الثقافة على خريطة الترفيه

الاجتهاد المرتجل والنشاط الوقتي لا يصنعان سوى متعة مؤقتة

الموسيقار المجري جيرجيلي بوغاني في حفل نظم أخيراً في الرياض
الموسيقار المجري جيرجيلي بوغاني في حفل نظم أخيراً في الرياض
TT

الثقافة على خريطة الترفيه

الموسيقار المجري جيرجيلي بوغاني في حفل نظم أخيراً في الرياض
الموسيقار المجري جيرجيلي بوغاني في حفل نظم أخيراً في الرياض

أعلن قبل أيام عن مشروع ترفيهي ضخم في مدينة الرياض يضم ألواناً من المناشط ووسائل الترفيه التي طال انتظارها في مدينة ضخمة ظلت، كما هي المملكة بشكل عام ولسنوات طويلة، محدودة في منافذ الترويح عن النفس. يقع المشروع جنوب غربي المدينة في مكان يعرف بـ«القدِّيَّة» وعلى مساحة تبلغ 334 كم2. المشروع ضخم ولا يتوقع انتهاؤه قبل خمسة أعوام. وكان مما استرعى الانتباه، انتباهي على الأقل كمراقب للمشهد، بل وأبهجني بشكل خاص في هذا المشروع العملاق، أنه تضمن كلمة «ثقافة» ضمن عناصره، فقد ذكر أنه سيكون «أكبر مدينة ثقافية وترفيهية ورياضية في المملكة». الثقافة أتت بارزةً، ما يوحي بأن لها أهمية خاصة. غير أن الباحث في تفاصيل المشروع سيحتار في إدراك المقصود بالثقافة: أين موقعها على تلك المساحة الضخمة من النشاط الترفيهي؟
الثقافة مفهوم فضفاض، كما نعلم جميعاً، فأشياء كثيرة يمكن أن تنضوي تحت عباءتها الضخمة. المناشط الاجتماعية والرياضية والترفيهية تعد جميعاً من ألوان الثقافة، مثلما أن الأغاني والأهازيج والشعر الشعبي والرقص ألوان أخرى من الثقافة أيضاً. فإن كان هذا هو الجانب المقصود من الثقافة فلا شك أنه مطلوب فمساحات النقص من الكثرة بحيث يمكن لأي شيء أن يملأ فراغاً ما. والثقافة بمفهومها هذا مطلوبة دائماً لأنها أقرب إلى الناس وأسهل متناولا لعامتهم، مثلما أنها هي الألصق بمفهوم الترفيه الفضفاض أيضاً.
لكن الثقافة بمفهوم آخر، بالمفهوم الذي يتصدر اسم وزارة كوزارة الثقافة والإعلام، يختلف نوعاً ومستوى عما أشرت إليه. هنا نتحدث عما يعرف بالثقافة العالِمة، أو الثقافة الجادة، ثقافة الفكر والأدب والفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى، الثقافة التي تقوم عليها مؤسسات مثل الأندية الأدبية وجمعية الثقافة والفنون. هذه الثقافة هل لها مكان في المنشأة الترفيهية الضخمة، بل حتى في رؤية 2030 التي تسفر عن نفسها بين الحين والآخر في مشاريع مثل مشروع الرياض المشار إليه؟
النشاط الذي شهدته بعض مدن المملكة مؤخراً من حفلات غنائية وموسيقية رفيعة وتناولته في مقالة سابقة يقترب في بعض ألوانه من مفهوم الثقافة الجادة، الثقافة التي ننتظر أن تكون جزءاً من منظومة المناشط الترفيهية. غير أن المشكلة في الثقافة الجادة أنها ليست ترفيهاً كلها، بل إن بعضها يستدعي ألواناً من التفاعل ومستويات من الاستعداد قد لا تتوفر لدى البعض بل لدى الكثيرين. تلك الثقافة لكي تزدهر لا تحتاج إلى سفاري أو ملاهٍ أو مساحات ضخمة للألعاب والتسلية. تحتاج إلى مؤسسات وأكاديميات وتخطيط وأفراد مؤهلين ومؤمنين بأهميتها وقيمها. تحتاج إلى مؤسسات للإنتاج السينمائي والمسرحي ومعاهد للموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية وغير ذلك من وجوه الثقافة كما هي في بلاد العالم المتحضر، بل في البلاد الأقرب والنامية مثلنا. أما الاجتهاد المرتجل والنشاط الوقتي الترفيهي فسيصنع متعة مؤقتة لكنه لن يخلق ثقافة حقيقية مهما بلغ حجم الاختراق الذي يحققه.
أجزم أن من يخطط لوضع الثقافة على خريطة التطور في المملكة باتجاه 2030 لا ينظر إلى الثقافة على أنها مجرد ترفيه. ذلك ما تشير إليه ألوان الثقافة التي أتيحت للسعوديين والمقيمين مؤخراً من خلال مناشط أقيمت في مراكز ثقافية وأماكن أخرى في المملكة. لكن غياب الإعلان عن الجوانب الأخرى من العمل الثقافي هو ما يستدعي القلق من أن مثل تلك الجوانب لا ينظر إليها واضع الخطط بوصفها ملحة أو أنه يرى العوائق أمامه فيستسلم بسهولة.
بعض النشاط الثقافي الترفيهي الذي أقيم مؤخراً رعته الدولة وبعضه رعاه القطاع الخاص. ودور القطاع الخاص مهم هنا لأنه يؤكد أن الوضع الاقتصادي المنشود في مستقبل البلاد لا يمكن أن يقوم على أكتاف حكومية فقط، وأن المؤسسات والشركات الضخمة بأرباحها الهائلة مطالبة هي الأخرى أن تسهم في إثراء الحياة الثقافية بدلا من تخصيصها لجيوب مساهميها. غير أن المشكلة غالباً هي أن تلك المؤسسات والشركات، أو ما يعرف بالقطاع الخاص، إذا عنيت بالثقافة فستعنى بها من جانبها الترفيهي الخفيف فقط، الجانب المدر للأرباح، وهو أمر طبيعي لأن من غير المنطق مطالبة رجل أو سيدة الأعمال بأن يطورا البلد بثروتهما الخاصة حباً في التطوير ليس إلا. حب التطوير من أجل التطوير هو ما ينتظر من الدولة بوصفها راعية ومشرفة، ومشكلة الثقافة الجادة هي أنها ليست دائماً مدرة للربح، لذا تكون غالباً في صف الخاسرين حين تحسب المداخيل ويأتي التفكير بالأسعار والجدوى الاقتصادية. جدوى الثقافة هي الثقافة، هي تنمية الإنسان وتطوير وعيه وإمكانياته الفكرية والتذوقية من خلال الآداب والفنون والمعارف المختلفة.
إن التخطيط الثقافي ما يزال هو الحلقة الأضعف في المسيرة التنموية ليس للسعودية فحسب وإنما لبلاد كثيرة، فالثقافة الجادة تظل واقفة كاليتيم في العيد تنتظر دورها وما يمد لها من أيدي التكرم والعطاء الذي يذهب أولا إلى مجالات أخرى تحتل دائماً المركز الأول حين تخطر التنمية في البال. صحيح أنها تُذكر بين مجالات أخرى، بل وتعطى الأولوية في الإعلان، لكن حين تُمحّص الأمور يتضح أنها وضعت لكي تضفي على الأجواء مسحة العمق والجدية في حين أنها تخرج من المولد بلا حمص كما يقال. وليس أدل على ذلك من ضعف الإنفاق على مؤسسات ثقافية أساسية في المملكة مثل الأندية الأدبية وجمعية الثقافة والفنون. يكفيك أن تزور مبنى النادي الأدبي بالرياض أو مقر جمعية الثقافة والفنون لتدرك أي كفاف تقتاته الثقافة الجادة، أي إهمال تتعرض له وأي ازورار تجده من المسؤولين عنها.
فهل آن لنا أن نتفاءل على الرغم من كل تلك الكآبة والإعلانات تترى عن قيام «هيئة للثقافة» أو «مجمع ملكي للفنون»؟ كنت وما زلت من أهل التفاؤل لكني أكاد الآن أقبض على تفاؤلي كما يقبض المرء على حفنة رمل تتفلت ذراتها من بين أصابعه.



نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.