«الفخ الداعشي» لفرنسا

هجوم الشانزليزيه {صوت} للتنظيم ضد التنوير والديمقراطية

مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
TT

«الفخ الداعشي» لفرنسا

مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)

هل باتت فرنسا هدفاً للإرهاب الداعشي؟ الاستفهام يحمل الجواب «نعم، إنها أضحت كذلك بشكل واضح للجميع، ولا سيما في العامين الماضيين»، أما التساؤل فربما يكون هو الحقيق بالبحث عن الأسباب وراءه؛ لخطورة المشهد في الحال وأهواله إن جرت الأمور في تصاعد على صعيد الاستقبال؛ ما يعني إمكانية اتساع رقعة المساحة الجغرافية المعرضة للاعتداءات الإرهابية داخل الأراضي الفرنسية. والشاهد، أنه منذ عام 2015 تعرضت فرنسا إلى ثمانية حوادث إرهابية كبيرة راح ضحيتها نحو 238 شخصاً عدا عن الجرحى الجسديين وآلاف المشوهين نفسياً، وبالطبع هناك ضِعف هذا العدد أو يزيد من العمليات التي تم إحباطها، بعضها أعلن عنه بشكل رسمي، والبعض الآخر لم يعلن عنه حتى لا يسود الذعر في الأوساط الشعبية الفرنسية».
على أن العملية الإرهابية الأخرى أسفل قوس النصر وعلى رأس «جادة الشانزليزيه» تكتسي أهمية ودلالات رمزية ولوجيستية كثيرة، يمكن للمرء قراءتها عبر تحليل صورة الحدث من حيث المكان والزمان والرسالة للفرنسيين وغيرهم من ورائها.
أما المكان، فهو يحمل معاني الانتصار والمجد لفرنسا؛ فقوس النصر الذي عمل «نابليون بونابرت» على بنائه في بداية القرن التاسع عشر، كان الهدف منه تخليد انتصارات الجيوش الإمبراطورية، وتحمل جدرانه الداخلية نحو 660 اسما من أسماء قادته العسكريين، و96 من أسماء انتصاراته.
هنا... هل يحمل الهجوم رسالة مفادها أن الانكسارات من وراء الإرهاب قادمة لفرنسا وللفرنسيين؟
ثم خذ إليك الآلية التي جرى بها الحادث؛ إذ تحمل نسقاً غير تقليدي، يدلل على رغبة مؤكدة في الانتقام، وإقدام قاطع على الجريمة، حتى وإن كلفت صاحبها حياته، وهو ما جرت به المقادير بالفعل، وما يشير بأن فرنسا ربما تكون على بعد خطوات من مواجهة الانتحاريين أصحاب «الأحزمة الناسفة»، أو مستقلي «المركبات المفخخة»، إن وجدوا إليها سبيلاً.
بحسب المتحدث باسم وزارة الداخلية الفرنسية، بيار هنري براندي، فإنه عند التاسعة مساءً، وصلت سيارة قرب حافلة للشرطة وخرج رجل من السيارة وفتح النار على الأرجح من سلاح آلي على حافلة الشرطة ليقتل أحدهم، ثم يحاول الذهاب راكضاً لاستهداف آخرين، وليتمكن تالياً من إصابة اثنين، قبل أن يلقى حتفه... أي تخطيط جنوني تواجهه فرنسا في مثل تلك الحوادث متعمدة إرهابياً وجنائياً؟
ثم يأتي الظرف الزماني؛ فالحادث يقع قبل نحو ثلاثة أيام بالضبط من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي تعلو فيها الأصوات اليمينية الشعبوية، وتتزايد بها التيارات اليمينية، وكذا القومية، وجميعها تحمل معالم وملامح، ومواقف واضحة من الإسلام والمسلمين، ومن المهاجرين واللاجئين، كلها سلبية بشكل سوداوي، وكأن الجاني هنا يدفع الجميع في طريق الصدام، ويقود الناخب الفرنسي إلى أن يختار من بين المرشحين من هو كفيل بإنهاء سيرة الديمقراطية ومسيرتها في الجمهورية الفرنسية الخامسة.
من هنا، يتأكد لنا بعملية حسابية خوارزمية بسيطة غير معقدة أن حادثة الشانزليزيه لن تكون الأخيرة، وعليه يبقى السؤال الجوهري لماذا باتت أرض التنوير هدفاً لسهام «داعش» على هذا النحو الذي نراه؟
بالرجوع إلى الماضي القريب، وتحديداً في 2014، نجد أن الناطق الرسمي باسم «داعش» المدعو «أبو محمد العدناني» كان قد وجّه أتباع التنظيم ومناصريه إلى قتل الغربيين، وأضاف في توجيهه تخصيصا يفيدنا في قراءة المشهد الفرنسي على نحو خاص حين قال «خصوصاً الفرنسيين الحاقدين»... لماذا؟
هناك في واقع الحال جانبان للجواب، الأول يتصل بأحوال المسلمين والمهاجرين، وبالبيئة الاجتماعية والحياتية في الداخل الفرنسي، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، وهناك ما هو خارجي ويزعج «داعش» بنوع خاص من فرنسا، في سوريا والعراق وشمال أفريقيا، عسكرياً وسياسيا، ومالياً، ولتكن الإجابة من الخارج، ثم العودة لاحقاً إلى الداخل الذي يحمل موروثات قديمة، تتجدد جراحاتها عند الأجيال الجديدة.
أدركت فرنسا من خلال حقائق الأرقام أن الدواعش من الفرنسيين، سواء أحفاد الغال الأصليين أو أبناء المهاجرين والمجنسين، قد أضحوا خطراً حقيقياً على الأمن القومي للبلاد؛ فهناك أكثر من ألفي شخص عرفوا طريقهم إلى جماعات الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بالفعل، وهناك نصف هذا العدد تشير التحريات إلى محاولاتهم الالتحاق بـ«داعش» الذي بات صرعة فكرية وعقائدية.
إضافة إلى ما تقدم، فإن أكثر من ثلاثة آلاف عنصر من الفرنسيين المرتبطين بتنظيمات إرهابية واقعين تحت مراقبة أمنية واستخباراتية فرنسية، في حين الكارثة الحقيقية تتمثل في عودة ثلاثمائة فرنسي من ميادين قتال «داعش» إلى الداخل الفرنسي، هؤلاء هم العائدون من أكاديمية تنظيم داعش للقتل والكراهية سفك الدماء، والمستعدون للموت بكل صوره... هل كان لفرنسا أن تستكين في تلك المواجهة الشرسة؟
من الواضح جداً أن الإصرار الداعشي على إحداث أكبر الضرر بفرنسا والفرنسيين، مرده إلى الدور الفاعل والحاسم الذي تلعبه في مواجهة «داعش»، والمتميز عن باقي الأدوار الأوروبية بشكل عام.
بحسب البيانات الرسمية الفرنسية، فإن الفرنسيين يقومون على قيادة عملية شمال العراق في إطار التحالف الدولي منذ أيلول سبتمبر (أيلول) 2014. وفي سوريا منذ 18 سبتمبر 2015، كما أن فرنسا تجري عمليات جوية وتقدم المشورة والتدريب لقوات الأمن العراقية، ولا سيما القوات الكردية، عطفاً على قيام فرنسا أيضاً بدعم المجموعات المعتدلة التي تحارب تنظيم داعش في سوريا.
والثابت أن تنظيم داعش قد تعرض لخسائر جسيمة في الأرواح والمعدات من قبل العمليات الجوية الفرنسية التي جرت فوق الأراضي العراقية والسورية، ولا سيما بعد الهجمات التي ارتكبتها «داعش» في باريس وسان - دوني في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهناك عدد كبير من الطائرات وقطع البحرية الفرنسية التي تذيق تنظيم الدولة هواناً عسكرياً، زاد من الحقد تجاه الأراضي الفرنسية. وعطفاً على ذلك، فإن الفرنسيين تسببوا للدواعش في خسائر مالية غير مسبوقة أيضاً أثرت كثيراً على تماسكهم وقدرتهم على الصمود، وشراء مجاهدين جدد عبر التلويح بذهب المعز بنوع خاص.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الضربات التي شاركت بها فرنسا ضمن قوات التحالف الدولي قد دمرت الكثير من البنى التحتية النفطية الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش، مثل الآبار والمصافي وقوافل شاحنات الوقود وغيرها، مما قلص المداخيل التي يجنيها التنظيم من بيع النفط تقليصاً ملحوظاً، كما أن فرنسا اتخذت في الداخل تدابير صارمة كل الصرامة في طريق تجميد الأصول الإرهابية، للمرتبطين بتلك الحوادث تنفيذاً أو تخطيطاً أو تسهيلاً.
على أن المشهد الخارجي لا يفسر لنا وحده أسباب تنامي الأصوليات وصعود الراديكاليات في الداخل الفرنسي؛ فهناك من الأسباب التاريخية والمعاصرة، ما يجعل معامل تفريخ الأصوليين الفرنسيين نشطة، وزاد القلق الفرنسي نهاراً، وتراكم الأرق ليلاً منذ عام 2014 حينما أشار مقاتل «داعش» الفرنسي «إبراهيم الخياري» في تسجيل له إلى أن... «فرنسا في حالة حرب مع تنظيم داعش»، أما الطامة الكبرى التي روعت الفرنسيين ولا تزال فقد تمثلت في ظهور فرنسي الأصل للمرة الأولى مكشوف الوجه يدعى «مكسيم أوشارد»، وهو يذبح أحد الرهائن، وقد كان المشهد بمثابة رسالة تطلع «داعش» لأن يفهمها الفرنسيون، ومفادها أن الاختراق قد حدث لفرنسا من الداخل، لا من الخارج فقط.
تقتضي اللحظة الراهنة قراءة عميقة للمشهد الداخلي الفرنسي لمعرفة أسباب القصور التي أدت إلى تنامي تلك الحركات في الداخل، وهي ليست قراءة تبريرية بالمرة، فلا أحد يمكنه أن يجيز أو يبرر أو يبارك سفك الدماء، فللدماء حرمتها، وللآمنين حقهم في عدم الترويع.
أحد الذين قرأوا المشهد الفرنسي بعين ثاقبة هو «غونتر ماير» مدير مركز بحوث العالم العربي في جامعة ماينز الألمانية، وعنده أن هناك تراكما للأسباب أدى إلى ما نراه، منها اعتبار الإسلام ديناً غريباً في الأوساط الثقافية الفرنسية؛ الأمر الذي يدفع الشباب المسلم هناك إلى نوع من «الجيتو الفكري»، وإلى التهميش أحياناً، ناهيك عن الانعزالية والإحساس بالاضطهاد أحياناً أخرى.
ثم أن فترة الارتباك الذهني والعقائدي، بل والآيديولوجي التي تعيشها فرنسا في زمن العولمة، أفرزت تيارات يمينية وسياسية، تحمّل المهاجرين واللاجئين من المسلمين أوزار تردي الأوضاع في البلاد على أكثر من صعيد؛ مما يولد حقداً وكراهية مقابلين عند بعض الشباب المسلم الفرنسي، الذي يصل به الكبت إلى الإسقاط المتمثل في الانتماء إلى «داعش»، ولاحقاً توجيه نيران الأسلحة الآلية إلى صدور الفرنسيين.
على أن السؤال الحقيقي بالتوقف أمامه... هل فشلت الدولة الفرنسية في تسهيل عملية اندماج هؤلاء وأولئك ضمن صفوف المواطنة كما كان يتوجب الأمر بالفعل؟
هذا ما يؤكده الكاتب الألماني «شتيفان بوخن»، وعنده أن فرنسا أخفقت في تقديم أدوية ناجعة وعلاجات شافية وافية لكثير من أخطائها، ولا سيما إرثها الاستعماري في شمال أفريقيا ودول المغرب العربي؛ ولهذا تبقى حزازات الصدور كائنة وكامنة، بل قائمة وقادمة، إلى حين تبدو الفرصة مواتية للانتقام للتاريخ، إن جاز التعبير. والمقطوع به، أن الأسباب أوسع من المسطح المتاح للكتابة وتبدو هناك جذور فكرية عقدية من نوعية المطلقات التي لا تقبل فلسفة المواءمة، كما في القضايا السياسية، ومن دون مراجعات جذرية لتلك القضايا سيبقى الخلاف محتدماً والمواجهات قائمة.
ويستلفت النظر في حادثة الشانزليزيه الحديث عن جنسية فاعلة، ففي حين قالت الداخلية الفرنسية إنه «بلجيكي»، أنكرت بلجيكا الأمر، على أنه ليست هذه هي الإشكالية، بل الكارثة وليست الحادثة في أن فرنسا، وعموم أوروبا أمام أجيال جديدة من المتطرفين غير المعروفين، وغير المنتظمين في عقد تراتبي هيراركي؛ إذ يكفي أن تؤمن بفكر الدولة الإسلامية، وأن تجد سلاحاً قريباً منك، لتتمكن من أحداث خسائر هائلة بشرية ومالية، فعلى سبيل المثال يقصد فرنسا نحو خمسين مليون سائح كل صيف، ويعد قوس النصر بالنسبة لهم مقصداً أولياً، والخوف يولد في حركة السياحة تدهوراً واضحاً كما في تجارب دول أخرى.
على أن السؤال الجوهري قبل الانصراف... «هل ستقع فرنسا من جديد في فخ الإرهاب والأصوليات التي تدفعها دفعاً في طريق التنكر لمبادئها الرئيسة من (حرية ومساواة وإخاء)؟».
التجربة قاسية بالفعل، والجمع بين الأمن والحرية معادلة صعبة، ويخشى الجميع لا في فرنسا فحسب، بل في عموم أوروبا من السير في الطريق البرابرة الجدد، كما كان يقول الراحل حديثاً عن عالمنا، الفيلسوف الفرنسي، البلغاري الأصل «تزيفتان تودروف» يجعلنا كالبرابرة أنفسهم، ويحقق الغرض الأصلي الذي يسعون إليه، أي جر العالم إلى دائرة الظلاميات ونهاية عصور التنوير.
وقت ظهور هذه الكلمات للنور سيكون الفرنسيون قد قالوا كلمتهم واختاروا رئيسهم الجديد، فهل تأتي هذه الحادثة الإرهابية الأخيرة لتغير الأوضاع وتعدل الطباع لصالح اليمين القومي المتطرف أم سينتصر الفرنسيون لدولة التنوير؟



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.