دستور اليابان يتأرجح بين السلمية والدفاعية

في ذكراه السبعين تأييد شعبي لمبادئه الأولى وسعي حكومي لتغييره ليناسب الوضع الدولي

دستور اليابان يتأرجح بين السلمية والدفاعية
TT

دستور اليابان يتأرجح بين السلمية والدفاعية

دستور اليابان يتأرجح بين السلمية والدفاعية

رغم أن اليابانيين يفتخرون بدستورهم ويرونه مثالاً لتقدم الحضارة البشرية واعتناق الإنسان لمبادئ السلام، فإن المناخ السياسي الحالي المحلي والدولي بدأ يبتعد قليلا عن تلك الأجواء التي سادت لسبعين عاما، وأبعدت اليابان عن النزاعات الدولية. وفي الذكرى السبعين بالذات، التي صادفت يوم أول من أمس، أتى التعبير الأقوى عن الخطر الذي يحيق باستمرارية الدستور الحالي، على شكل إعلان صريح وغير مسبوق لرئيس الوزراء شينزو آبيه عن جدول زمني محدد لتحقيق حلمه بتغييره. حيث قال في رسالة فيديو موجهة إلى منتدى حول الدستور نظمه مركز أبحاث يميني التوجه في طوكيو، إنه يأمل أن يرى الدستور الجديد النور في عام 2020، داعياً اليابانيين إلى الدخول في نقاش معمّق حول الشكل الذي يجب أن تكون الصيغة الجديدة عليه.
في الواقع، فإن تغييرا قد بدأ بالفعل. فقبل الذكرى بيومين أبحرت «إيزومو» كبرى سفن قوات الدفاع الذاتي اليابانية من قاعدة يوكوسوكا البحرية جنوبي طوكيو لترافق سفينة حربية أميركية تبحر قرابة الشواطئ اليابانية والقيام بحمايتها. وقد أصبحت مهمات عسكرية كتلك ممكنة قانونياً منذ سبتمبر (أيلول) 2015 عندما أقرّ البرلمان الياباني عدداً من القوانين الأمنية التي تبنّت تفسيراً جديداً تماماً للدستور، يسمح لليابان بممارسة حق الدفاع الذاتي، وأيضاً الدفاع عن دول حليفة، حتى لو لم تتعرض اليابان لعدوان مباشر.
وكثفت كوريا الشمالية على مدى الاثني عشر شهرا الماضية تجاربها الصاروخية، وكان أحدثها تجربة إطلاق باءت بالفشل يوم السبت الماضي. واتهمت بيونغ يانغ الولايات المتحدة بدفع شبه الجزيرة الكورية إلى شفا حرب نووية بعد أن أجرت قاذفتان أميركيتان استراتيجيتان تدريبات مع القوات الجوية الكورية الجنوبية واليابانية.
آنذاك لم تستطع المعارضة إيقاف تمرير القوانين؛ نظراً للأغلبية التي يحظى بها الائتلاف الحاكم في مجلسي النواب والمستشارين، إلا أن جلسات البرلمان شهدت مئات الساعات من النقاشات الحادة، كما غزت شوارع طوكيو مظاهرات حاشدة لمعارضة القوانين الجديدة، ذكّرت بفترات النشاط السياسي الطلابي في ستينات القرن الماضي. ويرى مناصرو الحفاظ على الدستور الحالي في القوانين الجديدة التفافاً على روح الدستور المتمثلة في الفقرة التاسعة الشهيرة التي تنص صراحة على أن اليابان تنبذ الحرب بصفتها حقّاً سيادياً، وتمتنع عن امتلاك قوات عسكرية.
أظهر استطلاع نشرت نتائجه يوم الأربعاء بمناسبة الذكرى، أن ناخبي اليابان منقسمون بشدة حول حملة رئيس الوزراء شينزو آبي لتعديله وسط حالة من القلق بسبب التوتر مع كوريا الشمالية. وأظهر الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة «نيكي» بالتعاون مع قناة «تي.في طوكيو» ونشر بمناسبة ذكرى صياغة الدستور، أن هناك تزايدا في التأييد لحملة آبي لتعديل الوثيقة التي كتبتها الولايات المتحدة بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، ولم يطرأ عليها أي تعديل من وقتها. ويشير الاستطلاع إلى أن نحو 46 في المائة ممن شاركوا فيه يؤيدون الإبقاء على الدستور بصيغته الحالية، وهو ما يقل أربع نقاط مئوية عن استطلاع مماثل أجري العام الماضي. أما نسبة المؤيدين للتعديل فبلغت 45 في المائة بزيادة خمس نقاط مئوية عنها قبل عام.
ويبدو أن الرأي العام الياباني يتجه ببطء إلى قبول تغيير الدستور. وتطرح تساؤلات حول ما إذا كان ذلك نابعاً من عدم اهتمام المواطن الياباني العادي بالشؤون السياسة، وتسليمه أمر اتخاذ القرارات لـ«ذوي الأمر»، أم أن التوتر المتصاعد مع كوريا الشمالية والمستمر مع الصين قد لعب دوراً أساسيا في ذلك.
وأشار آبي يوم الاثنين إلى تزايد خطورة «الوضع الأمني» كعامل يظهر أن الوقت حان لاتخاذ «الخطوة التاريخية صوب الهدف الكبير المتمثل في الإصلاح الدستوري»، وفقا لما ذكرته وكالة «كيودو» للأنباء. ونقلت «كيودو» عن آبي قوله أمام جمع في طوكيو ضم عددا من المشرعين المؤيدين للتعديل الدستوري والمنتمين إلى أحزاب مختلفة «إن من يظنون أن الدستور مجلد خالد هم الآن أقلية صغيرة».
وفي مارس (آذار) تقدم الحزب الديمقراطي الحر الحاكم باقتراح رسمي بأن تبحث الحكومة اكتساب قدرات تمكنها من ضرب قواعد العدو، وتعزيز الدفاع الصاروخي في مواجهة تهديدات كوريا الشمالية. وتنص المادة التاسعة من الدستور على أن تنبذ اليابان وللأبد الحق في شن حرب.
ويثير الدستور الياباني نقاشاً مستمراً منذ عقود، فهو كتب بيد عدد من الموظفين الأميركيين في إدارة الاحتلال الأميركي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً عام 1947، لكن اليسار الياباني الذي رفض الاحتلال الأميركي وما تلاه من ارتباط وثيق بين طوكيو وواشنطن يدافع عن الدستور، ويعتبر أن الأميركيين أرادوا أن يحيّدوا اليابان عن الحروب في تلك الفترة، فخلقوا وثيقة سلمية عن طريق الخطأ، لكنه خطأ أدى إلى صواب، بحسب تعبيرهم.
ويشير أصحاب هذه النظرية إلى دعوة الولايات المتحدة اليابان للتخلي عن الفقرة التاسعة ودعم القوات الأميركية خلال الحرب الكورية في الخمسينات، أي بعد تطبيق الدستور الياباني بسنوات قليلة. أما النظريات السائدة في أوساط اليمين، فهي غالباً ما ترى في الدستور رمزاً لهزيمة اليابان في الحرب، وسبباً لبقاء اليابان بلداً غير طبيعي من ناحية حرمانه من حق امتلاك جيش يدافع عن أرضه كسائر الأمم.
وفي الواقع، تمتلك اليابان قوات عسكرية ضخمة تندرج عادة ضمن ترتيب القوات العشر الأكبر حجماً في العالم، لكنها تحمل اسم قوات الدفاع الذاتي وليس الجيش الياباني، كما أن وزارة الدفاع اليابانية لم تحظ بهذا الاسم إلا منذ عشر سنوات، حيث كانت تسمى وكالة الدفاع الذاتي لغاية عام 2007. ولا ينحصر الجدل المتعلق بالدستور في الأمور العسكرية، حيث تسعى الحكومة الحالية لإدخال بنود تكرس توجهها الاجتماعي المحافظ في نصّ الدستور الجديد. وتتضمن البنود المقترحة حالياً من طرف الحكومة تأكيداً على أهمية القيم العائلية، وغيرها من القيم الأخلاقية التقليدية التي يخشى البعض أن تفتح الباب لتدخل الدولة في الحياة الخاصة للمواطنين، وأن تتعارض مع الحريات الفردية، أو أن تنعكس على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية. فعلى سبيل المثال، قد يطرح وجود مثل تلك البنود تساؤلات حول حدود مسؤولية الدولة في تقديم الضمان الاجتماعي للمسنّين في مقابل مسؤولية العائلة اليابانية إزاء مسنّيها.
كما تتضمن القضايا الدستورية مسائل تتعلق بالأسرة الإمبراطورية ومنها حقّ الإمبراطور في التنحي من منصبه، وهي قضية ساخنة في اليابان حالياً منذ تلميح الإمبراطور الحالي أكيهيتو في كلمة متلفزة صيف العام الماضي إلى مسألة تقدمه في السنّ، وصعوبة ممارسته واجباته العامة. وفي السياق ذاته، قد تظهر مسألة أخرى في السنوات المقبلة تتمحور حول إمكانية اعتلاء امرأة للعرش الإمبراطوري الياباني، وذلك في ظل عدم وجود ابن ذكر لولي العهد الحالي الأمير ناروهيتو.

معرض عن الدستور الياباني في الذكرى السبعين لكتابة نصه (أ.ف.ب)
الذكرى الثلاثون للهجوم على صحيفة «أساهي»
* تزامن إحياء الذكرى السبعين للدستور الياباني في 3 مايو (أيار) مع الذكرى الثلاثين للهجوم الإرهابي على مقر صحيفة «أساهي» في مقاطعة هيوغو غربي اليابان، الذي وقع في الثالث من مايو عام 1987 حين اقتحم شخص مسلّح مقر الصحيفة المعروفة بتوجهها اليساري في مدينة نيشينوميا، وأطلق النار على صحافيين اثنين؛ فأردى أحدهما قتيلاً. منظمة «سيكيهوتاي» اليمينية المتطرفة أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم آنذاك.

نص المادة التاسعة من الدستور الياباني
* يتطلع الشعب الياباني بصدق وإخلاص إلى السلام العالمي القائم على أسس من العدل والنظام، ويتخلى إلى الأبد عن الحرب بصفتها حقاً سيادياً للدولة، وعن القيام بأي أعمال عدوانية أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية. ومن أجل تحقيق الغاية من البند السابق، لا يتم امتلاك قوات برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوات العسكرية، ولا تعترف الدولة بحقها في خوض الحروب.



كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
TT

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

نجح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية جديدة في أوروبا وحول العالم، عبر جعل التهديد النووي أمراً عادياً، وإعلانه اعتزام تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

في عام 2009، حصل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على «جائزة نوبل للسلام»، ويرجع ذلك جزئياً إلى دعوته إلى ظهور «عالم خالٍ من الأسلحة النووية». وفي ذلك الوقت، بدت آمال الرئيس الأميركي الأسبق وهمية، في حين كانت قوى أخرى تستثمر في السباق نحو الذرة.

وهذا من دون شك أحد أخطر آثار الحرب في أوكرانيا على النظام الاستراتيجي الدولي. فعبر التهديد والتلويح المنتظم بالسلاح الذري، ساهم فلاديمير بوتين، إلى حد كبير، في اختفاء المحرمات النووية. وعبر استغلال الخوف من التصعيد النووي، تمكن الكرملين من الحد من الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الغربية لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، ومن مَنْع مشاركة الدول الغربية بشكل مباشر في الصراع، وتخويف جزء من سكان هذه الدول، الذين تغلّب عليهم «الإرهاق والإغراءات بالتخلي (عن أوكرانيا) باسم الأمن الزائف».

بدأ استخفاف الكرملين بالأسلحة النووية في عام 2014، عندما استخدم التهديد بالنيران الذرية للدفاع عن ضم شبه جزيرة القرم من طرف واحد إلى روسيا. ومنذ ذلك الحين، لُوّح باستخدام السلاح النووي في كل مرة شعرت فيها روسيا بصعوبة في الميدان، أو أرادت دفع الغرب إلى التراجع؛ ففي 27 فبراير 2022 على سبيل المثال، وُضع الجهاز النووي الروسي في حالة تأهب. وفي أبريل (نيسان) من العام نفسه، استخدمت روسيا التهديد النووي لمحاولة منع السويد وفنلندا من الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)». في مارس (آذار) 2023، نشرت روسيا صواريخ نووية تكتيكية في بيلاروسيا. في فبراير 2024، لجأت روسيا إلى التهديد النووي لجعل النشر المحتمل لقوات الـ«ناتو» في أوكرانيا مستحيلاً. وفي الآونة الأخيرة، وفي سياق المفاوضات المحتملة مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، جلبت روسيا مرة أخرى الخطاب النووي إلى الحرب، من خلال إطلاق صاروخ باليستي متوسط ​​المدى على أوكرانيا. كما أنها وسعت البنود التي يمكن أن تبرر استخدام الأسلحة الذرية، عبر مراجعة روسيا عقيدتها النووية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع مع قيادة وزارة الدفاع وممثلي صناعة الدفاع في موسكو يوم 22 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

التصعيد اللفظي

تأتي التهديدات النووية التي أطلقتها السلطات الروسية في الأساس ضمن الابتزاز السياسي، وفق «لوفيغارو». ولن تكون لدى فلاديمير بوتين مصلحة في اتخاذ إجراء عبر تنفيذ هجوم نووي تكتيكي، وهو ما يعني نهاية نظامه. فالتصعيد اللفظي من جانب القادة الروس ورجال الدعاية لم تصاحبه قط تحركات مشبوهة للأسلحة النووية على الأرض. ولم يتغير الوضع النووي الروسي، الذي تراقبه الأجهزة الغربية من كثب. وتستمر الصين أيضاً في لعب دور معتدل، حيث تحذّر موسكو بانتظام من أن الطاقة النووية تشكل خطاً أحمر مطلقاً بالنسبة إليها.

إن التهوين من الخطاب الروسي غير المقيد بشكل متنامٍ بشأن استخدام الأسلحة النووية ومن التهديد المتكرر، قد أدى إلى انعكاسات دولية كبيرة؛ فقد غير هذا الخطاب بالفعل البيئة الاستراتيجية الدولية. ومن الممكن أن تحاول قوى أخرى غير روسيا تقليد تصرفات روسيا في أوكرانيا، من أجل تغيير وضع سياسي أو إقليمي راهن محمي نووياً، أو إنهاء صراع في ظل ظروف مواتية لدولة تمتلك السلاح النووي وتهدد باستخدامه، أو إذا أرادت دولة نووية فرض معادلات جديدة.

يقول ضابط فرنسي: «لولا الأسلحة النووية، لكان (حلف شمال الأطلسي) قد طرد روسيا بالفعل من أوكرانيا. لقد فهم الجميع ذلك في جميع أنحاء العالم».

من الجانب الروسي، يعتبر الكرملين أن الحرب في أوكرانيا جاء نتيجة عدم الاكتراث لمخاوف الأمن القومي الروسي إذ لم يتم إعطاء روسيا ضمانات بحياد أوكرانيا ولم يتعهّد الغرب بعدم ضم كييف إلى حلف الناتو.

وترى روسيا كذلك أن حلف الناتو يتعمّد استفزاز روسيا في محيطها المباشر، أكان في أوكرانيا أو في بولندا مثلا حيث افتتحت الولايات المتحدة مؤخرا قاعدة عسكرية جديدة لها هناك. وقد اعتبرت موسكو أن افتتاح القاعدة الأميركية في شمال بولندا سيزيد المستوى العام للخطر النووي.