إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية

«القاعدة» استغلت الوضع الفوضوي الانقلابي للتوسع في اليمن

إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية
TT

إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية

إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية

يمثل تنامي الإرهاب بأشكاله التنظيمية والفكرية واحدا من التهديدات المباشرة للأمن الإنساني في زمن العولمة. ذلك أن الحرب والنزاعات التقليدية، والفقر، وانتشار الاتجار الدولي بالمخدرات والبشر والسلاح؛ أصبحت نسقا ومصدرا للأخطار التي تمس الأمن الجماعي والاستقرار الاجتماعي والسلام السياسي العالمي. ولم يعد الإرهاب لوحده ظاهرة تشكل مأزقا جديدا للدولة الحديثة والمجتمع الدولي، بل أصبح العجز عن وقف وتيرة انتشارها، وما يعنيه ذلك من توسع دائرة الحروب، يفرض بناء تعاملات تعاونية وتشاركية تتجاوز ما هو معمول به حاليا من داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
ذلك أن الإرهاب عبر مسيرته وخبرته منذ 11-9 – 2001 استطاع التكيف مع تناقضات السياسات والمصالح الدولية لدرجة يمكن القول إنه فرض نفسه باعتباره فاعلا حقق «اندماجا» متواصلا في المنظومة الدولية، باعتباره مهددا للسلم العالمي وفي الوقت نفسه، مرتكزا جديدا لبناء التحالفات الدولية. وما نشهده اليوم في اليمن، والعراق ولبنان وسوريا وليبيا دليل ساطع على ذلك.
في السياق نفسه يمكن القول إن الإرهاب بتشكلاته التنظيمية الميليشياوية، وتمظهراته الدولية؛ بدأ يحتل مساحات واسعة في تشكيل التحالفات الإقليمية والأممية، كما أنه أدخل الدول العربية في عصر الميليشيات العابرة للقارات. وظهرت «فصائل شيعية مسلحة شكلتها ودعمتها إيران، باعتبارها فاعلا يتجاوز الدولة، ويعمل وفق رؤية موحدة تخدم تغير التوازنات الإقليمية بالشرق الأوسط. صحيح أن هناك تحالفا دوليا ضد الإرهاب، لعبت كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية دورا بارزا في ولادته منذ 2014؛ وأنه تحقق نوع من التقدم في مواجهة الإرهاب الداعشي تحديدا. غير أن نتائج التحالف ووجهت على الأرض بصعوبات جمة لا تتعلق، فقط بالزخم الآيديولوجي، والتوسع الاستقطابي الذي اكتسبه تنظيم داعش، ودولته المزعومة على أرض سوريا والعراق من جهة؛ وإنما كذلك من جهة استغلال جماعة «القاعدة» للوضع الفوضوي الانقلابي للتوسع في اليمن، جراء ما أنتجته السيطرة العسكرية الحوثية على السلطة والعاصمة صنعاء.
من جهة ثالثة، وجب الأخذ بعين الاعتبار، كون السياسة الدولية الحالية تعيش وضعا يجسد فارقا بين الإحساس بالخطر، والقدرة الفعالة على مواجهة منابع الإرهاب العالمي بالشرق الأوسط. وتجسد الحالة التركية مع كل من «داعش»، وحزب العمال الكردستاني هذه الحالة اللاتوازنية؛ فأنقرة تعيش التهديد، وارتباط القدرة والحرية في المواجهة مع الجماعات الإرهابية، بالمس بالمصالح الروسية والأميركية والإيرانية، بالعراق وسوريا.
كذلك، تجدر الإشارة إلى أن تضارب المصالح الاستراتيجية، في المنظومة الدولية بالشرق الأوسط، يزيد من إمكانية المس بالأمن القومي للدول العربية؛ وخاصة الدول الخليجية، التي تستهدفها، طهران، والميليشيات الطائفية باليمن والعراق. ورغم أن «عاصفة الحزم» منذ مارس (آذار) 2015، تشكل وعيا بهذا الوضع القائم، وتحولا جذريا في التعامل الخليجي مع التهديدات الخارجية، وتفتح أفقا واسعا لبناء عقيدة وتكامل عسكري خليجي؛ فإن دول مجلس التعاون في حاجة عاجلة لتكوين قوات خليجية للردع، يكون من مهامها التدخل السريع لمواجهة التنظيمات الإرهابية والدفاع المشترك، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع طهران.
ذلك أن الزمن الدولي الحالي إقليميا، متأثر برؤية الحرس الثوري لموقع إيران المستقبل في الخريطة الجيوسياسية الدولية، وهو يستفيد من حالة التطييف العقدي للظاهرة الإرهابية التي تمارسها «داعش» و«القاعدة»، من جهة، والميليشيات الشيعية العابرة للحدود من جهة ثانية. وغير خفي أن هذه الحالة الآيديولوجية أصبحت واحدة من العوامل الأساسية التي لم تعد تهدد الأمن الإنساني وحسب، وإنما تمنح الجماعات الإرهابية عمرا أطول، وانتشارا آيديولوجيا أوسع، وقدرة تنظيمية على إعادة التموقع الجغرافي والانبعاث الذاتي.
* تناقضات المواجهة بالعراق
في هذا السياق، علينا أن نتذكر أن عقيدة المصالح الاستراتيجية الأميركية، اقتضت مع إدارة بوش الابن حث المنتظم الدولي على غزو العراق والإطاحة بالديكتاتور صدام حسين. لكن الغزو الأميركي للعراق فتح مجالا جديدا لانتعاش الإرهاب منذ 2003؛ ومنح إيران فرصة ذهبية للعبث بمستقبل المنطقة وإخضاعها لمصالحها الطائفية والسياسية والاقتصادية، من خلال هيمنتها على العراق، وبناء «شبكة عالمية للتوسع الشيعي»، تتجاوز الدور التقليدي لـ«حزب الله» اللبناني الموالي لطهران.
لقد ساعد هذا المناخ تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» آنذاك على حشد الأنصار في الأنبار، وظهرت الفلوجة باعتبارها مركزا لمقاومة الاحتلال. ولقسوة المواجهة لجأت السياسة الأميركية إلى تشكيل «الصحوات»، وخاضت هذه الأخيرة مواجهات دامية مع الإرهاب، اختلط فيها العشائري بالعقدي والوطني، وتم إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة». غير أن هذه الهزيمة سرعان ما تحولت مع «التحالف الموضوعي» لطهران وواشنطن بالعراق، إلى انبعاث جديد ومتوحش للظاهرة الإرهابية، باسم «دولة الخلافة» المزعومة.
فقد استطاع التنظيم، خلق نخبة عسكرية جديدة، كانت جزءا منه أو تدربت على يديه، واصلت ربط التنظيم بالجماعة الأم، وفي الوقت نفسه تحقيق التجدد بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي منتصف 2006؛ والانتقال إلى البراءة من تنظيم أيمن الظواهري في مرحلة لاحقة. أكثر من ذلك، تطور التشكيل الجماعاتي للإرهاب، وأدخل جيل أبو بكر البغدادي المنطقة في دائرة مظلمة سميت «إدارة التوحش». وتم من خلالها تسريع السيطرة على الأرض، وتكوين ما زعم أنها «دولة الخلافة» في الشرق الأوسط، واستقطبت بشكل مثير الجيل الثالث من شباب المسلمين بأوروبا وآسيا وأفريقيا.
غير أن ما يجب أخذه في الحسبان أن تطورات التنظيم الإرهابي الجديد منذ 2012، لم تكن بعيدة عن حسابات أميركا وإيران بالعراق وسوريا. فقد عرفت هذه المرحلة تسريعا للمفاوضات السرية حول البرنامج النووي الإيراني، كما عرفت تبادلا للرسائل السرية بين الولي الفقيه علي خامئني والرئيس باراك أوباما. وبينما تبنى هذا الأخير ما سمي سياسة «الصبر الاستراتيجي» في مواجهة توسع «داعش» في العراق وسوريا، وغض الطرف عن حقيقة الدور الإيراني بالمنطقة؛ عملت طهران على توسيع نفوذها في هاتين الدولتين، ولعبت وحدات «الباسيج» دورا كبيرا في تفريخ عشرات الميليشيات، كلها تدور في الفلك الإيراني وتدافع عن مصالح طهران الاستراتيجية بالمنطقة.
في ظل هذا الوضع الذي عرف ظهور بيئة جديدة للإرهاب؛ تمكنت إيران وميليشياتها بزعامة «فيلق بدر» الذي تشكل في الأصل بزعامة محمد باقر الحكيم، بفتوى من طهران، وضم خليطاً من الهاربين من الجيش العراقي وأسرى الحرب العراقية الإيرانية الموالين لنظام طهران. ولم يكن غريبا أن يتدخل الحرس الثوري بشكل مباشر في العراق، مستغلا الجو الدولي العدائي لنظام صدام حسين، باعتباره - يومذاك - الراعي الأول للإرهاب العالمي.
وكانت السياسة الإيرانية ومصالحها الاستراتيجية تقتضي مشاركة «فيلق بدر» في احتلال العراق وإسقاط نظام صدام سنة 2003. وباسم محاربة الإرهاب، عمل الحرس الثوري الإيراني على تنزيل سياسة بعيدة المدى، وتتلخص في إعادة بناء دولة عراقية طائفية، تسيطر عليها ميليشيات وكتل سياسية، ترتبط عقديا وآيديولوجيا وعسكريا بالحرس الثوري والولي الفقيه.
ووصل الأمر مع بزوغ نجم «داعش» سنة 2014 حد إصدار آية الله علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى بالعراق لفتوى سميت «الجهاد الكفائي» وقيل إنها لمواجهة التنظيم الإرهابي، الذي بسط سيطرته على مناطق شاسعة من العراق وسوريا. غير أن حقيقة سياسة الحرس الثوري داخل العراق، وأهداف الفتوى الدينية لا تنحصر في محاربة تنظيم البغدادي؛ وإنما تكريس وضع مؤسساتي جديد تكون فيه الدولة العراقية، جزءا لا يتجزأ من النظام الإقليمي الذي تقوده إيران، في مرحلة ما بعد «داعش».
* استراتيجية جديدة ضد الإرهاب
إن التراجع الكبير الذي عرفته «خلافة البغدادي» في سنتي 2015- 2016، والذي تحول لتراجع كبير في النصف الأول من 2017، واكبته تحولات مهمة تتعلق بالمصالح الاستراتيجية الخليجية، والروسية والإيرانية والتركية، في العراق وسوريا، رغم التنسيق القائم فيما يخص مواجهة الجماعات الإرهابية. فقد تبين أن الإدارة الأميركية الجديدة ترعى مصالحها الذاتية بالمنطقة، وتخفف من وجودها العسكري بالشرق الأوسط مع توجهها شرقا نحو آسيا وبحر الصين؛ مع مراعاة المصالح الروسية بالمنطقة.
وإذا أضفنا لهذا تداعيات المصالحة التركية الروسية، وما أفرزته من تناقضات وتنسيق ثنائي داخل سوريا لمواجهة «داعش»؛ يتبين أن تراجع «دولة الخلافة» المزعومة، يصاحبه فتور في علاقة طهران بموسكو وتوترات مع واشنطن. وهذه الحالة الدولية الجديدة تحتم على مجلس التعاون الخليجي، توحيد جهوده الدبلوماسية، والتعامل بذكاء مع السياسة الاستراتيجية الجديدة لدونالد ترمب والتي تمنح الأولوية للقضاء على «داعش» و«القاعدة» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية. كما تسعى في الوقت نفسه لتجاوز الاحتراب الطائفي السني الشيعي، مع محاصرة ومراقبة صارمة للسياسة الإيرانية والميليشيات الشيعية التي تمثل درع إيران الإقليمية.
فالاستراتيجية الجديدة في حاجة أكيدة لروسيا، التي لم تعد تبتعد كثيرا عن الأولويات، وإذا استطاعت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، خلق تشابك جديد للمصالح على الأرض بينها وبين روسيا وتركيا، فإننا سنكون حتما أمام وضع ينهي استغلال إيران لورقة الإرهاب، لخلق تحالفات غير تقليدية، ويضعف من قدرة «الحرس الثوري»، في خلق مزيد من الفوضى الميليشياوية بالشرق الأوسط، والمس بالأمن الإقليمي الخليجي.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.