اتساع الثقوب في النسيج الليبي

نزاع إقليمي على إدارة الملف... وواشنطن تترقب

اتساع الثقوب في النسيج الليبي
TT

اتساع الثقوب في النسيج الليبي

اتساع الثقوب في النسيج الليبي

تتسع الثقوب في النسيج الوطني الليبي. ووصل الحديث، محليا ودوليا، لاحتمالات تقسيم البلاد، أو عودة الحكم فيها إلى نظام الولايات الثلاث، أو النظام الفيدرالي. وفي الوقت الراهن يبدو أن هناك قطبين إقليميين يتنافسان على الملف الليبي. القطب الأول، كما تقول الدكتورة أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، يضم مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، والقطب الثاني، يضم تركيا وقطر. وفي ظل نظام دولي آخذ في التراجع، أدى استمرار الفوضى في هذا البلد الغني بالنفط، إلى تفاقم الصراع على خلفيات ثقافية وعلى إرث قديم يتعلق بمن تكون له الأولوية في تقرير مصير الدولة الليبية. وبينما تترقب واشنطن الموقف، أصبحت مجموعة من القوى الإقليمية والدولية، تبحث عن موضع قدم في ليبيا، للاستفادة من النفط والغاز، وإيجاد نفوذ على الساحل وفي العمق الأفريقي.
اليوم، في عصر المعلومات والمشاعر المتضاربة، يسود التنافس محليا أيضا. يشتعل ويخبو، ثم يعود مرة أخرى للتوهج، بين «القبلية»، وأغلبها في مناطق الشرق، والجهوية ومعظمها في مدن الغرب.

من قصر المنار، مقر إقامة ملك ليبيا الراحل إدريس السنوسي في مدينة بنغازي، إلى باب العزيزية مقر حكم العقيد معمر القذافي في مدينة طرابلس، تعامل كل زعيم من الزعماء الذين أداروا شؤون الدولة الصحراوية المطلة على البحر المتوسط، بطريقة تصب في اتجاه التوفيق بين طبيعة الشرق المتحفزة، وحالة الغرب التي تنزع إلى الاستقرار. ويمكن أن تفهم من رجل عسكري، مثل العميد مصطفى الشركسي، قائد سرايا الدفاع عن بنغازي، أن تحفُّز الشرق أصبح يقترن، في بعض الأحيان، بعملية تشبه التطهير العرقي، لطرد ذوي الأصول الغربية الذين يعيشون منذ مئات السنين في بنغازي.
وأيا ما كانت الظروف، فإن الأوضاع في ليبيا اليوم تُنذر بالخطر على مستقبل الدولة نفسها. وتقول الدكتورة الطويل، إن الخسارة، في هذه الحالة، ستطال الجميع؛ الشعب الليبي، ودول الجوار، وأفريقيا وأوروبا. وتحذر من الصراع على «التورتة الليبية».
في رأي البعض، فإن الفهم العميق ينبغي ألا يستند فقط على قراءة تقارير السياسيين وأجهزة الاستخبارات والتوجيه الإعلامي، ولكن لا بد من استشراف رؤى القيادات المحلية، والاستماع جيدا إلى قصائد الشعراء الشعبيين الذين يحظون باحترام في الأوساط العامة، ويخلطون قصص الحب والوفاء ونكران الجميل، بالواقع والتاريخ واحتمالات المستقبل.
«العقل عندكم والقلب عندي دامي... والعين تدمع والخطى قاصرات». هذا مطلع قصيدة يشكو فيها الشاعر الليبي الشعبي كيلاني عبد الحفيظ المغربي، من ضيق الحال وقلة الحيلة. ويقول إن وضع ليبيا المضطرب، إذا استمر على ما هو عليه، فقد يؤدي إلى التقاء بين أنصار العهد الملكي، وهو تيار صاعد بالفعل، وأنصار نظام القذافي.
* الاعتراف بالاستقلال
في منتصف القرن الماضي كان الملك يُحضِّر للحصول على اعتراف دولي باستقلال ليبيا. كانت العقبة الوحيدة هي الخلافات بين قادة الشرق وزعماء الغرب، واستطاع أن يذيب الفوارق بين هذين التكتلين المتنافسين، عن طريق إدارة ليبيا عبر ثلاثة أقاليم: طرابلس وبرقة وفزان.
وحين جاء القذافي للحكم واجهته المشكلة نفسها بعدما قضى على نظام الأقاليم الثلاثة. وتقول الدكتورة الطويل: الذاكرة الليبية ما زالت تحتفظ بفترة نظام تلك الأقاليم الإدارية. وتضيف أن «دولة الاستقلال الوطني على النظم البالية (حكم القذافي نموذجا) ، لم تنجح في تحقيق دولة المواطنة ودولة المؤسسات»، بل اتبع القذافي نظاما شعبويا، عاد بليبيا لتكوينات ما قبل الدولة.
ويقول مصدر شارك في اجتماعات عقدت قبل يومين في لجنة في الكونغرس الأميركي، إن موضوع العودة إلى الأقاليم الثلاثة يعد من ضمن الحلول الموجودة لدى مستشاري الرئيس دونالد ترمب، لكنه أشار إلى ما أدلى به الكولونيل ولفغانغ بوزستاي، وهو عسكري نمساوي ذو خبرة مهمة لحلف شمال الأطلسي «ناتو»، عن إمكانية الوصول إلى تحقيق وحدة الدولة الليبية استنادا إلى شخصية قوية في طرابلس، وليس عن طريق فايز السراج المدعوم دوليا.
ارجع قليلا إلى الوراء... إلى ما قبل العهد الملكي. لقد كانت المشكلة قائمة أيضا منذ أكثر من مائة سنة، أي منذ بداية الصراع بين الإمبراطورية العثمانية المريضة، وتطلعات الدولة الإيطالية إلى شمال أفريقيا. لكل دولة رعايا ومصالح ونقاط عسكرية على البحر وفي الصحراء. وأدى ذلك إلى ظهور «الجمهورية الطرابلسية» في الغرب الليبي، بينما اختار الشرق الصدام مع القادمين من وراء الحدود.
حتى في أيام مقاومة الوجود الإيطالي، بقيادة عمر المختار، ظهرت مشكلة القبائل البدوية والجهويين في الغرب. ويقول أحد أحفاد المختار، الدكتور ولاء خطاب، وهو أستاذ متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، إن المشكلة التي تمر بها ليبيا اليوم، هي نتاج الموروث الثقافي.
ويتابع: «إقليم طرابلس فيه أصول متعددة، بحكم استقرار كثير من رعايا دول البحر المتوسط كتركيا وإيطاليا واليونان ومالطا، في طرابلس ومصراتة... وبينما يعرف المواطن نفسه في شرق البلاد باسم قبيلته؛ برعصي، أو منفي، أو عبيدي، أو مغربي، تجد المواطن في الغرب يحرص على تعريف نفسه باسم المدينة التي ينتمي إليها؛ مصراتي، أو طرابلسي، أو زليتني، وغيرها».
كان آلاف الشبان الذين خرجوا لإطاحة القذافي، في ساحة المحكمة على بحر بنغازي، لا يسيرون على هذا النهج. ويعد الشاب رجب بن غزي، من بين هؤلاء. وهو ناشط ليبي وإعلامي مشهور، ومن الأجيال التي كان لها تطلعات لعهد جديد بعد 2011، لكنه اليوم يعيد قراءة الماضي. ويقول: «كثيرٌ من الليبيين يحمِّلون مسؤولية ما انتهت إليه الدولة اليوم، إلى إرث 42 سنة من حكم القذافي، لكن هذا تبين لي أنه غير صحيح».
* حساسيات محلية وجهوية
وتعج ليبيا بحساسيات قبلية يعود بعضها إلى أكثر من 300 سنة مضت، ليس في الشرق فقط، ولكن في الغرب أيضا. وأغلبية القبائل الليبية ذات أصول عربية، لكن توجد أيضا قبائل وعائلات كبيرة ذات أصول غير عربية. ومن الصراعات القبلية التاريخية، الخلافات القديمة التي تتجدد كل حين وآخر بين «المشاشية» و«الزنتان»، و«تاورغاء»، و«مصراتة»، و«ورفلة»، و«الطوارق»، و«التبو»، و«الأمازيغ»، و«العرب»، وغيرها.
ويقول الدكتور خطاب: كل هذه الصراعات أوقفها القذافي، وسيطر على ما كان يظهر منها في عهده بالحيلة حينا وبالطريقة القبلية حينا آخر.
وعلى مدار عقود كثيرة كان ظهور المنتديات الفكرية والسياسية الصاخبة، يقتصر على مدينتي بنغازي وطرابلس. ولم تكن الطليعة الليبية آنذاك، تعنى بقضية الداخل فقط، لكنها اتسمت بطابع قومي وإسلامي عابر للحدود، ما زالت آثاره باقية حتى اليوم. ويعد هذا، في رؤية البعض، من أسباب ارتباط كثير من سياسيي وزعماء الداخل، إلى الآن، بدول إقليمية أو حتى بأطراف دولية، ما يؤدي إلى صعوبة الوصول إلى حل.
وفي كتابه «التاريخ السياسي ومستقبل المجتمع المدني في ليبيا»، الصادر عن «دار برنيق للطباعة والترجمة والنشر»، يرى الكاتب والسياسي الليبي، إبراهيم عميش، أن بلاده كانت قِبلة لـ«قيادات إقليمية لفروع أحزاب سياسية وقومية ودينية، بكل ألوانها وانحيازاتها؛ اليمينية واليسارية... المتشددة منها والمعتدلة... ومنها حركة الإخوان وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب».
ويشغل عميش في الوقت الحالي رئاسة لجنة العدالة والمصالحة الوطنية في البرلمان الليبي. وكان في عهد القذافي من أعضاء جبهة الإنقاذ الليبية المعارضة في المنفى. ويقول إن الحراك الثقافي والسياسي المشار إليه كان مستمرا في ليبيا حتى منتصف القرن الماضي.
* ... لكنها لا تهدد الوحدة
ولا توجد في ليبيا مطالب عرقية أو مذهبية يمكن أن تهدد وحدة الدولة، مثل تلك التي نراها اليوم في العراق أو سوريا. لكن يبدو من الواقع أن الموضوع يتعلق بحساسيات قديمة حول مناطق النفوذ وحدود السلطة. وهذا ما حاول علاجه عمر المختار والملك السنوسي، والقذافي، لكن كل بطريقته.
ويقول الدكتور خطاب، إن عمر المختار «واجهته مشكلة الإرث القبلي، والإرث الحضري، ولهذا قسَّم عمليات الجهاد ضد الجيش الإيطالي المستعمر، على أدوار بين القبائل... دور لقبيلة العواقير، ودور لقبيلة البراعصة، ودور لقبيلة المغاربة، وهكذا». ويبدو أن هذا كان نظاما مرنا ومتوافقا مع الواقع حينذاك. مساحة كبيرة من حرية الحركة للقادة الميدانيين، مقابل إشراف وتوجيه مركزي من المختار. وظل كل قائد زعيما في منطقته وبين عشيرته.
ويضيف: «لهذا، حركة المقاومة ضد الطليان نجحت في برقة، وفشلت في طرابلس». وفي نهاية المطاف دبت الخلافات بين الشرق والغرب من جديد، وانتهى الأمر بإعدام الإيطاليين للمختار، وبعد ذلك بسنوات بدأ الأمير محمد إدريس السنوسي يجهز لرحلته إلى بريطانيا أملا في نيل الاستقلال وقيادة دولة موحدة.
كان إقليم برقة قد استقل بالفعل. وكان السنوسي يخشى من تقسيم البلاد. وفي قصر المنار الملكي، يوم الأول من يونيو (حزيران) عام 1949، عقدت جلسات المؤتمر الوطني البرقاوي، بحضور وفد المؤتمر الوطني الطرابلسي، برئاسة الشيخ محمد أبو الإسعاد العالم.
وافتتح السنوسي الجلسة الأولى بكلمة قال فيها: «لقد طلبت من بريطانيا العظمى والدول الأخرى، بما فيها البلدان العربية والإسلامية، أن تعترف باستقلال برقة». وأضاف: «أتمنى لإخواني في طرابلس أن يحصلوا على مثل ما حصلنا عليه في برقة، ونعلن وحدتنا معا تحت راية واحدة». وهذا ما حدث. ويقول المغربي: «وحدة ليبيا هو ما نريده اليوم بالفعل».
أما خلال حكم القذافي، فقد بدا أن هناك مراجل تغلي تحت السطح طوال 42 سنة. وتقول الدكتورة الطويل: «كان نظاما شعبويا هدفه الاحتفاظ بالسلطة لفترة طويلة، وعاد لتكوينات ما قبل الدولة. وهذه الشعبوية المسماة الكتاب الأخضر وحكم الشعب، أسفرت عن عدم وجود أحزاب سياسية في ليبيا. كما أن المؤتمر الشعبي (البرلمان أيام النظام السابق)، كان وثيق الصلة بشخص القذافي بشكل مباشر. وبالتالي لم يكن تعبيرا صحيحا عن جموع الناس».
وخرج آلاف الليبيين من البلاد هربا من التعسف والسجن، بداية من سبعينات القرن الماضي، وانصهروا في بوتقتين رئيسيتين في الخارج، بوتقة أنصار الدولة المدنية من يساريين وليبراليين، وبوتقة الإسلام السياسي. وعادوا جميعا في 2011 للالتحاق بانتفاضة الشرق ضد القذافي، وهم يرفعون شعار «لا للقبلية».
وكما يوضح المغربي: «هذا الشعار أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، ولم يوجد بديل له قابل للحياة حتى الآن. وبدأ الليبيون يبحثون عن طريقة للعيش؛ هل يعودون لنظام الأقاليم إبان حكم الملك، أم ماذا؟».
* أي نظام إداري؟
وتضمن كتاب «ليبيا إلى أين» الذي أعده مجموعة من الباحثين، وصدر عن دار «مدبولي الصغير» بالقاهرة، كثيرا من الشهادات التي تعكس حالة عدم اليقين لدى قطاع كبير من الليبيين بشأن شكل النظام الإداري للدولة من فيدرالية، أو كونفيدرالية، أو دولة مركزية. وبشكل عام يتمسك غالبية الليبيين، مع حالة من الوجد يزكيها الشعراء الشعبيون، بخيار العيش معا تحت مظلة نظام واحد، أيا ما كان حجم التضحيات. وفي الوقت الراهن، وعلى غير ما هو شائع، يقول المغربي إن أنصار العهد الملكي، وأنصار نظام القذافي، يمكن أن يتصالحا، و«بالتالي يمكن التحدث حول الأقاليم الثلاثة من جديد، والالتفاف حول الدستور الملكي»، وهذا مما قاله القذافي حين أصيب باليأس من الشعب في آخر أيامه: «ها هو دستور 1951... أعيدوه إذا كنتم تريدونه». وهذا يعطي مدخلا لأنصار القذافي بأنهم لن يعارضوا العودة للدستور القديم.
ويقول المغربي الذي عاصر فترة الانتفاضة، إن من رفعوا شعار «لا للقبلية» في مظاهرات 2011 كان معظمهم من ذوي الأصول الحضرية ممن يعيشون في بنغازي، أو ممن عادوا من المنافي... و«استجاب الناس في البداية لهذا الشعار، وكان مَن تسأله: أنت من أي قبيلة، يقول لك: لا تسأل مثل هذا السؤال... أنا ليبي فقط». ويضيف: «استمر هذا حتى تمت السيطرة على الوضع بمقتل القذافي»، و«وصل الأمر بعد ذلك إلى أن من قام بحكم بنغازي كان من شخصيات ذات أصول تعود إلى غرب ليبيا، وللأسف كان حكما متعسفا تجاه أبناء قبائل الشرق. ومن هنا وقع الصدام في بنغازي».
ومن بين من خرجوا من الشرق، وأقاموا في الغرب العميد الشركسي نفسه، وهو من أصول مصراتية، وكان يعيش في بنغازي مع عائلته التي تقيم في الشرق منذ أكثر من مائة سنة. وهو يسعى حاليا، مع نحو ألف ضابط وجندي، ممن طردوا من بنغازي قبل سنة، للعودة إليها ولو بالقوة.
ومن أبرز الأمثلة على قدرة القبيلة وزعماء المناطق البدوية والحضرية، على تغيير موازين القوى، كما يقول المغربي، تلك الواقعة التي تخص الآمر السابق لحرس المنشآت النفطية في الشمال الأوسط من البلاد، الذي كان يبسط نفوذه على أكثر المناطق حيوية لاقتصاد الدولة.
ويوضح: «حين وقفت قبيلة المغاربة وقالت نحن مع الجيش (بقيادة المشير خليفة حفتر) وجد آمر حرس المنشآت نفسه وحيدا ومعزولا عن قبيلته، واضطر للفرار من المنطقة، رغم أنه كان يحظى بدعم من مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا مارتن كوبلر، ويحظى باهتمام الأميركيين والإنجليز والطليان». ويزيد: «لو كل قبيلة ترفع غطاءها عن ميلشياتها، فستنهار هذه الميليشيات التي تعرقل التفاهم بين الليبيين». ويقول الدكتور خطاب إن المتشددين نجحوا في المنطقة الغربية، لأنها تركيبة مدن، وتهاوت مراكزهم في المنطقة الشرقية، لأنهم لم يجدوا مأوى لدى أي قبيلة. ومن بين الحلول اللافتة لحل مشكلة الحكم والإدارة، تلك التي وردت في كتاب «ليبيا... إرادة التغيير»، الصادر عن «دار العلوم للنشر والتوزيع»، للكاتب الليبي إبراهيم قويدر، حيث اقترح فيه أن يكون التوزيع الجغرافي للإدارة التنفيذية والسياسية مقسما إلى عشرة أقاليم أو عشر ولايات، هي درنة، والجبل الأخضر، وبنغازي، وأجدابيا، والواحات، وسبها، ومصراتة، وطرابلس، وجبل نفوسة، والزاوية، على أن ينتخب من كل إقليم عشرة لعضوية المؤتمر العام (البرلمان) بمقدار مائة عضو.
* دور المصالح العالمية
إلا أن الحنين إلى حل الأقاليم الثلاثة لإنهاء الخلافات بين الأفرقاء، كما تقول الدكتورة أماني الطويل، يأتي في وقت أصبحت توجد فيه مصالح عالمية تخيف الليبيين على مستقبلهم. وتقول إن بعض القوى الدولية تريد إحياء أحزمة نفوذها القديمة في ليبيا. وعلى سبيل المثال «الفرنسيون يريدون إحياء الحزام الفرنسي القديم الممتد في وسط أفريقيا، من إقليم فزان في الجنوب، إلى تشاد وغيرها»، وهو أمر «يعزز بشكل أو بآخر مسألة تقسيم ليبيا».
وتوضح، فيما يتعلق بعدد من دول المنطقة التي يبدو أنها تتنازع حول الملف الليبي، بالقول إنه «في لحظة تشكل النظام الدولي الجديد، تظهر التنافسات الإقليمية بشكل واضح... وهذه سنة تاريخية كما يقال. وتحاول هذه التنافسات سد الفراغ الناجم عن ارتباك النظام الدولي أو انهياره، ولاقتناص الفرصة للحصول على جزء كبير في التورتة». وفي خضم الصراع الدائر في ليبيا، يبدو من جلسة لجنة الكونغرس، وفقا للمصدر ذاته، أن واشنطن تترقب، وتسعى، في الوقت نفسه، لإعادة قراءة المشهد وموازين القوى المحلية، والتشاور مع شركائها في المنطقة «قبل أي تصرف جذري».
ومن جانبها، تشدد الطويل على الاستقطاب الإقليمي بين قطر وتركيا من جانب، ومصر والإمارات من جانب آخر. لكنها توضح أن «العبرة هنا بالنتائج، بمعني مَن مِن المعسكرين، أو القطبين، أو التجمعين الإقليميين، هو الذي لديه مشروع لصالح الشعب الليبي؟». وتختتم: «أتصور أن تكون القوى السياسية الليبية واعية. هل مصلحة الشعب الليبي تتطلب الوحدة أم التقسيم؟ هل تتطلب أن تكون دولة مدنية حديثة، أو دولة دينية؟ هذه أسئلة منوط بالإجابة عنها الشعب الليبي ونخبه السياسية.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.