مركز الحرب الفكرية... وتصحيح المسار الخاطئ

الطريق الأنفع والأرفع لمواجهة التطرف والأصولية

الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
TT

مركز الحرب الفكرية... وتصحيح المسار الخاطئ

الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)

قبل بضعة أيام انطلقت في المملكة العربية السعودية رسائل «مركز الحرب الفكرية» عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شارحة أهدافه باللغات العالمية.
والمركز تابع لوزارة الدفاع السعودية، ويعدّ أحد أهم الإفرازات الفكرية لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يقود ثورة فكرية في داخل المملكة، تجلت بشكل واضح للعيان في مقابلته المتلفزة الأخيرة.
المركز الجديد، الذي يرأس الأمير محمد مجلس أمنائه، يدعمنا لطرح السؤال الرئيسي في هذه القراءة هل الإرهاب والتطرف، التشدد والأصولية في حاجة جميعها إلى وسائل عقلية وذهنية لمكافحتها، أم أن الحل الأمني هو الطريق الوحيد لإطفاء النيران المشتعلة؟

المؤكد، أن الإرهاب اليوم لم يعد تلك الخلايا العنقودية التي تنتظم في ترتيب هيراركي (هرمي) واضح المعالم، كما كان الحال في وقت ظهور تنظيم القاعدة، على سبيل المثال، فقد ألهم انتصار «داعش» في العراق قبل عامين جميع المتطرفين المختبئين في أنحاء العالم؛ مما سيزيد بالفعل من انتشار سرطان الإرهاب إلى ما وراء العراق وسوريا، ومحاولة التوغل في بقية المنطقة العربية، والعالم من ورائها.
في هذا السياق، تشتد الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، الذي يعمل على تصحيح المسار الخاطئ الذي مضى فيه العالم عبر عقدين تقريباً؛ إذ اعتبر الجميع أن المواجهات الأمنية والملاحقات الاستخباراتية للإرهابيين، كفيلة باجتثاث جذورهم، وهو ما ثبت عدم صحته؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب بصفته فكرة مجردة ضمن تجريد الأشياء، تقع فلسفياً في نطاق القضايا الفاسدة، فأنت في حربك على الإرهاب بهذه الوسائل الأمنية والعسكرية فقط أشبه ما يكون بشن حرب على فكرة الغضب والكراهية اللتين تنميهما السياسات الخاطئة، مثل تلك التي حولت أفغانستان والعراق، والآن سوريا وليبيا إلى معامل لتفريخ الإرهابيين.
من هنا، تظهر جلياً الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، بصفته فعلاً من أفعال الاجتهاد والتجديد العقلي، فعل يقظة وحضور، وفعل حيوية وفاعلية، وفعل مبادرة ومسؤولية، يتفق مع طبيعة الإسلام العقلانية، التي تتصف بالعمومية والقابلية للتطبيق في كل زمان ومكان، وتبقى أهداف المركز ضرباً من ضروب الاجتهاد الذي يمثل وسيلة تأكيد تلك العمومية، وتفعيل تلك القابلية دائماً وأبداً؛ مما يقضي باستمراره وتجدده، في كل وقت وحين.
يبقى الإرهاب والتطرف نوعين من الباطل، ومع ذلك - ومن أسف شديد - قدّر لهما في العقود الثلاثة الماضية أن يجدا أرضية فكرية في أذهان الكثير جداً من الشباب العربي والمسلم، فهل ما جرى كان بسبب قصور عقلاني، في التواصل الفكري أدى إلى تلك الانحرافات الجسيمة، وذلك التطرف غير الخلاق؟
الشاهد، أن المشروع العالمي الذي يبسط «مركز الحرب الفكرية» لمواجهة التطرف، يقوم على ركائز فلسفية وسياسية وذهنية رائقة وراقية؛ ذلك أنه إن كان الإرهاب سلوكاً عملياً قائماً على أفكار محورية خاطئة ودفعت معتنقها إلى التطرف؟ ثم تحولت إلى عقيدة ثابتة لن تتزحزح من العقل الموبوء بها إلا مع خروج الروح من الجسد إلى بارئها، فإن المكافحة هنا لا يمكن أن تقوم أبداً عبر طلقات الرصاص للقضاء على الإرهابيين، بل عبر كشف الأخطاء والمزاعم والشبهات وأساليب الخداع التي يروج لها التطرف والإرهاب.
يعنّ لنا أن نتساءل: ما الخطأ الفكري الذي جرى في العالمين العربي والإسلامي في السنوات الماضية، وأتاح لهذا النبت الشيطاني أن يجد طريقاً إلى الحياة ليحيلها عبر دروبه السوداء إلى الموت؟
المقطوع به أن مفهومي التطرف والإرهاب نشآ في العقول ظاهرة فردية منعزلة وبعيدة كل البعد عن أي إطار تنظيمي أو سياسي في المجتمعات البدائية قبل أن يصبح أسلوب عمل جماعي منظم تتحرك قواعده وجنوده على الأرض، وتتحول إلى ظاهرة عابرة للحدود مع انتشار ثقافة العولمة؛ فتغزو أفكار التطرف العقول، متجاوزة كل الموانع والحواجز بفعل وسائل الإعلام الحديثة. على أن الإشكالية الأساسية هي أن صوت تلك الوسائل كان - ومن أسف مرة أخرى - هو الأكثر صخباً وضجيجاً ولابما سمعاً ومقدرة على اكتساب المزيد من النفوس والعقول، وربما يعزى ذلك إلى قصور في أدوات الدعوة الصحيحة والإرشاد الواعي.
في هذا الإطار، فإن مركز الحرب الفكرية، يحسن جداً أن يأخذ على عاتقه، وكما جاء في إعلان الانطلاق، أيضاً مسألة المنهج الشرعي الصحيح في قضايا التطرف والإرهاب، وتقديم مبادرات فكرية لكثير من الجهات داخل السعودية وخارجها، إضافة إلى مبادرات فكرية للتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب وآيديولوجيا التطرف.
والشاهد، أن مبادرة «مركز الحرب الفكرية» تكتسي أهمية خاصة من حيث كونها مبادرة عالمية، تتجاوز حدود العالمين العربي والإسلامي إلى آفاق الكون الوسيع، ولا سيما أن ظاهرة الإرهاب الناجمة عن التعصب والتطرف، باتت ظاهرة عالمية، تعاني منها قارات الأرض الست، ولم تخلُ بقعة أو رقعة على الأرض، إلا وأصابتها بفيروساتها القاتلة.
يدرك القائمون على المركز أن التطرف والتعصب يولدان العنف بالضرورة، حيث إن المتعصبين لديهم قناعة راسخة بعدالة قضيتهم يتصرفون من منطلق إحساسهم بالتفوق ويقينهم الذاتي، بأنهم مختلفون عن الآخرين، ويكنّون الاحتقار لمجتمعهم الصغير والكبير.
يصف الكاتب والمفكر الأفريقي الشهير «ووسي سوينكا» المشهد العالمي اليوم بأنه بات عالماً من المتعصبين، وهو عالم واحد ويتداخل مع جميع الأديان والآيديولوجيات والطموحات؛ فالروافد التي تغذي مستنقع التعصب قد تأتي من مصادر مختلفة، وقد يفصل بينها التاريخ والظروف المناخية، والجنس، أو أشكال الظلم والحرمان المتعددة، لكنها تلتقي في المصب نفسه، أي موقع اليقين المطلق الذي لا يناقش، ويدفعها دافع يسمح لكل شخص بأن يعلن نقاء ذاته ونصوع بياضها في مجتمع فاسد ملوث.
ولهذا؛ فإنه في غياب القدرة على الشك بالنفس يولد من اليقين المطلق إحساس بالتفوق، وهو ما تتسم به مواقف المتطرفين، وما يسمح لهم باقتراف أفعال عنيفة ضد المجتمع الذي يحتقرونه وكلهم صلف وغرور؛ لمجرد أن المجتمع لا يؤمن بمجموعة الآراء نفسها التي يعتنقونها هم.
من هنا، يمكننا وصف مشروع «مركز الحرب الفكرية» بأنه مشروع وطني داخلي، ومشروع عالمي خارجي يحارب الإرهاب عبر الأفكار المضادة، عاملاً على إنهاء جذوره الفكرية وحوامله الآيديولوجية والدوغمائية دفعة واحدة، ومحصناً الواقعين الاجتماعيين العربي والإسلامي في الداخل بنوع خاص من مخاطر العنف والإرهاب، وهي معركة مستقرة ومستمرة، تتطلب جهداً على جهد، وإرادة فوق إرادة لشراسة المعركة الفكرية التي يواجهها العالم اليوم.
والثابت من القراءة الأولية لرسائل المركز وأهدافه، أن هناك بعداً طيباً للغاية يتصل بسعي المركز للارتقاء بمستوى الوعي الصحيح للإسلام في الداخل الإسلامي وخارجه... ماذا يعنى ذلك؟
تاريخياً، هناك أخطاء ارتكبتها جماعات بعينها أثرت على الفهم الوسطي ومنهجية الوسطية والاعتدال في الإسلام على الصعيد الداخلي، جرى ذلك عندما اختلط الدين مع الفكر الديني أو الرأي في الدين.
ثم جرى بعد ذلك تسييس الدين، أو تدين السياسة، وهنا نتذكر ما يقول ابن المقفع «الدين تسليم بالإيمان، والرأي (السياسة)، تسليم بالخصومة، فمن جعل الدين رأياً جعله خصومة، ومن جعل الرأي ديناً فقد جعله شريعة». وهكذا؛ فإن الذين يسخّرون الدين لأغراض سياسية ويدّعون أنه يعبر عن إرادة السماء، إنما يحاولون تمرير أفكار خاصة، وإقناع الجماهير بها على أساس أنها إرادة إلهية وهي مجرد إرادة فرد أو حتى جماعة.
على أن إعادة الوعي بأصول الإسلام وثوابته في الداخل، لا بد أن يقابلها عمل فكري كبير في الخارج، ذلك أن الصورة الذهنية الإيجابية عن حقيقة الإسلام عالمياً قد تلقت طعنات خطيرة على مدار التاريخ، بعضها قديم والأثر محدث. أما عن القديم، فقد جرت به المقادير على ألسنة وأقلام وأوراق كثير من المستشرقين والكتاب الغربيين الذين افتأتوا على الإسلام والمسلمين من عينة البروفسور «برنارد لويس» بنوع خاص وأنداده، وهؤلاء حفروا خندقاً واسعاً مليئاً بالكراهية والتعصب والتزمت تجاه العالم الإسلامي، واعتُبر مورداً للعداوات والكراهات، التي أججت ثورات أصحاب القرار والسياسة. تجاه العالمين العربي والإسلامي؛ ما ولد ردود أفعال كارثية لدى قطاعات من الشباب المسلم، الذي قد مضى في طريق عنف مقابل.
يفلح مركز الحرب على الإرهاب فكرياً كثيراً جداً، بوضعه تلك الحرب من الجانب الآخر موضع القتال الفكري، الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، ومقارعة البرهان بالبرهان، أما الطعنات الحديثة فقد تمثلت في العمليات الإرهابية الخطيرة التي روّعت الآمنين في الكثير من العواصم الغربية، وخلفت تصوراً عمومياً مغلوطاً قطعاً، مفاده أن هؤلاء هم المسلمون عن بكرة أبيهم، وهذه هي خلاصة أفعالهم، وإن كان لمركز الحرب الفكرية أن يصنع صنيعاً عظيماً، فإنه لا بد من التواصل الفاعل مع العالم الغربي إعلامياً ومجتمعيا لبيان من يشوّه صورة الأمر بتأويلاته الفاسدة وجرائمه البشعة.
يبقى التطرف في كل الأحوال موقفاً فكرياً يرفض معتنقوه أي فرصة للحوار، كما يرفضون أي تلميح حول وجود قصور أو خطأ في فهمهم، ويذهبون في جدلها إلى أبعد مدى ممكن، وكل مدرسة من مدارسه الفكرية لديها متطرفوها، لكن الثابت أن المتطرفين من جميع الأطياف في نهاية الأمر يرفضون أي تسوية أو حل وسط مع الآخرين الذين لا يشاركونهم آراءهم.
هنا، ومن جديد، فإن مراكز الحرب الفكرية، وبحسب الصياغات الأولية الجيدة للقائمين عليه، يراهن على تكوين فهم عميق ومؤصل لمشكلة التطرف، من خلال أساليب وكوامن نزعاته، لكن تحديد الفئات المستهدفة من قبل الجماعات المتطرفة، وفهم الأدوات والمنهجيات التي تستخدمها الجماعات المتطرفة، ما الذي يجعل المركز، الذي نحن بصدده طرحه فكرياً، مغايراً في العالمين العربي والإسلامي، ويبشر بدور فاعل وخلاق له في قادمات الأيام؟
الشاهد، ملاحظات عدة تبين رحابة فكر القائمين عليه، وفي المقدمة فَهَمُ المجدد الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وخروج أفكاره عن صندوق الاتباع إلى دائرة الإبداع، بداية يفتح المركز أبوابه للتعاون البناء مع كثير من المؤسسات والمراكز الفكرية والإعلامية، وهو في هذا يقدم مثالاً واضحاً على فكرة اللقاء مع الآخر الذي يمتلك رأياً وطرحاً مختلفَين، دون أن يفكر في عزله أو إقصائه بعيداً، بل الاستفادة من تعدد الرؤى في طريق المجابهة الفاعلة لطاعون القرن الحادي والعشرين، أي الإرهاب الناتج من الأصوليات والهويات القاتلة ثانياً في الوقت الذي تشتد فيه ظلامية الاتجاهات اليمينية التي تعود بنا إلى دوائر الفاشية الفكرية الكارهة لأي تشارع أو تنازع عقلاني، نجد أن أحد أهم أهداف المركز، رسم سياسات وأساليب فاعلة لتعزيز قيم الاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم في سياق الإيمان، بحتمية التنوع والتعددية.
هذا الهدف النبيل في واقع الحال يتصل اتصالاً وثيقاً بالعالم الخارجي، مما يلقي عبئاً فكرياً على القائمين على المركز، ويحتم عليهم التعاون والاستعانة بالعقول الآسيوية والأوروبية والأميركية، وكل من يؤمن بروح اللقاء مع الآخر، في مواجهة الأطروحات النظرية المجردة التي عانى منها العالم في العقدين الأخيرين، مثل نظرية «صدام الحضارات» لصاحبها صموئيل هنتنغتون، أو «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكاياما، وإن تراجع لاحقاً عن شموليتها في شكل من أشكال إعادة القراءة لديالكتيك التاريخ الذي لا يتوقف، وإلا كانت نهاية الإنسانية بالفعل.
لعل نجاحات ونجاعات «مركز الحرب الفكرية» تتأتى من يقين ثابت، ظاهر للعيان ضمن سطور المركز وأهدافه، يقين بحتمية استخدام قوى التعددية الثقافية من أجل محاربة التطرف والتشدد، اللذين يقودان حتماً في طريق الإرهاب والعنف.
لقد حذر الكثير من المثقفين والفلاسفة والمفكرين مراراً من خطر العودة إلى نظم الحكومة الفاشية أو الشمولية التي تدعو إليها جماعات الإرهاب، والتي عانى منها العالمان العربي والإسلامي كثيراً مؤخراً؛ فالفكر المتطرف يطرح شعارات شديدة التبسيط لحل محلال معقدة، ويمثل هذا الفكر خطراً محققاً في جميع المجتمعات والأزمنة، ولكن مثل أي مرض، فإن له علامات وأعراضاً نستطيع أن نحتاط منها عبر الفكر المنفتح على الآخر، الواعي بحقائقه وتطوراته الإنسانية.
في هذا السياق، يسعى «مركز الحرب الفكرية» إلى أن يكون شعلة، وليس فقط شمعة للتنوير في عالمنا المعاصر، حيث يعرض قيم الإيمان السليم ومبادئه بخطاب يراعي تفاوت المفاهيم والثقافات والحضارات، منسجماً مع سياقه العصري.
المركز المتوقع له نجاحات طيبة، لديه إرادة حقيقية في الإفادة من الدراسات والبحوث التي تدفع في طريق ثنائية التفكير وتعظيم الاستفادة منها، لا أحادية الرأي الواحد التي تقود إلى الحكم الأوتوقراطي، الذي علمتنا التجارب التاريخية أنه يولد ويورث كوارث لا قبل للبشرية بها من جديد. طريق المركز لمحاربة الإرهاب يتقاطع إيجاباً مع إنشاء منصات علمية وفكرية، وعقد منتديات ومؤتمرات فكرية وكل أوجه التلاقح والتنافح، والشراكات الإنسانية والدينية الثرية، شرقاً وغرباً، التي جل هدفها تعزيز رؤية الهيمنة المعتدلة في زمن الأوصوليات والحروب والعنف النار والدمار والمرار.
يأتي المركز ليعزز رؤية المملكة العربية السعودية الحديثة، التي يقود نهضتها الفكرية والتنموية الأمير محمد بن سلمان، والداعية إلى احترام حقوق الإنسان والتسامح مع وجهات النظر الأخرى، والانحياز إلى العدالة الاجتماعية، وإلى رؤية كونية تتجاوز الحواجز القومية والعرقية والدينية، وهذه نقلة فكرية قبل أن تكون بنيوية لمواجهة الغلو والتطرف، ومسرب من مسارب العودة إلى زمن الحضارة العربية والإسلامية التي بزغت شمسها قبل قرون على العالم، في لقاءات وحوارات ذهبية، وآن لها العودة من جديد وهي عودة محمودة ولا شك.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.