الحوار والعقلانية في مواجهة الإرهاب والتطرف

من الفاتيكان إلى الأزهر

شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب يرحب ببابا الفاتيكا بمقر مشيخة الأزهر بالدراسة (أ.ف.ب)
شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب يرحب ببابا الفاتيكا بمقر مشيخة الأزهر بالدراسة (أ.ف.ب)
TT

الحوار والعقلانية في مواجهة الإرهاب والتطرف

شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب يرحب ببابا الفاتيكا بمقر مشيخة الأزهر بالدراسة (أ.ف.ب)
شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب يرحب ببابا الفاتيكا بمقر مشيخة الأزهر بالدراسة (أ.ف.ب)

تأتي زيارة بابا روما فرنسيس الأول إلى الأزهر الشريف ضمن زيارته لمصر أمس في وقت ملتهب ومشتعل بالأصوليات المتصاعدة والشعبويات والقوميات المتزايدة، ويكاد المشهد ينحو جهة المواجهات الإنسانية ذات الطابع الديني، الأمر الذي يذكر القراء والباحثين بزمن الحروب التي كان منطلقها الصراع العقائدي في القرون الوسطى بين الشرق والغرب، وبين المسيحية والإسلام في الوقت نفسه. هذه الزيارة تذكرنا برحلة قام بها في 24 يونيو (حزيران) من عام 1219 شاب إيطالي (فرنسيس الأسيزي) فقير رغم ثراء والديه، والذي كان النواة الأولى لجماعة «الإخوة الأصاغر»، تلك الجماعة التي اهتمت منذ وقت مبكر بالعلاقة بين أوروبا والعرب، والسعي وراء السلام، ولهذا رفض الحروب الصليبية، وجاء إلى مصر ليقابل السلطان الكامل الأيوبي الذي أحسن لقاءه وكان التلاقي الأول بين الأديان، قبل نحو 800 عام أداة للسلام والوفاق، فهل تجيء هذه الزيارة بدورها كصدى تاريخي لحدث ما أحوج العالم إليه في حاضرات أيامنا؟
وربما يتحتم علينا أن نذكر الجميع أيضاً بما قاله أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو ذات مرة من ستينات القرن الماضي، متسائلاً: «هل سيضحى القرن الحادي والعشرين قرناً دينياً أم لا؟».
هناك بعض الحقائق التي لا بد من مواجهتها ومجابهتها لنفهم أهمية الدور الكبير الذي يقوم عليه رجال الدين في حاضرات أيامنا.
الشاهد أن هناك مفارقة تاريخية لمسيرة الأديان بين الشرق والغرب، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية على الجانبين، فهناك فيما وراء البحار تمت تنحية الدين إلى الخلفية لعدم الحاجة إليه ظاهرياً نتيجة للتنوير والشروط الحياتية، التي فُرضت بتأثير التكنولوجيا والاقتصاد ورأس المال والعلوم الطبيعية بقوانينها الصارمة.
وفي الشرق لأسباب مختلفة، حدثت ردة فكرية إلى الوراء، عززتها العولمة والخوف من التلاقي مع الآخر، فعادت بعض التيارات المغرقة في الماضي لتتسيد المشهد.
وما بين تطرفين، أقصى اليمين، وأقصى اليسار، بدا كأن الهدف الحقيقي للأديان يضيع وسط الزحام، لتحل محله نظريات الصدام وتعلو رايات الحرب والمواجهات الدموية، على أن الدين في جوهره، وكما يتراءى للجميع في السنوات الأخيرة، يعود للظهور بوصفه بعداً آخر، يتيح للإنسان أن يمنح حياته أصلاً وهدفاً وإطاراً ثابتاً، وشكلاً فاعلاً بين الميلاد والموت.
هل للأديان بمفهومها العميق أن تكون حائط صد في مواجهة الأصوليات الظلامية على أي جانب كانت؟
الشاهد أنه يمكن للدين، كما يشير إلى ذلك المفكر الألماني هاينز يواكيم فيشر، أن يولد قناعة خارج المظاهرات الجدلية، فالقناعات سواءً كانت نظرية أم عملية، يمكن أن تنبع من الداخل الديني للإنسان، وأن تتولد منها قوة للحياة، كان قد صقلها التنوير ونحتتها العلوم تدريجياً خلال قرنين ونصف القرن من الزمان. وعلى هذا، تظهر الأديان من جديد بوصفها قوة وقناعة تنشئ وتوطد الشخصيات السوية بعيداً عن المغالاة والتطرف.
قبل مجيئه إلى القاهرة ببضعة أيام، وجه البابا فرنسيس رسالة إلى «شعب مصر الحبيب»، بحسب النص، أشار فيها إلى عدة أمور هامة للغاية ينبغي لها أن تسود المشهد الإيماني، لا سيما لدى أبناء النبي إبراهيم، إن أردنا خلاصاً حقيقياً للعالم من ظلامية الموت الذي يمر به العالم في الأوقات الأخيرة.
بداية اعتبر أسقف روما أن الزيارة بمثابة رسالة صداقة وتقدير لجميع سكان مصر وللمنطقة، فالمقبل من بعيد وعن حق يدرك أن الصداقة مفتاح للقلوب النظيفة الراغبة في التعايش الواحد، بعيداً عن مفردات العزل والإقصاء، والاستبعاد والتخوين التي تعلي من شأنها الأصوليات المتطرفة، ثم وهذا هو الأهم في الرسالة، أنها طريق للمصالحة بين جميع أبناء إبراهيم، ويخصص البابا في كلمته الهدف...«إنه العالم الإسلامي»... الذي تحتل فيه مصر مكانة رفيعة.
يمكن القطع بأن هناك فارقاً شاسعاً بين رؤية البابا القادم من الفاتيكان إلى الأزهر، ورؤى أسلافه قبل نحو 800 عام، وفي هذا ربما درس وعبرة لنا نحن المسلمين في الشرق، فنقد الذات الذي جرى في الكنيسة الكاثوليكية من قبل قادها إلى رؤى وأطروحات تقدمية يغلب عليها الطابع الإنسانوي الأشمل والأعم.
وهنا بالفعل يقف العالم الإسلامي في الآونة الراهنة بإلحاح بالغ أمام مهمة مشابهة لتلك التي كانت ماثلة أمام أعين المسيحيين منذ عصر التنوير، وقد وجد المجمع الثاني للفاتيكان بخصوصها حلولاً محددة بدقة، وكان ذلك ثمرة للبحث لمدة طويلة خلال انعقاد جلساته بين عامي 1962 و1965.
كان النقد الذاتي الداخلي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية وإعادة تصويب المسار الإنساني، يلقى ولا شك مواجهات من أصوات أصولية في الداخل، غير أن قوى التقدم والاعتدال استطاعت أن تتجاوز المشهد، لتصل إلى المعنى والمبنى الحقيقي للحوار مع النفس ومع الآخر.
يدرك ضيف الأزهر الكبير، الرجل ذو الرداء الأبيض، كما قال في كلمته، أن عالمنا ممزق من العنف الأعمى... هل أرادت تلك الجماعات المغرقة في الموت قطع الطريق على البابا ومنعه من الوصول إلى الأزهر؟
حكماً هذا ما جرت به بالفعل المقادير، فالذين ذهبوا في طريق تفجير كنائس الأقباط يوم أحد السعف، كان من بين أهدافهم أن يبادر الفاتيكان إلى إلغاء هذه الزيارة التاريخية، غير أن البابا رفض القبول أو التسليم بما تريده قوى الكراهية، فالجميع يعيش في عالم تشكل فيه الاعتداءات جزءاً من الحياة، وإلغاء الزيارة يعني الخضوع لإرادة الشر، وهزيمة معسكر الخير.
والثابت أن أسقف روما الماضي قدماً إلى الأزهر الشريف بما له من أهمية وقوة إقناع أدبي ومعنوي حول العالم، إنما يدرك أن هذا تجمع تاريخي للذين يؤمنون بالله وكتبه وملائكته ورسله، وأن رسالة السلام التي ستوجه من قبل تلك المؤسسة العريقة ستزخم العالم بصناع سلام، وبأشخاص أحرار محررين، وصفهم بأنهم أشخاص شجعان يعرفون كيف يتعلمون من الماضي ليبنوا المستقبل، دون أن ينغلقوا في الأحكام المسبقة.
تتيح لنا الرحلة من قلب التاريخ النابض «الفاتيكان» إلى مصر «أم الدنيا» كما أشار في خطابه فرصة ذهبية لمسح الغبار الذي علق بالتاريخ المعاصر بين الشرق والغرب، ولا سيما بين الإسلام والمسيحية، بسبب العداوات الأصولية التي ظهرت على السطح في العقدين الماضيين، وها هي تنمو بقوة وشراسة لتهدد أي مستقبل لأبناء الأديان الإبراهيمية، سواء حدثت العمليات الإرهابية في الغرب أو الشرق.
إن زيارة البابا فرنسيس ليست اللقاء الأول في العقود الأخيرة بين الكنيسة والمسجد، ففي عام 1947، وتحديداً في شهر أكتوبر (تشرين الأول) أقام البابا بيوس الثاني عشر بابا روما في ذلك الوقت كأول شخصية قانونية دولية معترف بها عالمياً، علاقات دبلوماسية دائمة مع أول دولة إسلامية وهي مصر، وقبل ذلك بقرن من الزمن أي في عام 1839، كان والي مصر وباعث نهضتها الحديثة، محمد علي، قد أرسل وفداً إلى روما، لأنه كان يعي الوزن الدولي للبابوية.
وفي عام 1951 أجرى البابا بيوس الثاني عشر لقاء مع الأمين العام لجامعة الدول العربية وقتها عبد الرحمن عزام، باشا، الذي لخص المشهد في العلاقة بين العالم العربي والفاتيكان بقوله: «إن العرب يرون أن رئيس الكنيسة الكاثوليكية، وانطلاقاً من رسالته العالمية، يعد من أبرز المدافعين عن ذلك التراث الروحي الأعلى والأثمن، الذي تتأسس عليه عقيدة الإسلام وعقيدة المسيحية على حد سواء، فالتشارك الروحي بين المسيحية والإسلام سيقود إلى إقامة جبهة مشتركة تشتمل على أكثر من نصف البشرية».
ولعل سائل يتساءل: «إذا كانت العقود الماضية لا سيما في زمن المد الشيوعي قد شهدت تقارباً واضحاً بين العالمين الإسلامي والمسيحي للوقوف في وجه الإلحاد وامتهان كرامة الأديان، فهل نحن نعيش فترة جديدة من التعاون الإسلامي المسيحي الإسلامي الغرض منها صد هجمات الأصوليين ومجابهة إرجافات المرجفين، الذين يتطلعون لأن تضحى الكرة الأرضية جحيماً مقيماً؟».
يبدو أن الجواب قائم في عمق المفهوم الثقافي للأديان، بمعنى أنه ليس المطلوب من رجالات الدين من الأزهر أو الفاتيكان العمل على بلورة توافقيات فقهية أو لاهوتية، ولكن المطلوب العمل على الوصول لقناعة بأن مستقبل العالم يتوقف على الثقافات المختلفة، وعلى الحوار الديني بينها، فالأمر هو كما عبر عنه العلامة اللاهوتي الكبير توما الأكويني، حينما قال: «إن حياة الجنس البشري تتكون في الثقافة، وإن مستقبلها كامن في الثقافة أيضاً».
تسعى الأصوليات عبر أذرعها الإرهابية حتماً إلى تفريق الجميع؛ مؤمنين وغير مؤمنين، فيما يمضي الحوار والجوار في إطار التجميع لا التفريق، وكل مربع يخلفه أبناء إبراهيم من ورائهم تملأه «الفئة الباغية»، ولا شك في ذلك، وعليه؛ فإن فرنسيس الأول في زيارته لمصر والأزهر، كان يستذكر ما قاله سلفه البابا يوحنا بولس الثاني في أثناء لقائه بالمدينة المقدسة «القدس» في الثالث والعشرين من مارس (آذار) من عام 2000، في تجمع للطوائف اليهودية والمسيحية والإسلامية، متأثراً إلى درجة دفعت به إلى التأكيد الملح على بدء عهد زمني جديد للحوار الديني، وعبر عن استنتاجاته في هذا السياق قائلاً: «يجب على كل منا أن يستمد التعاليم من تقاليد دينه، بحيث نلتزم جميعاً بنشر الوعي حول عدم القدرة على حل مشكلات الزمن الراهن، إذا ما بقينا منفصلين دون أن يعرف بعضنا بعضاً».
والشاهد أن الجميع يعلم ما حدث سابقاً من حالات سوء التفاهم والأزمات، التي تشكل عبئاً حتى الآن على العلاقات بين الموحدين من أتباع إبراهيم عليه السلام، ولهذا فإنه لكي تكتب للأصوليات المرة نهاية مبكرة، يصبح على رجال الدين مسؤولية كبرى، مفادها تسخير كل قواهم في العمل على معالجة الوعي بإهانات وخطايا الماضي، ومن أجل اتخاذ قرار راسخ لبناء مستقبل جديد، لا يسود فيه سوى تعاون مثمر ومتسم بالاحترام المتبادل.
والمقطوع به أن الأزهر الشريف بدوره، قد شهد في الآونة الأخيرة ثورة فكرية مباركة لتحريك المياه الراكدة، عبر سلسلة من الوثائق والمؤتمرات التي تدفع في طريق المواطنة والتعددية، مما يقلص ويحجم من المساحة التي تشغلها الأصوليات العدائية في العقول والقلوب.
لقد طرح الأزهر الشريف على بساط البحث الديني والفكري إشكالية الأصوليات الدينية والتطرف باسم الدين ذاك الذي يلغي المواطنة، ويفتح مسارب للإرهاب المؤلم والأسود، فبدءاً من عام 2014، أي مع ظهور «داعش» بنوع خاص، والأزهر الشريف يرفض هؤلاء الذين يدعون الإسلام ويسيرون خارج الفكرة الإسلامية تماماً، ومؤكداً أن «المسيحيين» والمسلمين في الشرق الأوسط هم إخوة، وكان البيان الختامي للمؤتمر الذي عقد في ذلك الوقت يقول: «إنه إذا رفضنا أسس الأخوة هذه، رفضنا الأديان في تعدديتها وبهذا تتفكك مجتمعاتنا، وهذا أمر نحن بغنى عنه، لا سيما أن الحال يغني عن السؤال كما في سوريا والعراق».
ولعل الجميع يتذكر أن الأزهر الشريف وفي وثيقة الحريات التي أصدرها قبل بضعة أعوام، ناشد المسيحيين التجذر في أوطانهم وعدم الهجرة منها، فهم ملح هذه الأرض العربية، أما الأصوليات القاتلة والفرق والجماعات المسلحة التي استخدمت العنف ضد الحرية الدينية فهي جماعات آثمة فكراً وعاصية سلوكاً، وليست من الإسلام الصحيح في شيء.
لقاء البابا والشيخ في الأزهر الشريف صرخة مدوية ضد التعصب والتحزب، فاللقاء يطرد خارجاً كل أشكال الانعزالية، فجميع الشعوب تشكل أصلاً جماعة واحدة، إذ إن لها أصلاً مشتركاً، لأن الله جعل الجنس البشري بكامله يعمر الأرض، والبشر جميعهم أيضاً لهم هدف أخير واحد، وهو الله، فعنايته والشهادة على لطفه ومشيئته بالخلاص تشمل كل البشر... هل لهذا كان البابا فرنسيس يختتم رسالته قبل زيارته التاريخية للأزهر الشريف بقوله: «العالم يحتاج إلى بناة جسور للسلام والحوار والأخوة والعدل والإنسانية؟ الجسور أفضل طريق لمحاربة أصوليات الجدران».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.