الوحدة أم التقسيم؟ هل تتطلب أن تكون دولة مدنية حديثة، أو دولة دينية؟ هذه أسئلة منوط بالإجابة عنها الشعب الليبي ونخبه السياسية.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.