الكرملين يفكر بتغييرات جذرية في «ماكينة البروباغندا» المتلفزة

شعر بخطورة الهوة التي تفصل بين الإعلام وهواجس المواطنين

«المساء مع فلاديمير سولوفيوف» من أشهر برامج شبكة قنوات «روسيا» ويصنفها كثيرون بأنها عماد بروباغندا الكرملين  -  برنامج «أخبار الأحد» يقدمه الإعلامي المقرب من الكرملين ديميتري كيسليوف
«المساء مع فلاديمير سولوفيوف» من أشهر برامج شبكة قنوات «روسيا» ويصنفها كثيرون بأنها عماد بروباغندا الكرملين - برنامج «أخبار الأحد» يقدمه الإعلامي المقرب من الكرملين ديميتري كيسليوف
TT

الكرملين يفكر بتغييرات جذرية في «ماكينة البروباغندا» المتلفزة

«المساء مع فلاديمير سولوفيوف» من أشهر برامج شبكة قنوات «روسيا» ويصنفها كثيرون بأنها عماد بروباغندا الكرملين  -  برنامج «أخبار الأحد» يقدمه الإعلامي المقرب من الكرملين ديميتري كيسليوف
«المساء مع فلاديمير سولوفيوف» من أشهر برامج شبكة قنوات «روسيا» ويصنفها كثيرون بأنها عماد بروباغندا الكرملين - برنامج «أخبار الأحد» يقدمه الإعلامي المقرب من الكرملين ديميتري كيسليوف

يجري حوار في الكرملين حول إمكانية تعديل سياسة وآليات عمل قنوات التلفزة الرسمية الرئيسية، بعد أن نشأت هوة واسعة بين ما تبثه تلك القنوات وما تروج له من جانب، وهموم المواطنين وهواجسهم التي يبحثونها عبر مواقع التواصل الاجتماعي من جانب آخر.
وقالت صحيفة «آر بي كا» نقلاً عن مصادر مقربة من الكرملين إن الإدارة الرئاسية تناقش هذه المسألة، موضحة أن الحديث يدور حول إدخال تعديلات كي تولي القنوات الفيدرالية اهتماما أكبر بالقضايا الداخلية. ويقول مصدر مقرب من الكرملين إن «قنوات التلفزة يجب أن تتناول بصورة أوسع آفاق حياة الناس، وحالة الاقتصاد، والوضع في البلاد، كي لا تكون هناك هوة بين جدول أعمال قنوات التلفزة وما تركز عليه في برامجها، وما يقلق الناس في واقع الأمر».
ويقول مسؤول فيدرالي روسي إن «قنوات التلفزة الروسية تشكل مصدر معلومات، لكنها لا تستطيع تناول القضايا الداخلية بأسلوب مشوق ومثير، ولذلك يدور النقاش حول الكثير من القضايا التي تؤرق المواطنين في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وليس عبر شاشات التلفزة»، موضحاً أنه نادراً ما يكون هناك جوانب مشتركة بين ما يتحدثون عنه عبر قنوات التلفزيون، والقضايا التي يناقشها المواطنون عبر الإنترنت. لذلك يبحث الكرملين إمكانية التقريب بين هذين العالمين، التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، لجهة القضايا التي يطرحها كلاهما وأهميتها وأولويتها بالنسبة للمواطنين. وفي وصفه لطبيعة البرامج على القنوات الرئيسية، والقضايا التي تركز عليها تلك القنوات، يقول مصدر مقرب من الكرملين إن الناس متعبون من البقاء على «جبهة حرب إعلامية»، مؤكداً أن السلطات تدرك هذا الأمر.
وكان الكرملين قد أنشأ شبكة بروباغندا عملاقة، معتمداً بصورة رئيسية على وكالات الأنباء الرسمية الممولة حكومياً، وكذلك على قنوات التلفزة الفيدرالية. وبالنظر إلى عمل تلك القنوات خلال المرحلة منذ بداية الأزمة السورية، لا سيما التدخل العسكري الروسي في سوريا خريف عام 2015، وهي المرحلة التي كانت الأزمة تتفاقم خلالها في أوكرانيا، فإن أي متابع للبرامج على الشاشات يشعر وكأن شيئاً لا يجري في العالم سوى النزاعات المسلحة التي يحمل الإعلام الروسي الغرب المسؤلية عن تفجرها، وهذا مقابل نقص شديد في التقارير الإخبارية عن الوضع داخل البلاد.
وتحتل قنوات «روسيا - 24» و«روسيا - 1» مكانة مميزة بين قنوات التلفزة المنخرطة في البروباغندا الموجهة للرأي العام الروسي، إذ تحرص هذه القنوات على تقديم آخر الأخبار عن التطورات الميدانية في النزاعات التي تشارك فيها روسيا، مثل أوكرانيا وسوريا، ضمن قالب يتناسب مع رؤية ومواقف الكرملين، وتخصص مساحات كبيرها من بثها المباشر لعرض برامج حوارية لا تخرج عن السياسة ذاتها التي يتم صياغة الأخبار وفقها.
ومن أشهر البرامج التي تبثها شبكة قنوات «روسيا» ويصنفها كثيرون بأنها عماد بروباغندا الكرملين، برنامج «المساء مع فلاديمير سولوفيوف»، وبرنامج «أخبار الأحد» ويقدمه الإعلامي المقرب من الكرملين ديميتري كيسليوف، مدير عام وكالة أنباء حديثة العهد أسسها بوتين بعد أن قرر حل وكالة «ريا نوفوستي» وضمها إلى شبكة قنوات «آر تي» وشكل منها مؤسسة إعلامية أطلق عليها «روسيا سيغودنيا». وتركز هذه البرامج وغيرها على التصدي لأي تشكيك بالمواقف الرسمية حيال الوضع في هذه المنطقة أو تلك من العالم، وتعمل على إظهار الإعلام «الآخر» بأنه معادٍ ويبث أفكاراً خطيرة تستهدف روسيا، وما إلى ذلك. ويصبح تأثير تلك القنوات أكبر ويشمل الرأي العام الخارجي في دول عدة، بعد أن باشرت شبكة قنوات «آر تي» البث في عدد من دول أوروبا، والولايات المتحدة والعالم العربي.
وهناك أيضاً القناة الروسية الأولى، التي تلعب دورها في التأثير على الرأي العام، مستفيدة من تربعها في صدارة قنوات التلفزة الروسية بعدد المشاهدين، وهي ليست قناة سياسية - إخبارية، بل عامة متنوعة، لكنها القناة التي تبث نشرة الأخبار الرسمية الرئيسية في البلاد، ومن أصل أكثر من 40 برنامجاً ترفيهياً منوعاً، تبث القناة برنامجين أو ثلاثة يمكن تصنيفها ضمن برامج البروباغندا، مثل برنامج «الوقت سيكشف» وبرنامج «استوديو الأولى». وعلى سبيل المثال وجد القائمون على برنامج «الوقت سيكشف» في وفاة الشاعر الروسي الكبير يفغيني يفتوشينكو ظرفاً مناسباً لبث حلقة من البرنامج تبحث «هل تريد روسيا الحرب»، وهي جملة مأخوذة من قصيدة للشاعر. ويقول مراقبون إن مسألة العلاقات الأميركية - الروسية وما آلت إليه بعد الحرب الباردة، وتصاعد حدة التوتر بين البلدين على خلفية التوتر في أوكرانيا وفي سوريا، وتوسع الـ«ناتو» شرقاً، وغيره، كلها قضايا جديرة بنقاشها عبر برامج حوارية، إلا أن هذا الأمر يصبح «متعباً» عندما تكون هذه المسائل حاضرة بكثافة عالية جداً في وسائل الإعلام، مقابل غياب الكثير من المسائل التي تهم المواطنين.
وفي الحديث عن التغيرات المحتملة على آليات عمل وسياسة قنوات التلفزة الروسية، يقول مصدر مطلع لواحدة من الصحف الروسية، إن التلفزيون يجب أن يكون وسيلة فعالة للتواصل خلال نقاش القضايا الداخلية، ويشير إلى أن «هذا الأمر يصبح أكثر حيوية على أبواب الانتخابات الرئاسية الروسية، إذ لا بد من أن يناقش المواطنون خلال الحملات الانتخابية مستقبل روسيا، غير أن الإعلام غير مهيأ لمثل هذا العمل». مصدر آخر مقرب من الكرملين يقول لصحيفة «آر بي كا»: «يتم عرض المعلومات عبر الإعلام على النحو التالي: نحن أخيار، وهم هناك (في البلدان الأخرى) أشرار». من جانبه يرى المحلل السياسي الروسي نيكولاي ميرونوف أن «المواطنين يلاحظون عدم تناول الإعلام للمشكلات التي يواجهونها، ولهذا يتولد عندهم شعور بأن الإعلام لا يقول الحقيقة، ولهذا يولي الكرملين اهتمامه بمسألة تغيير طبيعة عمل قنوات التلفزة».



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.