فِن ديزل لـ «الشرق الأوسط»: عملي الأخير مغامرة على أكثر من صعيد

بطل أفلام الإثارة والسرعة الأميركي يؤكد أنه لن يمر عابراً في السينما

ديزل كما ظهر في «xXx»  -  لعب دور المحامي في فيلم سيدني لومت «اعتبرني مذنباً»
ديزل كما ظهر في «xXx» - لعب دور المحامي في فيلم سيدني لومت «اعتبرني مذنباً»
TT

فِن ديزل لـ «الشرق الأوسط»: عملي الأخير مغامرة على أكثر من صعيد

ديزل كما ظهر في «xXx»  -  لعب دور المحامي في فيلم سيدني لومت «اعتبرني مذنباً»
ديزل كما ظهر في «xXx» - لعب دور المحامي في فيلم سيدني لومت «اعتبرني مذنباً»

بينما يواصل «قدر الغاضبين» نجاحاته الحالية جامعاً نحو 800 مليون دولار حتى الآن، ينطلق فيلم جديد آخر من اشتراك الممثل فِن ديزل وهو «حراس المجرّة2». لكن «قدر الغاضبين»، وهو الجزء الثامن من سلسلة Fast and Furious التي انطلقت لأول مرّة سنة 2001، هي الملعب الأساسي للممثل ديزل. وبينما يوفر ديزل تمثيلاً صوتياً فقط في «حراس المجرة»، هو كل شيء في «قدر الغاضبين» داخل الفيلم (كممثل) وخارجه (كمنتج).
إلى ذلك، هناك حقيقة أن فِن ديزل لديه أكثر من مسلسل ناجح.
في البداية، وقبل عام واحد من إنتاج أول جزء من «سريع وغاضب»، مثل دور الفضائي الذي حط على ظهر كوكب متوحش في فيلم «معتم تماماً» (Pitch Black) وهذا تم الرجوع إليه سنة 2004 عبر «مفكرة روديك» (اسم شخصيته في الفيلم) ثم عبر «ريديك» سنة 2013.
هناك أيضاً مسلسل xXx والجزء الأول منه تم إنتاجه سنة 2002 والجزء الثاني منه ظهر في مطلع هذه السنة تحت عنوان xXx‪:‬ Return of Xander Cage.
وإذا لم يكن هذا كافياً لاعتبار فِن ديزل أحد أكثر ممثلي اليوم حباً بسينما المسلسلات فإن على جدول أعماله تحقيق جزء ثانٍ من «آخر صياد ساحرات» الذي كنا شاهدنا الجزء الأول منه قبل عامين.
يؤمّـن فِن ديزل كل ما يتطلبه الفيلم الواحد من ثقة. هو ليس في هذا «البزنس» لكي يمر عابراً بل ليؤسس لنفسه صرحاً كبيراً كما فعل سواه من قبل. لهذه الغاية يمارس نشاطه ممثلاً ومنتجاً ويهتم بالتفاصيل ليتأكد من أن كل شيء في مكانه الصحيح. رغم ذلك، تتفاوت نجاحات أفلامه ومسلسلاته، لكن القليل منها يهرب من الضوء الساطع عليها.
فنياً، هي ليست أفلام للتداول الثقافي ولا للعرض في المهرجانات ولا حتى للتداول كاحتمالات أوسكار، لكن هذا الجانب ليس وارداً الآن على الأقل في هذه المرحلة وإلى سنوات قريبة من بعد.
والواقع أنه حاول قبل عشر سنوات البحث لنفسه عن مكان وسط أعمال مطرّزة بأساليب مخرجيها وليس منتجيها وأبطالها فمثل «اعتبرني مذنباً»، لكن النجاح لم يحالفه في هذه الغاية. الفيلم لم ينجز له لا الاهتمام الجاد بين هواة السينما ولا الرواج الشعبي الكافي.
لكن بين كل مسلسلاته ومشاريعه المجزأة على أكثر من حلقة يبقى «السريع والغاضب» أقربها إليه وأكثرها نجاحاً. والجزء الثامن، على الرغم من ارتفاع معدل الفانتازيا الشاطحة فيه، يحمل عناصر مهمّـة من بينها أن الإنتاج تم - جزئياً - في كوبا وأنه يشهد المزيد من السيارات الطائرة وأن الإشاعات دارت حول خلافات بينه وبين دواين جونسون. أمور ترد في حديثه التالي.
** روح الفيلم
* تواصل سلسلة «سريع وغاضب» ضم ممثلين جددا إلى حلقاتها. هذه المرّة، في هذا الجزء الثامن، هناك تشارليز ثيرون وهيلين ميرين. وسابقاً تم ضم كيرت راسل وهناك سواهم بالطبع. ما هو الدافع إلى ذلك؟
- هناك الكثير من دوافع. بالنسبة لكيرت راسل، أنا أحب هذا الممثل ومعجب به. وعندما سألني (المخرج) جيمس غَـن عمن يستطيع أن يلعب الدور الذي أدّاه راسل في فيلم «حراس المجرة2» نصحته به. وفي الجزء السابع استعنت به للسبب ذاته، وأصبح من المجموعة التي أعتز بها في هذا المسلسل. بالنسبة لتشارليز ثيرون وهيلين ميرين، كان من بين الأسباب طبعاً حاجة الفيلم إليهما فهما ممثلتان جيدتان إلى حد بعيد وكلاهما ربح الأوسكار. كانت رغبتنا ضم ممثلين آخرين من رابحي الأوسكار لكن القصة لم تعد تحتمل.
* هل الفكرة هنا هي ضم المزيد من الوجوه لتحقيق النجاح؟
- النجاح مؤمن أو معظمه مؤمن في كل الحالات. طبعاً نستفيد من الأسماء الكبيرة بلا ريب ومن ذكرناهم لديهم كيان من الأعمال لا يمكن التغاضي عنه وهم حاضرون في بال هواة السينما منذ عقود. لكن هذه الفكرة ليست الوحيدة. شخصياً أشعر بالسعادة لأن مواهب كثيرة موجودة في هذا الفيلم ولا أقصد بالطبع الأسماء التي نتحدث عنها الآن، بل الجميع كذلك.
* هل كانت هناك مشاكل في الكتابة أو في الإخراج مع كل هذا العدد من الممثلين الذين في هذا الجزء؟ نتحدث عن جاسون ستاثام ودواين جونسون وميشيل رودريغيز وسواهم…
- أنت تحكم. هل لاحظت أن هناك مشاكل في توزيع هذه الأدوار أو في الشخصيات كما كتبت؟ حاولنا واستطعنا، في رأيي، منح كل شخصية تفاعلها مع الحكاية التي نسردها وهذا لم يتم بسبب هذا الفيلم فقط، بل تم تأسيس معظم الشخصيات في الأجزاء السابقة.
* ماذا عن الخلاف الذي قرأت أنه وقع بينك وبين دواين جونسون؟ هل هو خلاف حقيقي أم واحد من أساليب الترويج؟
- تقصد تصريحه بأننا لم نلتق كثيراً في الفيلم وأنني انفردت بالدور بعيداً عن الشلة؟… أهذا ما قرأته؟
* تماماً.
- لكن هذا هو روح الفيلم. هذه هي حبكته. أنت شاهدت الفيلم وشاهدت كيف أن القصّـة تدور حول شخصية دوم التي أمثلها وقد قررت التعاون مع امرأة شريرة منفصلاً عن المجموعة التي أنشأتها سابقاً. معظم مشاهدي كانت مع تشارليز ثيرون وليس مع الآخرين. هذه هي طبيعة القصّـة. كل الممثلين الآخرين في هذا الفيلم كان لهم ظهور محدود معي لأن الحبكة دارت في جانب آخر. هذا ما جعل معظم الممثلين الآخرين يظهرون معاً أكثر من ظهورهم معي. لذلك لا أعتقد أن هناك أي خلاف بيني وبينه. ربما لم نلتق كفاية ولم نتجالس ونلهو معاً هذه المرّة، لكن هذه هي شروط العمل.
* هل استفادت السلسلة من وجود اثنين من ممثلي شخصيات القوّة، أنت ودواين؟
- أشكرك على هذا السؤال وأقول كثيراً. استفادت كثيراً. عندما اقترحت دواين للانضمام إلى مجموعة ممثلي هذه السلسلة كنت أعرف كيف ستستفيد هذه السلسلة من ذلك. كنت ولا أزال من المعجبين بدواين وسيبقى مثل أخ لي. بالنسبة للقوّة البدنية التي تتحدّث عنها، كنا في الأجزاء السابقة نعمل معاً وأعتقد أن الإفادة كانت أكبر من أن توصف علماً بأن شخصية كل منا كانت مختلفة في تلك الأفلام. لكن وكما ذكرت أخذت القصّـة هنا منعطفاً جديداً ما جعل الأمر يبدو كما لو أننا مختلفان.
** لكل جيل أبطاله
* هذا أكبر إنتاج في سلسلة «سريع وغاضب» هل ترى مع ارتفاع التكلفة ارتفاع مماثل للمسؤوليات؟
- بكل تأكيد. هناك الكثير مما يُحسب له في هذا الفيلم. تريد أن تبقي عنصر الدهشة متوفراً وهو عنصر لا يمكن توفيره من دون تكلفة ولا يمكن توفيره من دون الذهاب إلى مناطق في الأحداث والمشاهد لم تقع من قبل. لكن هناك عنصراً آخر، وأنا سعيد بهذا السؤال لأنه يتيح لي الحديث في موضوع أحب الحديث فيه، وهو أننا عندما فكرنا في حكاية تقوم على أن الشخصية التي أمثلها تقرر الانفصال، ولو إلى فترة معينة، عن الفريق الذي دائماً ما عملت معه، كنا ندوس على أرض ألغام.
* كيف ذلك؟
- لقد تم تأسيس السلسلة على أننا عائلة واحدة. الواحد للكل والكل للواحد. فجأة هناك واحد منا يقرر الانفصال. هذا سبب قلقاً من حيث إننا بهذه الفكرة سنخرج عن الخط المرسوم من البداية وهي مغامرة بقيمة 250 مليون دولار، بل ربما بأكثر من ذلك لأن علينا أن ننظر إلى أبعادها في الحلقات التالية.
* لكن المغامرة نجحت.
- جداً.
* أرى أن هناك لقاء بين حقيقة رحيل شريكك الأول بول ووكر، في حادثة مؤسفة، وقرارك هنا جعل دوم يسير في درب وعر يتعارض والقانون ويتعارض مع أصدقائه جميعاً.
- أعتقد أن لديك شيئا هنا. ربما في اللاوعي. هذه ناحية جديدة علي أن أفكر بها.
* ما الفرق، في نظرك، بين ممثلين سابقين من جيل السبعينات والثمانينات من ذوي اللياقة البدنية الذين قاموا بتمثيل أفلام أكشن وممثلي اليوم في هذا المجال؟
- الفوارق في رأيي تتعلق بشخصية كل ممثل. لا أعتقد أنني أو دواين أو جاسون صورة من أي من الممثلين السابقين، أرنولد أو سلفستر أو تشاك نوريس. ولا هم سابقون لنا في هذه الناحية لأن كلا منهم وكل واحد منا مختلف تماماً. والأفلام بدورها كثيرة الاختلاف. لكن أكثر من ذلك هو أنه في تلك الفترة كانت هناك الكثير من الفرص أمام ممثلي أدوار القوّة. مرت مرحلة كانت كل سنة فيها توفر ممثلين من هذا النوع على الأقل. الآن، ولظروف مختلفة، ليس هناك الكثير من ممثلي أدوار القوّة.
* هل كان هناك أفلام سابقة لسلفستر ستالون أو لأرنولد شوارتزنيغر تتمنى لو مثلتها؟
- لا أدري. «روكي»؟ «رامبو»، «توتال ريكول»… ربما.
* أخبرتني في لقاء سابق عن أنك منحت نفسك فرصة للظهور في أدوار مختلفة عن أدوار القوّة وذكرت لي أن فرصتك الأهم كانت مع المخرج الراحل سيدني لومِـت. ونحن نعلم الآن أن ذلك الفيلم الذي جمعكما لم ينجح تجارياً. لكن هل تكفي محاولة واحدة في هذا الصدد؟
- أنا ابن مدرس دراما. والدي كان يدرس التمثيل في معهد بروكلين في نيويورك. ترعرعت في هذا الجو. وكنت أستمع إلى الممثلين الطموحين آنذاك وهم يتناقشون في أساليب الأداءات والشخصيات وكيف يمكن تمثيلها. كان الحديث منعشاً بالنسبة لي. وعندما مثلت الفيلم الذي تقصده وهو «اعتبرني مذنباً» كنت بالفعل أتطلع لتمثيل شخصية أخرى غير التي وجدتها متاحة لي في أفلام سلسلة X وسلسلة «ريديك» أو سلسلة «السريع والغاضب». للأسف لم يحظ الفيلم، تماماً كما ذكرت، بالإقبال. لكني استمتعت به وبحقيقة أنني تعاملت مع مخرج جوائز موهوب جداً. ربما ما تقوله صحيح. ربما كان علي أن لا أستعجل العودة إلى أفلام الأكشن، لكن هذه كانت حاضرة ومتعددة آنذاك ولم يكن لدي وقت للتجريب.
* ثم هناك بالطبع دورك كأحد ممثلي فيلم «إنقاذ المجند رايان». لم يكن دور بطولة لكنه كان دوراً آخر في فيلم جاد.
- هذان الفيلمان يشكلان عندي نقطة عالية في مهنتي.
** أمام تشارليز
* هذا الجزء الثامن من المسلسل صوّرت الكثير من مشاهده في كوبا. ما الغاية التي كنت تريد الوصول إليها عبر التصوير هناك؟
- قد لا تعلم أنني تخليت سنة 2000 مؤقتاً عن هويتي الأميركية بسبب الحظر الذي كان مفروضاً على الأميركيين وذلك لأني أردت أن أزور كوبا. منذ ذلك الحين فكرت في التصوير هناك. لم أكن أعرف ما هو الشيء الذي كنت أريد تصويره، لكنني كنت أعلم أنني سأبحث عنه. عندما غادرت كوبا للعودة إلى أميركا كررت القول لرجال الجمارك أنني سأعود للتصوير في كوبا في يوم ما.
* هل شاركك بول ووكر بعض هذه الأفكار؟ هل كان يود التصوير في كوبا أيضاً؟
- نعم لكن على نحو غير مباشر. كان يطلب مني دائماً، كمنتج، أن أعود إلى أصول «سريع وغاضب». هل تعرف ما أقصده؟ في البداية كانت هناك تلك الشلّـة التي تستمتع بسباق السيارات غير القانونية. ثم طبعاً تجاوزنا ذلك عندما كبرت المهام التي نقوم بها وإن كانت السيارات والمطاردات تشكل المحرّك الحقيقي للسلسلة ولكل جزء منها. كوبا يمكن أن تكون المكان لمثل هذه السباقات القديمة والبسيطة. فكرت في بول ونحن نصوّر هذا الجزء هناك وتمنيت لو أنه عاش ليكون معنا.
* كيف وجدت تشارليز ثيرون كممثلة؟
- تحدثنا سابقاً عن خلافات هي في الواقع غير موجودة؟ هذا أيضاً ما فعلناه في المشاهد التي جمعتنا. كنا بين تصوير مشهد وآخر نتصدى كل للآخر. ندخل في خناقات يومية. نقفز مثل ديكين متشابكين. لكن كل ذلك لمصلحة الفيلم. كل دفع الآخر إلى الحائط لكن ذلك كان ما نحتاجه لهذا العمل. إنها ممثلة رائعة ومحترفة وأقدر لها ذلك كثيراً.
* كان هناك مشروع فيلم مشترك بينكما قبل عدة سنوات، أليس كذلك؟
- نعم. لم نعمل معاً في الواقع، لكن كان هناك مشروع فيلم انسحبت منه قبل أسبوعين من التصوير وكانت هي فيه.
* بين كل أجزاء هذه السلسلة، هل هناك ما تفضله أكثر من سواه؟
- نعم لكن ليس لأسباب أن هذا أفضل من ذاك. مثلاً هناك دائماً ذكرى الجزء الأول عندما كانت السلسلة مجرد فيلم واحد وأول سنة 2001. ثم هناك تلك الأفلام التي جمعتني ببعض الممثلين والمخرجين. الفيلم الأول الذي جمعني بميشيل رودريغيز…
* أعتقد أنه كان الثالث في السلسلة… سنة 2009.
- صحيح. لكن هذا الفيلم الجديد مثل بقعة ضوء ساطعة. تجربة كبيرة وجديدة وهي الأفضل بالنسبة لي حالياً. هذه السلسلة هي بيتي الأول وأنا حريص على الدفاع عنها. هي السلسلة الأحب إلى نفسي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)