«فتح بور سيكري» مدينة توقف عندها الزمان والمكان

قبل التخطيط للقيام برحلة إلى الهند، يكون المكان الأساسي على قائمة الأماكن التي يرغب الجميع في زيارتها «تاج محل»، جوهرة مدينة أغرا، ورمز حب الإمبراطور المغولي الأبدي لزوجته، لكن نادراً ما يكون على قائمة تلك الأماكن، التي تبعد نحو 40 كيلومترا (كلم) عن أغرا.
تم اعتبار آثار «فتح بور سيكري» (مدينة النصر)»، التي توقف عندها الزمان والمكان، وكانت عاصمة الإمبراطور المغولي «أكبر» خلال الفترة من 1517 إلى 1585، من مواقع التراث العالمي عام 1986.
لقد كنت في «فتح بور سيكري» خلال الشهر الماضي، وكان الحجر الرملي الأحمر، والسماء الزرقاء الصافية، والمساحات الخضراء المحيطة، مثل قصيدة شعر. كم أذهلتني عمارة المغول الهائلة، ودقتها؛ ولطالما أذهلتني القدرات الكبيرة على التصميم، والتنفيذ، والعمل الفني، التي تضافرت معاً لتشييد هذه المباني الضخمة الصامدة على هذه الأرض منذ ما يقارب ثلاثة آلاف عام. وربما لا يضاهي أي مكان مدينة «سيكري» في عظمتها وجلالها، ورغم أنها قد تتضاءل أمام «تاج محل»، فإنها تعد - طبقاً لكثير من المدارس الفكرية - أفضل نموذج لعمارة المغول.
* ميلاد المدينة المثيرة للاهتمام
تذكر كتب التاريخ أنه تم إنشاء المدينة عام 1568 في أغرا. كان الإمبراطور «أكبر»، ثالث أباطرة المغول، رجلاً قلقاً؛ حيث لم يتمكن أي من الذكور الذين أنجبهم من البقاء على قيد الحياة، وكان يرغب بشدة في وريث. بناء على نصيحة مساعديه المخلصين، قرر طلب بركات سالم تشيشتي، وهو شيخ مسلم مبجل كان يعيش في قرية سيكري التي تقع على بعد 40 كلم من أغرا. تنبأ سالم بأن الإمبراطور «أكبر» سوف ينجب 3 ذكور. وعاد «أكبر» إلى أغرا وهو سعيد ومطمئن، وبعد الزيارة بفترة قصيرة جاءه نبأ حمل إحدى زوجاته.
لذا شيد الإمبراطور منزلاً فخماً لملكته الحامل بالقرب من محل إقامة الشيخ في سيكري. وبعد ذلك ببضعة أشهر، وتحديداً في عام 1569، أنجبت له زوجته ابناً (وريثاً). وتعبيراً عن امتنانه، أطلق الملك على ابنه الأول، الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور جهانكير، اسم «سالم» تيمناً بالرجل الصوفي المسلم، ونقل عاصمة دولته إلى قرية سيكري تكريماً لمحل إقامة ذلك الرجل الروحاني. وقد أنشا مدينة «فتح بور سيكري»، بعيداً عن ازدحام أغرا التي كانت تتجلى فيها سلطته الإمبراطورية، واهتماماته الفنية.
المثير للاهتمام هو أن الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي، وصديقته كارلا بروني قد زارا الضريح نفسه عام 2010 أثناء زيارتهما إلى الهند، ودعيا أن يرزقا بطفل، وفي العام التالي رزقا بطفلة بالفعل.
بحسب المؤرخين المعاصرين، كان الإمبراطور «أكبر» يشرف بشكل شخصي على بناء القصور، والقاعات، والمسجد الكبير، والحمامات، والسرادقات، والحدائق، وإسطبلات الحيوانات، وغيرها من المباني التي تليق بعاصمة ملكية. مع ذلك، لم تدم المدينة، التي تعبر عن امتنان الإمبراطور، طويلا بصفتها عاصمة، حيث تم هجرها في عام 1600 تقريباً، وذلك بسبب ندرة موارد المياه التي أدت إلى صعوبة إقامة الناس بها، بحسب بعض المصادر، وبسبب اضطرار نقل «أكبر» لعاصمته لأسباب سياسية، بحسب بعض المصادر الأخرى.
وبعد أن بات المكان مهجوراً، أصبح قطعة حجرية صامدة تتألق على خلفية من الظلال المتباينة من الدرجات بين اللونين الزهري والأحمر مع مرور ساعات اليوم، وتلاشي الضوء في النهاية. وتخلق القصور المشيدة من الحجر الرملي الأحمر جوا من الألق مع تحول الشمس إلى اللون البرتقالي للعنبر عند الغروب.
ويرى المؤرخون المعاصرون أن فترة حكم المغول من العاصمة «فتح بور سيكري» من أهم فترات الحكم في تاريخ الهند، حيث يقال إنه «قد تم إجراء كثير من الإصلاحات الإدارية، والمالية، والعسكرية المهمة خلال حقبة حكم المغول أثناء تلك الفترة. وظهرت سياسة العائدات على الأراضي الشهيرة التي اتبعها (أكبر)، وتم صكّ العملة المغولية، والتنظيم العسكري، وإدارة الأقاليم، خلال فترة حكم المغول من العاصمة (فتح بور سيكري)».
كتب رالف فيتش، الرحّالة الإنجليزي الذي زار المدينة في عام 1585 تقريباً: «مدينتا أغرا و(فتح بور) من المدن العظيمة، حيث لا تقل أي منهما عن لندن عظمة، كما لا تقل عنهما ازدحاماً».
* أماكن عجيبة
عند الدخول عبر بوابة «بولاند داروازا»، وهي البوابة الأكثر ارتفاعاً في شبه القارة الهندية؛ بل ربما تكون الأكثر ارتفاعاً في العالم، حيث يبلغ ارتفاعها 176 قدما من الأرض، و134 قدما من أعلى درجة من السلم، على المرء صعود 42 درجة للوصول إلى مدخل الأثر. مع ذلك، لا يعد الارتفاع جوهر الأمر، بل ما يرمز له هذا الارتفاع الذي يحمل رسالة مفادها: «ادخل إذا واتتك الجرأة مدينة المعجزات والألغاز، مدينة الروعة والأمل». وهناك نقشان على المدخل المقوس؛ أحدهما: «قال ابن مريم: العالم جسر اعبره لكن لا تشيد فوقه منازل. من يرجو ساعة قد يرجو الدهر. ليس العالم سوى ساعة، اقضها في الدعاء والصلاة، فسوى ذلك غيب». مع ذلك، أكبر وأضخم مبنى شيده «أكبر» في مدينة فتح آباد هو المسجد الجامع، الذي يعد واحدا من أكبر المساجد في العالم. وقد تم بناء المسجد في عام 1571، ويعرف أيضاً باسم «مسجد الجمعة»، و«مسجد درجة»، ويعد المبنى الأكثر قداسة، ويقع عند أعلى نقطة في مدينة «فتح بور سيكري». ويقع ضريح سالم تشيشتي داخل باحة المسجد الجامع. ولا يقل داخل المسجد روعة؛ بلوحاته الجدارية، واللوحات الجصية (الفريسكو)، والأعمال الرخامية، والبلاطات المصقولة على الجدران.
تم تشييد كل المباني في المجمع الملكي أو الإمبراطوري من الحجر الرملي الأحمر الموجود في تلك المنطقة. ولكل مبنى خواص أو زخارف تميزه عن الآخر.
كانت الباحة الأولى في المجمع هي الديوان العام، أو المكان المخصص للعامة حيث يقيم الإمبراطور الاحتفالات الكبرى التي يشارك فيها العامة، وحيث يمكن للرجل العادي تقديم مشكلاته والتماساته إلى الملك. على يمين الحمام المؤدي إلى الديوان العام توجد حلقة كبيرة من الحجر ملتصقة بالأرض؛ وهناك اعتقاد بأن في ذلك المكان كان يتم دهس المجرمين المدانين بالأفيال على مرأى من الإمبراطور وحاشيته.
أما الديوان الخاص (أو قاعة الخاصة) فكان مزيناً ذات يوم بالجواهر. وكان في الجزء الأوسط منه عرش دائري للإمبراطور «أكبر»، به ممرات تتجه للخارج في الاتجاهات الأربعة. وتم تصميم نظام الصوت في هذا المكان بحيث لا يستطيع من في الخارج سماع ما يقال في الداخل.
ويعد «بانش محل» من المباني المذهلة أيضاً، وهو مبنى مشيد من 5 طوابق. يتساوى الطابقان الأولان حجماً، أما الطوابق الأخرى فمتباينة. الطابق العلوي سرادق مفتوح يمكن للمرء منه مشاهدة المدينة بشكل شامل. ويدعم كل طابق عمود. وقد حلمت برؤية «بانش محل» منذ أن شاهدت صوره الرائعة في الكتب أثناء أيام دراستي. وتعد حجرة الأحلام (خوابجه) من المباني المذهلة الأخرى، وكانت مخصصة لزوجات وحريم «أكبر». توجد في الطابق الأول غرفة «أكبر» الخاصة التي يمكن لحريمه زيارته فيها بسهولة. وكانت هناك غرفة منفصلة للإمبراطور حيث كان ينام في وقت الظهيرة، ويستريح ليلا.
حين تقدمت في المسير وجدت 3 شقق كبيرة مبنية لكل زوجة من زوجات الإمبراطور «أكبر» الثلاث، التي كانت إحداهن مسلمة، والأخرى مسيحية، والثالثة هندوسية. ويقال إن حجم الشقق كان متبايناً ومختلفاً بقدر حبه للزوجة. وكان المكان المخصص للزوجة الهندوسية هو الأكبر، فقد كانت هي الزوجة التي أنجبت له أبناء.
تتضح آراء الإمبراطور «أكبر» الدينية المتسامحة في تصميم المدينة الذي يمزج بين السمات الإسلامية والهندوسية. وقد تعجبنا كيف يمكن أن تظل كل تفاصيل مباني المدينة واضحة بهذا الشكل حتى يومنا هذا. لذا في الوقت الذي توجد فيه نقوش لعناقيد عنب ورمان على أحد المباني في استعارة تعبر عن الجنة طبقاً للمنظور الإسلامي، توجد ألواح من المزهريات الصغيرة (رمز هندوسي) المنقوشة على مبنى آخر. وتوجد على مبنى الخزانة نقوش لثعابين البحر (تمثل حراس الثروة بحسب الفلكلور الصيني) تخرج من فم أفيال (رمز القوة بحسب الديانة الهندوسية). لا تزال تلك النقوش ظاهرة بوضوح بشكل مذهل. يتمثل الجزء الرائع في جدار كبير، حيث يمكنك ربط خيط 3 مرات، مع تمني 3 أمنيات، حيث يقال إن أمنيات أكثر الناس قد تحققت بتلك الطريقة، وقد عادوا بعد تحقق أمانيهم حتى يعقدوا الخيط. وقد كنت متشككة، لكن لم يكن لدي ما أخسره، لذا تمنيت بعض الأمنيات؛ ولم يمر سوى شهر على هذا الأمر، وما زلت في الانتظار.
ما من شك أن هذا المكان سحري؛ فإلى جانب الأمنيات، يعد ذلك المكان عملاً سحرياً من صنيعة عقل ذكي. وأعدكم بأنه جدير بالمال والوقت.