رينان بين الدين والفلسفة

كلنا يسمع باسم المفكر الفرنسي إرنست رينان دون أن نعرف من هو بالضبط. كل ما نعرفه عنه هو أنه اتهم الآيديولوجيا الإسلامية بالمسؤولية عن تخلف المسلمين ومعاداة العلم والفلسفة. واشتبك عندئذ مع جمال الدين الأفغاني في مناظرة عصماء حول الموضوع، كما هو معلوم للقاصي والداني. ربما هذا كل ما نعرفه عنه. عفوا نسيت: نعرف أيضا أنه كرس أطروحة دكتوراه شهيرة لفيلسوف العرب ابن رشد بعنوان: «ابن رشد والفلسفة الرشدية». هذا عموما كل ما نعرفه عنه. لكن ما أصله وفصله؟ ما منطلقاته الكبرى ومؤلفاته الأخرى؟ ثم بالأخص: كيف أصبح أحد أهم المفكرين الفرنسيين في القرن التاسع عشر؟ على هذه التساؤلات يمكن أن نجيب بما يلي: ولد إرنست رينان في منطقة البريتانيا الخضراء الجميلة الواقعة غرب فرنسا عام 1823، ومات في باريس عام 1892 عن عمر يقارب السبعين عاماً. وكان والده ملحدا تقريبا، في حين أن أمه كانت متدينة جدا. ولكن والده مات عندما كان عمره خمس سنوات فقط، فتسلمت رئاسة العائلة أخته الكبرى «هنرييت» التي كانت تكبره باثني عشر عاما. وستلعب هذه الأخت دورا كبيرا في حياته لاحقا. والواقع أنها هي التي توسطت له لكي يقبلوه في أفضل المدارس الدينية في العاصمة باريس. وكان من المقرر أن يتخرج كاهنا لولا أن «جرثومة» الفلسفة أصابته، وهو في الثامنة عشرة. فقد اطلع فجأة على فلسفة كانط وهيغل وهيردر، وعندئذ شعر بوجود تناقض حاد بين إيمانه الديني التقليدي الموروث، وبين الفلسفة العقلانية أو التنويرية. ولهذا السبب ترك مدرسة الرهبان عام 1895 وتراجع في آخر لحظة عن الانخراط في سلك الكهنوت المسيحي. وقرر التفرغ لدراسة الفلسفة والعلوم الدنيوية واللغوية والتاريخية البحتة. باختصار شديد: لقد انتصرت العلوم الفلسفية لديه على العلوم الدينية. وبالتالي، فهو لم يكن معاديا للأصولية الإسلامية فقط، وإنما لكل الأديان، بما فيها الدين المسيحي الذي تربى عليه.
أما من الناحية العملية، فقد نال شهادة التبريز في الفلسفة عام 1848، ثم دخل إلى الجامعة بعدئذ لكي يحضّر أطروحته الجامعية عن الفيلسوف العربي المسلم: ابن رشد كما ذكرنا. وهي الأطروحة الشهيرة التي طالما نوقشت لاحقا من قبل كبار المثقفين في أوروبا والعالم العربي. ولحسن الحظ، فإن هذا الكتاب طبع من جديد مؤخراً بإشراف البروفسور آلان دوليبيرا وتقديمه. وفي هذا الكتاب الشهير أثبت رينان أن ابن رشد كان ذا قدر عجيب. فعلى الرغم من أنه كان فيلسوفا عربيا مسلما فإن تأثيره على العالم الإسلامي كان يشبه الصفر، هذا في حين أن تأثيره في العالم الأوروبي المسيحي كان ضخما. فقد سيطر على الجامعات الأوروبية حتى نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر: أي حتى ظهور ديكارت والفلسفة الحديثة. ولكن ابن رشد في رأيه ظل شارحا لأرسطو لا مبدعا. إنه مجرد ناقل للفكر والفلسفة. والسبب هو أن العرق السامي لا يمتلك الروح الفلسفية كالعرق الأوروبي. وهو يقصد بالعرق السامي ليس فقط العرب، وإنما اليهود أيضا. هنا تكمن عنصرية رينان ونزعته الاستعلائية الفوقية. ولكن لا ينبغي أن نظلمه كثيرا. فقد كانت هذه النزعة عامة شاملة في عصره ولا تقتصر عليه. حتى ماركس وقع فيها. يقول رينان بالحرف الواحد: «أنا أول من يعترف بأننا لن نجد شيئا لكي نتعلمه من ابن رشد أو من العرب أو من العصور الوسطى بشكل عام». وهذا يعني أنه يدين الفلسفة المسيحية أيضا وليس فقط العربية. بمعنى أن الفلسفة الحديثة، أي فلسفة ديكارت وكانط وهيغل، تجاوزت كل ذلك بسنوات ضوئية في نظره. علاوة على ذلك، فإن مفكري القرن التاسع عشر في أوروبا كانوا يعتبرون فلسفة القرون الوسطى مجرد صورة شاحبة أو باهتة عن الفلسفة الإغريقية... لماذا؟ لأنها فلسفة لاهوتية إذا جاز التعبير: أي خاضعة للدين لا متحررة منه على عكس الفلسفة الحديثة.
في عام 1856 أصبح رينان عضوا في أكاديمية الآداب الجميلة، ثم تزوج في العام نفسه. وبعدئذ سافر إلى الشرق، إلى سوريا ولبنان وفلسطين، للبحث عن الآثار الخاصة بالمسيحية. ومعلوم أنه كان قد انخرط منذ ذلك الوقت في تأليف كتابه الشهير عن «حياة يسوع». ثم أصبح إرنست رينان أستاذا في أرقى جامعة فرنسية: الكوليج دوفرانس. لكنهم أوقفوا دروسه فوراً بعد إلقائه المحاضرة الأولى بسبب جرأتها في تناول الشؤون الدينية، ودراسة المسيحية دراسة علمية تاريخية. وهذا ما لا يمكن أن يسمح به رجال الدين. فثارت الأصولية المسيحية عليه عندئذ وهاجت وماجت، واتهمته بالتجديف والكفر، والاعتداء على المقدسات. وعندما نشر كتابه عن «حياة يسوع» عام 1863 أحدث فضيحة في الأوساط الشعبية المسيحية، وإن كان قد لاقى نجاحاً منقطع النظير في المكتبات. وقد انزعج البابا بيوس التاسع كثيراً عندما قرأ الكتاب، أو نقلوا له مقاطع منه. وغضب غضباً شديداً على رينان. نقول ذلك، وبخاصة أن هذا الأخير كان تلميذاً لرجال الدين، بل وكان متوقعاً أن يدخل سلك الكهنوت ويصبح راهباً، كما ذكرنا... فكيف انقلب من النقيض إلى النقيض؟ هذا ما لن يغفره له البابا ورجال الدين. وعندئذ هاجم البابا رينان ناعتاً إياه بأنه كافر أوروبي كبير. ولهذا السبب؛ فإن وزير التعليم الفرنسي أصدر قراراً بمنع رينان من التدريس في الجامعة لأجل غير مسمى. وفي عام 1865 قام إرنست رينان برحلة سياحية وعلمية إلى مصر وتركيا واليونان، ومعروف أنه كان منهمكاً في كتابة دراساته عن الأديان التوحيدية، أي اليهودية والمسيحية أساساً، ثم عن الفلسفة اليونانية التي كان معجباً بها أشد الإعجاب. وفي عام 1869 رشح نفسه للانتخابات النيابية، لكنه فشل فشلاً ذريعاً، ثم رشح نفسه عام 1878 للأكاديمية الفرنسية ونجح. والواقع أن إرنست رينان كان أحد أعمدة الفكر في فرنسا طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومعلوم أن تلك الفترة شهدت أيضاً ظهور مفكرين كبار من أمثال عالم الاجتماع الشهير إميل دوركهايم، والفيلسوف الكبير أوغست كونت. هذا بالإضافة إلى آخرين كثيرين.
وقد اشتهر رينان بحبه العلم وثقته فيه إلى أقصى الحدود. وفي ذلك الوقت كان العلم في أوروبا قد حقق خطوات عملاقة إلى الأمام بعد أن ظهرت الاكتشافات الطبية والمخترعات التكنولوجية. ولهذا السبب تغلّب العلم الحديث على الدين المسيحي في صيغته الكهنوتية القديمة. وأخذ الناس يعلّقون عليه الآمال وينصرفون عن الدين شيئا فشيئاً. أخذوا يعتقدون بأن العلم هو الذي سيحل لهم مشكلاتهم ويؤمّن لهم الحياة الرغيدة على هذه الأرض. وهذا ما تحقق بالفعل في المجتمعات الأوروبية المتقدمة. ضمن هذه الظروف بالذات، أصدر رينان كتابه الشهير: «مستقبل العلم». لكن هل كان رينان مضاداً للدين إلى الحد الذي نتصوره؟
على هذا السؤال يمكن أن نجيب قائلين: لا... في الواقع أن علاقته بالدين المسيحي كانت معقدة. فمن جهة كان ينتقده لأنه مليء بالخرافات والأوهام والمعجزات التي تنتهك قوانين الطبيعة. ومن جهة أخرى كان يعترف بأهميته بصفته عاملا قويا لتوحيد الشعب. وبالتالي، فمن الخطر أن ندير ظهرنا له بشكل متسرع أو قبل الأوان. وقد لخص موقفه من الدين بعبارة شهيرة واردة في كتابه: مستقبل العلم. تقول هذه العبارة ما يلي: «عندما أكون في المدينة فإني أسخر من أولئك الذين يذهبون إلى الكنيسة لحضور القداس أي الصلاة المسيحية. وعندما أكون في الريف فإني أسخر من أولئك الذين لا يذهبون»!... وهذا يعني أن الفلسفة هي دين النخبة المثقفة، وأما المسيحية فهي دين عامة الشعب الذي لا يستطيع أن يفهم الفلسفة ولا النظريات العلمية.
كما ويعني ذلك أن العلم والتقدم الصناعي حلا محل الدين في المدن، لكنهما لم يحلا محله في الأرياف؛ لأنهما لم يصلا إليها بعد. ولكن على الرغم من إيمانه بالعلم فإن رينان كان يبدو أحيانا قلقاً على مستقبل البشرية. فكان يخشى أن تنقرض بسبب انعدام رطوبة القلب أو كرمه، تماماً مثلما تموت الصناعة بسبب نفاد الفحم المستخرج من باطن الأرض واستخدامه وقودا لها. وهذا تشبيه جميل في الواقع. فالحضارة الغربية وصلت إلى مرحلة من التقدم التكنولوجي لا مثيل لها في التاريخ. لكنها في الوقت ذاتها تشهد جفاف القلب وتصحر العواطف وتشيّؤ النزعة الإنسانية. وذلك على عكس شعوبنا العربية والإسلامية العاطفية جدا والطيبة والكريمة على فقرها. يكفي أن تنتقل بالطائرة من بلدان الغرب إلى بلدان العرب لكي تفهم ما أقول. وبالتالي، فإن نبوءة رينان تحققت جزئياً فيما بعد. ثم حصلت المناظرة الشهيرة بعدئذ بين رينان وجمال الدين الأفغاني حول مدى توافق الإسلام مع العلم أو تعارضه. ومعلوم أن رينان كان قد أكد التعارض لا التوافق، فرد عليه جمال الدين الأفغاني قائلاً بأن الإسلام لا يتعارض مع روح العلم على الإطلاق. على العكس، لقد شجع الإسلام على طلب العلم حتى ولو في الصين! وأكبر دليل على ذلك أن العلوم الفلكية والطبية والتجريبية ازدهرت في أرض الإسلام إبان العصر الذهبي قبل أن تنتقل إلى أوروبا... وبالتالي، فالحق ليس على الإسلام وإنما على المسلمين.

العنف في العراق من خلال رواياته

في دراسته «مدونة العنف في العراق» يبدأ الباحث الدكتور «أحمد حميد» بكلمة لـ«حنة آرنت» «كلُّ انحطاطٍ…