إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية

«القاعدة» استغلت الوضع الفوضوي الانقلابي للتوسع في اليمن

إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية
TT

إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية

إرهاب ميليشيات إيران و«داعش» وتأثيراته على المصالح الخليجية

يمثل تنامي الإرهاب بأشكاله التنظيمية والفكرية واحدا من التهديدات المباشرة للأمن الإنساني في زمن العولمة. ذلك أن الحرب والنزاعات التقليدية، والفقر، وانتشار الاتجار الدولي بالمخدرات والبشر والسلاح؛ أصبحت نسقا ومصدرا للأخطار التي تمس الأمن الجماعي والاستقرار الاجتماعي والسلام السياسي العالمي. ولم يعد الإرهاب لوحده ظاهرة تشكل مأزقا جديدا للدولة الحديثة والمجتمع الدولي، بل أصبح العجز عن وقف وتيرة انتشارها، وما يعنيه ذلك من توسع دائرة الحروب، يفرض بناء تعاملات تعاونية وتشاركية تتجاوز ما هو معمول به حاليا من داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
ذلك أن الإرهاب عبر مسيرته وخبرته منذ 11-9 – 2001 استطاع التكيف مع تناقضات السياسات والمصالح الدولية لدرجة يمكن القول إنه فرض نفسه باعتباره فاعلا حقق «اندماجا» متواصلا في المنظومة الدولية، باعتباره مهددا للسلم العالمي وفي الوقت نفسه، مرتكزا جديدا لبناء التحالفات الدولية. وما نشهده اليوم في اليمن، والعراق ولبنان وسوريا وليبيا دليل ساطع على ذلك.
في السياق نفسه يمكن القول إن الإرهاب بتشكلاته التنظيمية الميليشياوية، وتمظهراته الدولية؛ بدأ يحتل مساحات واسعة في تشكيل التحالفات الإقليمية والأممية، كما أنه أدخل الدول العربية في عصر الميليشيات العابرة للقارات. وظهرت «فصائل شيعية مسلحة شكلتها ودعمتها إيران، باعتبارها فاعلا يتجاوز الدولة، ويعمل وفق رؤية موحدة تخدم تغير التوازنات الإقليمية بالشرق الأوسط. صحيح أن هناك تحالفا دوليا ضد الإرهاب، لعبت كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية دورا بارزا في ولادته منذ 2014؛ وأنه تحقق نوع من التقدم في مواجهة الإرهاب الداعشي تحديدا. غير أن نتائج التحالف ووجهت على الأرض بصعوبات جمة لا تتعلق، فقط بالزخم الآيديولوجي، والتوسع الاستقطابي الذي اكتسبه تنظيم داعش، ودولته المزعومة على أرض سوريا والعراق من جهة؛ وإنما كذلك من جهة استغلال جماعة «القاعدة» للوضع الفوضوي الانقلابي للتوسع في اليمن، جراء ما أنتجته السيطرة العسكرية الحوثية على السلطة والعاصمة صنعاء.
من جهة ثالثة، وجب الأخذ بعين الاعتبار، كون السياسة الدولية الحالية تعيش وضعا يجسد فارقا بين الإحساس بالخطر، والقدرة الفعالة على مواجهة منابع الإرهاب العالمي بالشرق الأوسط. وتجسد الحالة التركية مع كل من «داعش»، وحزب العمال الكردستاني هذه الحالة اللاتوازنية؛ فأنقرة تعيش التهديد، وارتباط القدرة والحرية في المواجهة مع الجماعات الإرهابية، بالمس بالمصالح الروسية والأميركية والإيرانية، بالعراق وسوريا.
كذلك، تجدر الإشارة إلى أن تضارب المصالح الاستراتيجية، في المنظومة الدولية بالشرق الأوسط، يزيد من إمكانية المس بالأمن القومي للدول العربية؛ وخاصة الدول الخليجية، التي تستهدفها، طهران، والميليشيات الطائفية باليمن والعراق. ورغم أن «عاصفة الحزم» منذ مارس (آذار) 2015، تشكل وعيا بهذا الوضع القائم، وتحولا جذريا في التعامل الخليجي مع التهديدات الخارجية، وتفتح أفقا واسعا لبناء عقيدة وتكامل عسكري خليجي؛ فإن دول مجلس التعاون في حاجة عاجلة لتكوين قوات خليجية للردع، يكون من مهامها التدخل السريع لمواجهة التنظيمات الإرهابية والدفاع المشترك، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع طهران.
ذلك أن الزمن الدولي الحالي إقليميا، متأثر برؤية الحرس الثوري لموقع إيران المستقبل في الخريطة الجيوسياسية الدولية، وهو يستفيد من حالة التطييف العقدي للظاهرة الإرهابية التي تمارسها «داعش» و«القاعدة»، من جهة، والميليشيات الشيعية العابرة للحدود من جهة ثانية. وغير خفي أن هذه الحالة الآيديولوجية أصبحت واحدة من العوامل الأساسية التي لم تعد تهدد الأمن الإنساني وحسب، وإنما تمنح الجماعات الإرهابية عمرا أطول، وانتشارا آيديولوجيا أوسع، وقدرة تنظيمية على إعادة التموقع الجغرافي والانبعاث الذاتي.
* تناقضات المواجهة بالعراق
في هذا السياق، علينا أن نتذكر أن عقيدة المصالح الاستراتيجية الأميركية، اقتضت مع إدارة بوش الابن حث المنتظم الدولي على غزو العراق والإطاحة بالديكتاتور صدام حسين. لكن الغزو الأميركي للعراق فتح مجالا جديدا لانتعاش الإرهاب منذ 2003؛ ومنح إيران فرصة ذهبية للعبث بمستقبل المنطقة وإخضاعها لمصالحها الطائفية والسياسية والاقتصادية، من خلال هيمنتها على العراق، وبناء «شبكة عالمية للتوسع الشيعي»، تتجاوز الدور التقليدي لـ«حزب الله» اللبناني الموالي لطهران.
لقد ساعد هذا المناخ تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» آنذاك على حشد الأنصار في الأنبار، وظهرت الفلوجة باعتبارها مركزا لمقاومة الاحتلال. ولقسوة المواجهة لجأت السياسة الأميركية إلى تشكيل «الصحوات»، وخاضت هذه الأخيرة مواجهات دامية مع الإرهاب، اختلط فيها العشائري بالعقدي والوطني، وتم إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة». غير أن هذه الهزيمة سرعان ما تحولت مع «التحالف الموضوعي» لطهران وواشنطن بالعراق، إلى انبعاث جديد ومتوحش للظاهرة الإرهابية، باسم «دولة الخلافة» المزعومة.
فقد استطاع التنظيم، خلق نخبة عسكرية جديدة، كانت جزءا منه أو تدربت على يديه، واصلت ربط التنظيم بالجماعة الأم، وفي الوقت نفسه تحقيق التجدد بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي منتصف 2006؛ والانتقال إلى البراءة من تنظيم أيمن الظواهري في مرحلة لاحقة. أكثر من ذلك، تطور التشكيل الجماعاتي للإرهاب، وأدخل جيل أبو بكر البغدادي المنطقة في دائرة مظلمة سميت «إدارة التوحش». وتم من خلالها تسريع السيطرة على الأرض، وتكوين ما زعم أنها «دولة الخلافة» في الشرق الأوسط، واستقطبت بشكل مثير الجيل الثالث من شباب المسلمين بأوروبا وآسيا وأفريقيا.
غير أن ما يجب أخذه في الحسبان أن تطورات التنظيم الإرهابي الجديد منذ 2012، لم تكن بعيدة عن حسابات أميركا وإيران بالعراق وسوريا. فقد عرفت هذه المرحلة تسريعا للمفاوضات السرية حول البرنامج النووي الإيراني، كما عرفت تبادلا للرسائل السرية بين الولي الفقيه علي خامئني والرئيس باراك أوباما. وبينما تبنى هذا الأخير ما سمي سياسة «الصبر الاستراتيجي» في مواجهة توسع «داعش» في العراق وسوريا، وغض الطرف عن حقيقة الدور الإيراني بالمنطقة؛ عملت طهران على توسيع نفوذها في هاتين الدولتين، ولعبت وحدات «الباسيج» دورا كبيرا في تفريخ عشرات الميليشيات، كلها تدور في الفلك الإيراني وتدافع عن مصالح طهران الاستراتيجية بالمنطقة.
في ظل هذا الوضع الذي عرف ظهور بيئة جديدة للإرهاب؛ تمكنت إيران وميليشياتها بزعامة «فيلق بدر» الذي تشكل في الأصل بزعامة محمد باقر الحكيم، بفتوى من طهران، وضم خليطاً من الهاربين من الجيش العراقي وأسرى الحرب العراقية الإيرانية الموالين لنظام طهران. ولم يكن غريبا أن يتدخل الحرس الثوري بشكل مباشر في العراق، مستغلا الجو الدولي العدائي لنظام صدام حسين، باعتباره - يومذاك - الراعي الأول للإرهاب العالمي.
وكانت السياسة الإيرانية ومصالحها الاستراتيجية تقتضي مشاركة «فيلق بدر» في احتلال العراق وإسقاط نظام صدام سنة 2003. وباسم محاربة الإرهاب، عمل الحرس الثوري الإيراني على تنزيل سياسة بعيدة المدى، وتتلخص في إعادة بناء دولة عراقية طائفية، تسيطر عليها ميليشيات وكتل سياسية، ترتبط عقديا وآيديولوجيا وعسكريا بالحرس الثوري والولي الفقيه.
ووصل الأمر مع بزوغ نجم «داعش» سنة 2014 حد إصدار آية الله علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى بالعراق لفتوى سميت «الجهاد الكفائي» وقيل إنها لمواجهة التنظيم الإرهابي، الذي بسط سيطرته على مناطق شاسعة من العراق وسوريا. غير أن حقيقة سياسة الحرس الثوري داخل العراق، وأهداف الفتوى الدينية لا تنحصر في محاربة تنظيم البغدادي؛ وإنما تكريس وضع مؤسساتي جديد تكون فيه الدولة العراقية، جزءا لا يتجزأ من النظام الإقليمي الذي تقوده إيران، في مرحلة ما بعد «داعش».
* استراتيجية جديدة ضد الإرهاب
إن التراجع الكبير الذي عرفته «خلافة البغدادي» في سنتي 2015- 2016، والذي تحول لتراجع كبير في النصف الأول من 2017، واكبته تحولات مهمة تتعلق بالمصالح الاستراتيجية الخليجية، والروسية والإيرانية والتركية، في العراق وسوريا، رغم التنسيق القائم فيما يخص مواجهة الجماعات الإرهابية. فقد تبين أن الإدارة الأميركية الجديدة ترعى مصالحها الذاتية بالمنطقة، وتخفف من وجودها العسكري بالشرق الأوسط مع توجهها شرقا نحو آسيا وبحر الصين؛ مع مراعاة المصالح الروسية بالمنطقة.
وإذا أضفنا لهذا تداعيات المصالحة التركية الروسية، وما أفرزته من تناقضات وتنسيق ثنائي داخل سوريا لمواجهة «داعش»؛ يتبين أن تراجع «دولة الخلافة» المزعومة، يصاحبه فتور في علاقة طهران بموسكو وتوترات مع واشنطن. وهذه الحالة الدولية الجديدة تحتم على مجلس التعاون الخليجي، توحيد جهوده الدبلوماسية، والتعامل بذكاء مع السياسة الاستراتيجية الجديدة لدونالد ترمب والتي تمنح الأولوية للقضاء على «داعش» و«القاعدة» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية. كما تسعى في الوقت نفسه لتجاوز الاحتراب الطائفي السني الشيعي، مع محاصرة ومراقبة صارمة للسياسة الإيرانية والميليشيات الشيعية التي تمثل درع إيران الإقليمية.
فالاستراتيجية الجديدة في حاجة أكيدة لروسيا، التي لم تعد تبتعد كثيرا عن الأولويات، وإذا استطاعت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، خلق تشابك جديد للمصالح على الأرض بينها وبين روسيا وتركيا، فإننا سنكون حتما أمام وضع ينهي استغلال إيران لورقة الإرهاب، لخلق تحالفات غير تقليدية، ويضعف من قدرة «الحرس الثوري»، في خلق مزيد من الفوضى الميليشياوية بالشرق الأوسط، والمس بالأمن الإقليمي الخليجي.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.