فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية

الأحداث في كاراكاس مرآة لتجارب ما بعد الديكتاتورية والانقلابات العسكرية في القارة

فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية
TT

فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية

فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية

تعد أميركا اللاتينية قارة مفعمة بالتناقضات، فهي وإن كانت قد شهدت بعض الاستقرار خلال السنوات الأخيرة، فإن بعض دولها تعيش أياما صعبة، ومنها ما سقط في خضم من الاضطرابات. وها هي فنزويلا، على سبيل المثال، التي كانت تعتبر في يوم من الأيام واحدة من أغنى دول العالم بفضل مواردها النفطية الهائلة، تكابد الأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة منذ عدة سنوات وحتى الآن.
الحقيقة أن الكثير من الدول التي تكوّن نسيج هذه القارة، تبدو للغرباء عنها وكأنها تتشارك في قواسم مشتركة كثيرة مثل اللغة والثقافة والتاريخ. وهذا صحيح من دون شك. كذلك خلال العقود طوت دول أميركا اللاتينية صفحتي الديكتاتوريات والانقلابات العسكرية، وغدت الانتخابات من العناصر الشديدة الأهمية في أنظمتها السياسية ولكنها يمكن أن تُحل النعم أو تجلب النقم في آن واحد.

يمكن الوقوف على أسباب الحكومات الدائمة الاضطراب والتغير في دول أميركا اللاتينية بعد الاستحقاقات الانتخابية، إذ يمكن للحكومات تغيير مساراتها بوتيرة فائقة السرعة وبأكثر مما تشهده الحكومات الديمقراطية الأخرى. ويمكن إلغاء العمل بالعقود الحكومية، وإخضاع الصناعات للرقابة الصارمة، أو الاستحواذ على الأصول المملوكة للدولة. وعند تقييم الأداء الديمقراطي في دول أميركا اللاتينية، فإن التساؤل الأول ينبغي أن يكون: هل للديمقراطية هناك مفهوم مختلف عن المألوف؟
بابلو جينتيلي، السكرتير التنفيذي لمجلس العلوم الاجتماعية في أميركا اللاتينية، يرى أن هذه المنطقة من العالم تمر بحالة من التشنج، ويشرح قائلا: «هناك نزاع كبير قائم في أميركا اللاتينية حول كيفية عمل الديمقراطية، وهناك الكثير من الحقائق التي تؤكد انعدام التوافق إزاء نموذج الديمقراطية المطلوب اعتماده».
وتذهب مارثا لوشيا ماركيز، الخبيرة في دراسات أميركا اللاتينية في جامعة خافيريانا الكولومبية، أبعد فتوضح أنه في الوقت الحاضر «توجد صعوبات جمة تتعلق بترسيخ الديمقراطية. وهناك توجهات سلطوية في بعض دول القارة مثل فنزويلا وكوبا، ثم ثمة ميل عند دول لاتينية محددة لجعل السلطة التنفيذية أعلى من السلطة التشريعية... بل وإعطاء السلطة التنفيذية سلطات تشريعية. وبالإضافة إلى ذلك، تسمح الدساتير المختلفة هناك بإعادة الانتخاب الذي يمنح بدوره المزيد من السلطات لرؤساء الدول، وهذا الاختلال يعظّم من الأدوار التي يلعبونها في السياسات الداخلية».
وهنا لا بد من الإشارة، إلى أن الرؤساء السلطويين يمقتون أي شكل من أشكال المعارضة. ويمكن مشاهدة هذا بوضوح في الإكوادور، حيث أشرف الرئيس اليساري رافائيل كورييا، بعد ثلاث فترات رئاسية متوالية، على انتخاب خليفته على كرسي الرئاسة لينين مورينو. وفي بوليفيا حدث نفس الشيء تحت حكم الرئيس اليساري إيفو موراليس. ومن ناحية ثانية، فإن التعديلات الدستورية، هي في غالب الأمر، الأداة التي يستخدمها الرؤساء السلطويون للتشبث بالسلطة، وهي من أبرز الأمثلة على هشاشة الديمقراطية واضطرابها في القارة الأميركية.
في الباراغواي، الدولة الصغيرة في أميركا الجنوبية الواقعة بين جارتين كبيرتين هما الأرجنتين والبرازيل، أقدم متظاهرون – أخيراً – على إضرام النيران في مبنى البرلمان أثناء الاحتجاجات الجارية ضد التعديلات الدستورية التي تسمح للرئيس بالترشح لفترة ولاية ثانية على التوالي. وللعلم، أجري التصويت على تلك التعديلات في سرية تامة داخل مجلس الشيوخ، لتأمين إعادة انتخاب الرئيس هوراشيو كارتيز، الأمر الذي يحظره دستور البلاد المعمول به منذ عام 1992.
* تعديل الدستور
لقد مرت التعديلات الدستورية، التي تسمح للرؤساء بتولي المنصب لفترات رئاسية إضافية في كل من الإكوادور وبوليفيا. كما جرت الموافقة على إعادة انتخاب الرئيس في فنزويلا، بيد أن نظام الحكم الاشتراكي هناك شهد بعض الانتكاسات في السنوات الماضية. ففي عام 2007. تعرض الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري للهزيمة بفارق ضئيل، وكانت تلك الانتكاسة التي واجهها الرئيس السابق الراحل هوغو شافيز في مسعاه للحصول على المزيد من الصلاحيات الرئاسية والقضاء على فترات الولاية الرئاسية غير المحدودة. غير أن هذه الضربة التي تلقاها شافيز وأنصار حركة شافيزمو الاشتراكية المؤيدة له كانت ذات أثر محدود.
وبعدما شهد خليفته الرئيس نيكولاس مادورو، سيطرة المعارضة اليمينية على الجمعية الوطنية (البرلمان)، قضت على فاعلية المعارضة أحكام المحكمة العليا في فنزويلا. إذ حكم القضاة الموالون لشافيز بأن الجمعية الوطنية «متهمة بازدراء المحكمة العليا». وبالتالي، من خلال الاستيلاء على سلطات البرلمان، تمكنت المحكمة العليا من القضاء على آخر أشكال المعارضة المؤسساتية المنظمة المناهضة لحكم مادورو.
وعلى الرغم من أن وضع النظام الحالي في فنزويلا متراجع الآن، فإن هذه الحلقة من التاريخ المعاصر تسلّط الضوء على أوضاع الديمقراطية الهشّة للغاية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، منع زعيم المعارضة الأبرز والمرشح الرئاسي الأسبق، هنريكي كابريليس، من الترشح في الانتخابات الرئاسية لمدة 15 سنة. ونتيجة لذلك، اندلعت الاحتجاجات الحالية العارمة في شوارع العاصمة كاراكاس والمدن الأخرى ضد نظام مادورو بصورة تكاد تكون شبه يومية. وبينما يطالب السواد الأعظم في معسكر المعارضة برحيل مادورو عن السلطة، تقترب فنزويلا من التحول إلى واحدة من أكثر المناطق عنفا في القارة.
الخبيرة ماركيز، فإن الرئيس مادورو دأب على القضاء على كل المنافسين السياسيين الذين قد يعملون على مناهضة حركة شافيزمو الاشتراكية في الانتخابات الرئاسية لعام 2018. وفي حالة فنزويلا، الدولة الأكثر تطرفا من الناحية السياسية في المنطقة، ينصح جينتيلي قائلا: «إذا كان لديك حريق مشتعل فأسوأ ما يمكنك فعله هو وضع الوقود بجانبه. وليس في مصلحة فنزويلا على الإطلاق أن تكون المناصب في البلاد مقتصرة على مصالح مجموعة واحدة دون أخرى. ولن يجني أي قطاع فيها خيراً إذا ما استمر في إبادة القطاع الآخر».
* البرازيل والأرجنتين
من جهة ثانية، صار المواطنون في الآونة الأخيرة أكثر اهتماماً بشؤون بلادهم، وما عادوا يطيقون الصمت على الممارسات الخاطئة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الوضع الحالي في البرازيل، التي تجد نفسها في مستنقع أزمة سياسية خلّفت آثاراً اقتصادية مدمرة. ففي العام الماضي دفعت الرئيسة السابقة ديلما روسيف ثمن فضائح فساد اتهم بها حزب العمال الحاكم. وعلى الرغم من أن روسيف لا تتحمل مسؤولية تلك الاتهامات بصورة مباشرة، فإن فضيحة الفساد التي تتعلق بشركة النفط الكبرى «بتروبراس» المملوكة للحكومة قضت على شعبية حكومتها، وعلى شعبية الرئيس الحالي ميشال تامر أيضاً. ووفق جينتيلي «ثمة حيرة عظيمة وسخط كبير فيما يتعلق بالطبقة السياسية الحاكمة في تلك البلاد».
وعلى حدود البرازيل، اتخذت الأرجنتين القرار بتعديل الدستور للسماح للرئيسة السابقة كريستينا فيرنانديز كيرشنر بالترشح لولاية رئاسية ثالثة في انتخابات عام 2015 الرئاسية، غير أن الأداء السيئ وتهم الفساد وانقسام معسكر اليسار والوسط الذي كانت تمثله فيرنانديز كيرشنر – التي لم تترشح في ذلك العام – أدى إلى خسارة مرشحها الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام مرشح اليمين موريسيو ماكري في أواخر 2015.
الحقيقة، أن هناك عدداً من دول أميركا اللاتينية التي، مع عودة الديمقراطية بعد عقود، حظرت التجديد للرؤساء، في محاولة لمنع نشوء أنظمة حكم سلطوية. من هذه الدول تشيلي والبيرو، على سبيل المثال، فهذان البلدان «الجاران» لا تسمح للرئيس بتولي المنصب بعد فترتين رئاسيتين متتاليتين، ولقد قاومتا بشدة إغراءات التعديلات الدستورية. ولكن على الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية، فإن الأحداث في فنزويلا تذكّر القارة بأسرها أن الديمقراطية هناك فعلاً ضعيفة. وحيث إن المنظمات الإقليمية التي تمثل هذه الدول، مثل الكتلة التجارية لبلدان القطاع الجنوبي «ميركوسور» أو منظمة الدول الأميركية «أواس»، لم تقدم سوى ردود فعل ضعيفة ومحدودة على تصرفات نظام حكم نيكولاس مادورو، وفي ظل الأفعال الأخيرة من جانب المحكمة العليا الفنزويلية، لا بد من وجود ردود فعل أكثر قوة وصرامة. ووفقا للخبراء في شؤون أميركا اللاتينية، فإن نموذج الديمقراطية الجديد قد يأخذ طريقه نحو التشكل في المستقبل، ولكن ليس بالضرورة في وقت قريب، وبالتالي، علينا الانتظار لنرى كيف ستتجه الأحداث.
في بوليفيا، يقول مراقبون إن الرئيس أيفو موراليس، في السنة الـ 11 من مدته الرئاسية، بات مهتماً بالحملة الانتخابية أكثر من اهتمامه بتحسين ظروف المواطنين وأوضاعهم. مع ذلك، يشير هؤلاء إلى أن هدفه الأساسي هو الحصول على دعم البلاد في عام 2019 لتعديل القانون بحيث يتاح له الترشح لفترة رئاسية رابعة. وفي وقت سابق من هذا الشهر، بعد تحرك شعبي، وافقت الحكومة على رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 11 في المائة لتصل إلى نحو 287 دولارا أميركيا.
* مسار فنزويلا
رونالد رودريغيز، الخبير في شؤون فنزويلا في جامعة ديل روزاريو في جمهورية كولومبيا المجاورة، يقول: إن فنزويلا معتادة على الأنظمة القاسية «فخلال القرن التاسع عشر، اعتاد القادة النافذون المحليون على تعديل الدستور. كذلك يمكن للمرء الحديث عن حكام أشداء خلال النصف الأول من القرن العشرين ومنهم خوان فيشنتي غوميز، الذي عدّل الدستور ثماني مرات، وهو ما يشير إلى أن تعديل الدستور من الممارسات المعتادة، في حين أنه خلال الحقبة الديمقراطية لم يتم تعديل الدستور إلا مرة واحدة».
وبالتركيز على الوضع في فنزويلا، فإنه يزداد سوءاً كل يوم عن اليوم الذي يسبقه، حسبما تشير الإحصاءات الأخيرة حيث بلغ عدد القتلى في الاحتجاجات الحاشدة تجاوز 30 قتيلا حتى الآن، في حين ازداد عدد الجرحى على 500. وتزداد الأرقام مع مرور الأيام. كذلك تكشف المعطيات الجديدة عن نية مادورو واعتزامه التمسك بالسلطة بأي ثمن. وكان قد صدم العالم أخيراً بإعلانه غير المتوقع عن تشكيل مجلس تأسيسي وطني لصياغة دستور جديد. والجدير بالذكر، أن سلفه هوغو شافيز، مؤسس التيار الشافيزي اليساري، هو الذي صاغ الدستور الحالي عام 1999.
من المفترض الآن إجراء الانتخابات الرئاسية، التي ينبغي اختيار خليفة لمادورو، عام 2018. إلا أنه ما زال طي المجهول ما إذا كانت تلك الانتخابات ستجرى أم لا، خاصة أنه يمكن أن يسفر التعديل الجديد للدستور من جانب مادورو عن بقائه في السلطة لأجل غير مسمى.
بطبيعة الحال تعهدت قوى المعارضة اليمينية بمقاومة أفعال الرئيس اليساري، مناشدة الشعب مواصلة الخروج في مسيرات في الشوارع والساحات. وتقول ليليان تنتوري، زوجة ليوبولدو لوبيز، أحد قادة المعارضة والمعتقل السياسي الذي أمضى ثلاث سنوات في السجن: «كيف يعقل أن يرغب ابن شافيز في القضاء على الشيء الوحيد الذي تركه شافيز في البلاد وهو دستور يزخر بحقوق الإنسان؟ ما يحدث هو أن النظام الحاكم، مع الأسف، لا يلتزم لا بالقانون ولا الدستور، ونحن نواجه مشكلة حيث لا توجد ديمقراطية في فنزويلا»، على حد زعمها.
في سياق متصل، كان مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال هاري مكماستر ورئيس البرلمان الفنزويلي (معارض) خوليو بورخيس قد اتفقا أخيراً في العاصمة الأميركية واشنطن على الحاجة إلى إنهاء الأزمة السياسية والاقتصادية التي تشهدها فنزويلا بشكل سريع وسلمي، بحسب إعلان صادر عن البيت الأبيض. وفي هذه الأثناء، تواجه فنزويلا أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها وسط معاناة السكان من نقص حاد في الغذاء والدواء أمام خلفية سب تضخم مرتفعة للغاية، وتطالب المعارضة اليمينية الرئيس مادورو، بالتخلي عن السلطة وإجراء انتخابات رئاسية جديدة. كذلك تتهم المعارضة مادورو أنه من خلال فرض دستور جديد على البلاد إنما يسعى إلى الاستيلاء على السلطة الوحيدة الباقية للبرلمان، حيث الغالبية للمعارضة، من أجل حكم البلاد دون رقابة أو توازن. ومن ثم، من المتوقع أن يتفادى الدستور الجديد الذي يريده مادورو إجراء انتخابات جديدة، وهي من المطالب الأساسية لقوى المعارضة.
هذا الحال دفع البابا فرنسيس للإعراب عن قلقه إزاء الوضع في رسالة وجهها إلى كبير الأساقفة الكاثوليك في فنزويلا قائلاً إن بالإمكان حل المشاكل إذا كانت هناك «رغبة في بناء الجسور» و«إقامة حوار والالتزام بالاتفاقات». أما زعيم المعارضة هنريكي كابريليس فقال إنه تم اعتقال 85 عنصرا من الجيش بسبب انتقادهم لحكومة الرئيس. وجاءت عمليات الاعتقال تلك مع تصاعد القلق من إمكانية قيام الجيش بانقلاب ضد الحكومة الحالية، وفق مصادر صحافية.
على صعيد، في خطوة أخرى قد تفاقم الأمور أكثر بدأت سلطات فنزويلا عملية التخلي عن عضويتها في «منظمة الدول الأميركية»، التي هي تجمع كبير لدول أميركا الجنوبية والشمالية، وذلك رداً على ضغوط المنظمة باتجاه تغيير مسار البلاد، وإدانتها للانتهاك المنظم من جانب السلطات الحاكمة في فنزويلا لحقوق الإنسان. والواقع أنه في حال انسحاب فنزويلا، ستكون بذلك أول دولة تترك المنظمة في تاريخها. مع ذلك لن يكون الأمر بالبساطة وبالسرعة التي يأملها مادورو، إذ يمكن فرض غرامة مالية على فنزويلا لمغادرة الاتحاد. ولقد أعربت بعض دول أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو، إضافة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن القلق من تفاقم الأزمة التي تشهدها فنزويلا.
* «تجارب» لاتينية متعددة
على صعيد آخر، له صلة بهشاشة الديمقراطية الأميركية اللاتينية، نشير إلى أنه أثناء فترة حكم الزوجين نيستور وكريستينا كيرشنر في الأرجنتين، كان هناك الكثير من وقائع اضطهاد الصحافة الحرة التي كانت مقالاتها الافتتاحية تزعج الحكومة. وكانت أشهر قضية في هذا السياق قضية صحيفة «كلارين» التي حاولت الحكومة تفكيكها بالقوة. وجارٍ التحقيق مع الرئيسة السابقة كريستينا اليوم في اتهامات فساد، وإثراء غير مشروع، وكذلك يجري التحقيق مع أعضاء آخرين في إدارتها.
ولكن، على الجانب الآخر، تمثل كوستاريكا نموذجاً مغايراً تماماً في أميركا اللاتينية، حيث تُعرف بأن ليس لديها جيش نظامي، ولطالما كانت دولة ديمقراطية مسالمة طوال أكثر سنوات القرن العشرين. كذلك من الملاحظ أنها واحدة من أكثر الدول الصديقة للبيئة على مستوى العالم. وغير بعيد عن كوستاريكا، وبعد ماض مضطرب اتخذت السلفادور خطوة استثنائية تتمثل في حظر استخراج المعادن لتكون بذلك أول دولة في العالم تفعل ذلك. وجاء هذا القرار رغبة منها في الحفاظ على مواردها المائية النادرة، وحمايتها من الملوثات الناتجة عن هذه الصناعة. ولقد ضحى البرلمان باتخاذه هذا القرار بالأرباح من أجل الحفاظ على البيئة والسكان.
في إطار هذا النقاش حول ما إذا كان مفهوم الديمقراطية في أميركا اللاتينية يتغير أم لا، من المهم مراجعة الدور التاريخي الذي اضطلعت به الأحزاب السياسية التي كانت عنصراً أساسيا في الوصول إلى الديمقراطية الصحية.
للأسف فقدت الكثير من الأحزاب العريقة ذات التقاليد التاريخية، التي اعتادت تمثيل قطاع كبير من السكان في البلاد، رونقها وروحها وهويتها الآيديولوجية. وهو ما فتح الباب أمام الأحزاب التي تسعى إلى الفوز بالانتخابات من خلال قادة يعتمدون في الوصول إلى السلطة على قوة شخصيتهم وشعبيتهم فقط.
ويتضح كثيراً هذه الأيام أن هناك نوعين من أنظمة الحكم في أميركا اللاتينية: نوع ذو توجه اشتراكي يفقد قوته ونفوذه في المنطقة كحال فنزويلا والإكوادور وبوليفيا وكوبا ونيكاراغوا. ونوع آخر يميل إلى تيار اليمين في دول وسط أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو. والقادة اليمينيون لهذه الدول لا يترددون في وصف الوضع في فنزويلا بفقدان حالة الديمقراطية.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.