«الفخ الداعشي» لفرنسا

هجوم الشانزليزيه {صوت} للتنظيم ضد التنوير والديمقراطية

مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
TT

«الفخ الداعشي» لفرنسا

مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)

هل باتت فرنسا هدفاً للإرهاب الداعشي؟ الاستفهام يحمل الجواب «نعم، إنها أضحت كذلك بشكل واضح للجميع، ولا سيما في العامين الماضيين»، أما التساؤل فربما يكون هو الحقيق بالبحث عن الأسباب وراءه؛ لخطورة المشهد في الحال وأهواله إن جرت الأمور في تصاعد على صعيد الاستقبال؛ ما يعني إمكانية اتساع رقعة المساحة الجغرافية المعرضة للاعتداءات الإرهابية داخل الأراضي الفرنسية. والشاهد، أنه منذ عام 2015 تعرضت فرنسا إلى ثمانية حوادث إرهابية كبيرة راح ضحيتها نحو 238 شخصاً عدا عن الجرحى الجسديين وآلاف المشوهين نفسياً، وبالطبع هناك ضِعف هذا العدد أو يزيد من العمليات التي تم إحباطها، بعضها أعلن عنه بشكل رسمي، والبعض الآخر لم يعلن عنه حتى لا يسود الذعر في الأوساط الشعبية الفرنسية».
على أن العملية الإرهابية الأخرى أسفل قوس النصر وعلى رأس «جادة الشانزليزيه» تكتسي أهمية ودلالات رمزية ولوجيستية كثيرة، يمكن للمرء قراءتها عبر تحليل صورة الحدث من حيث المكان والزمان والرسالة للفرنسيين وغيرهم من ورائها.
أما المكان، فهو يحمل معاني الانتصار والمجد لفرنسا؛ فقوس النصر الذي عمل «نابليون بونابرت» على بنائه في بداية القرن التاسع عشر، كان الهدف منه تخليد انتصارات الجيوش الإمبراطورية، وتحمل جدرانه الداخلية نحو 660 اسما من أسماء قادته العسكريين، و96 من أسماء انتصاراته.
هنا... هل يحمل الهجوم رسالة مفادها أن الانكسارات من وراء الإرهاب قادمة لفرنسا وللفرنسيين؟
ثم خذ إليك الآلية التي جرى بها الحادث؛ إذ تحمل نسقاً غير تقليدي، يدلل على رغبة مؤكدة في الانتقام، وإقدام قاطع على الجريمة، حتى وإن كلفت صاحبها حياته، وهو ما جرت به المقادير بالفعل، وما يشير بأن فرنسا ربما تكون على بعد خطوات من مواجهة الانتحاريين أصحاب «الأحزمة الناسفة»، أو مستقلي «المركبات المفخخة»، إن وجدوا إليها سبيلاً.
بحسب المتحدث باسم وزارة الداخلية الفرنسية، بيار هنري براندي، فإنه عند التاسعة مساءً، وصلت سيارة قرب حافلة للشرطة وخرج رجل من السيارة وفتح النار على الأرجح من سلاح آلي على حافلة الشرطة ليقتل أحدهم، ثم يحاول الذهاب راكضاً لاستهداف آخرين، وليتمكن تالياً من إصابة اثنين، قبل أن يلقى حتفه... أي تخطيط جنوني تواجهه فرنسا في مثل تلك الحوادث متعمدة إرهابياً وجنائياً؟
ثم يأتي الظرف الزماني؛ فالحادث يقع قبل نحو ثلاثة أيام بالضبط من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي تعلو فيها الأصوات اليمينية الشعبوية، وتتزايد بها التيارات اليمينية، وكذا القومية، وجميعها تحمل معالم وملامح، ومواقف واضحة من الإسلام والمسلمين، ومن المهاجرين واللاجئين، كلها سلبية بشكل سوداوي، وكأن الجاني هنا يدفع الجميع في طريق الصدام، ويقود الناخب الفرنسي إلى أن يختار من بين المرشحين من هو كفيل بإنهاء سيرة الديمقراطية ومسيرتها في الجمهورية الفرنسية الخامسة.
من هنا، يتأكد لنا بعملية حسابية خوارزمية بسيطة غير معقدة أن حادثة الشانزليزيه لن تكون الأخيرة، وعليه يبقى السؤال الجوهري لماذا باتت أرض التنوير هدفاً لسهام «داعش» على هذا النحو الذي نراه؟
بالرجوع إلى الماضي القريب، وتحديداً في 2014، نجد أن الناطق الرسمي باسم «داعش» المدعو «أبو محمد العدناني» كان قد وجّه أتباع التنظيم ومناصريه إلى قتل الغربيين، وأضاف في توجيهه تخصيصا يفيدنا في قراءة المشهد الفرنسي على نحو خاص حين قال «خصوصاً الفرنسيين الحاقدين»... لماذا؟
هناك في واقع الحال جانبان للجواب، الأول يتصل بأحوال المسلمين والمهاجرين، وبالبيئة الاجتماعية والحياتية في الداخل الفرنسي، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، وهناك ما هو خارجي ويزعج «داعش» بنوع خاص من فرنسا، في سوريا والعراق وشمال أفريقيا، عسكرياً وسياسيا، ومالياً، ولتكن الإجابة من الخارج، ثم العودة لاحقاً إلى الداخل الذي يحمل موروثات قديمة، تتجدد جراحاتها عند الأجيال الجديدة.
أدركت فرنسا من خلال حقائق الأرقام أن الدواعش من الفرنسيين، سواء أحفاد الغال الأصليين أو أبناء المهاجرين والمجنسين، قد أضحوا خطراً حقيقياً على الأمن القومي للبلاد؛ فهناك أكثر من ألفي شخص عرفوا طريقهم إلى جماعات الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بالفعل، وهناك نصف هذا العدد تشير التحريات إلى محاولاتهم الالتحاق بـ«داعش» الذي بات صرعة فكرية وعقائدية.
إضافة إلى ما تقدم، فإن أكثر من ثلاثة آلاف عنصر من الفرنسيين المرتبطين بتنظيمات إرهابية واقعين تحت مراقبة أمنية واستخباراتية فرنسية، في حين الكارثة الحقيقية تتمثل في عودة ثلاثمائة فرنسي من ميادين قتال «داعش» إلى الداخل الفرنسي، هؤلاء هم العائدون من أكاديمية تنظيم داعش للقتل والكراهية سفك الدماء، والمستعدون للموت بكل صوره... هل كان لفرنسا أن تستكين في تلك المواجهة الشرسة؟
من الواضح جداً أن الإصرار الداعشي على إحداث أكبر الضرر بفرنسا والفرنسيين، مرده إلى الدور الفاعل والحاسم الذي تلعبه في مواجهة «داعش»، والمتميز عن باقي الأدوار الأوروبية بشكل عام.
بحسب البيانات الرسمية الفرنسية، فإن الفرنسيين يقومون على قيادة عملية شمال العراق في إطار التحالف الدولي منذ أيلول سبتمبر (أيلول) 2014. وفي سوريا منذ 18 سبتمبر 2015، كما أن فرنسا تجري عمليات جوية وتقدم المشورة والتدريب لقوات الأمن العراقية، ولا سيما القوات الكردية، عطفاً على قيام فرنسا أيضاً بدعم المجموعات المعتدلة التي تحارب تنظيم داعش في سوريا.
والثابت أن تنظيم داعش قد تعرض لخسائر جسيمة في الأرواح والمعدات من قبل العمليات الجوية الفرنسية التي جرت فوق الأراضي العراقية والسورية، ولا سيما بعد الهجمات التي ارتكبتها «داعش» في باريس وسان - دوني في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهناك عدد كبير من الطائرات وقطع البحرية الفرنسية التي تذيق تنظيم الدولة هواناً عسكرياً، زاد من الحقد تجاه الأراضي الفرنسية. وعطفاً على ذلك، فإن الفرنسيين تسببوا للدواعش في خسائر مالية غير مسبوقة أيضاً أثرت كثيراً على تماسكهم وقدرتهم على الصمود، وشراء مجاهدين جدد عبر التلويح بذهب المعز بنوع خاص.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الضربات التي شاركت بها فرنسا ضمن قوات التحالف الدولي قد دمرت الكثير من البنى التحتية النفطية الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش، مثل الآبار والمصافي وقوافل شاحنات الوقود وغيرها، مما قلص المداخيل التي يجنيها التنظيم من بيع النفط تقليصاً ملحوظاً، كما أن فرنسا اتخذت في الداخل تدابير صارمة كل الصرامة في طريق تجميد الأصول الإرهابية، للمرتبطين بتلك الحوادث تنفيذاً أو تخطيطاً أو تسهيلاً.
على أن المشهد الخارجي لا يفسر لنا وحده أسباب تنامي الأصوليات وصعود الراديكاليات في الداخل الفرنسي؛ فهناك من الأسباب التاريخية والمعاصرة، ما يجعل معامل تفريخ الأصوليين الفرنسيين نشطة، وزاد القلق الفرنسي نهاراً، وتراكم الأرق ليلاً منذ عام 2014 حينما أشار مقاتل «داعش» الفرنسي «إبراهيم الخياري» في تسجيل له إلى أن... «فرنسا في حالة حرب مع تنظيم داعش»، أما الطامة الكبرى التي روعت الفرنسيين ولا تزال فقد تمثلت في ظهور فرنسي الأصل للمرة الأولى مكشوف الوجه يدعى «مكسيم أوشارد»، وهو يذبح أحد الرهائن، وقد كان المشهد بمثابة رسالة تطلع «داعش» لأن يفهمها الفرنسيون، ومفادها أن الاختراق قد حدث لفرنسا من الداخل، لا من الخارج فقط.
تقتضي اللحظة الراهنة قراءة عميقة للمشهد الداخلي الفرنسي لمعرفة أسباب القصور التي أدت إلى تنامي تلك الحركات في الداخل، وهي ليست قراءة تبريرية بالمرة، فلا أحد يمكنه أن يجيز أو يبرر أو يبارك سفك الدماء، فللدماء حرمتها، وللآمنين حقهم في عدم الترويع.
أحد الذين قرأوا المشهد الفرنسي بعين ثاقبة هو «غونتر ماير» مدير مركز بحوث العالم العربي في جامعة ماينز الألمانية، وعنده أن هناك تراكما للأسباب أدى إلى ما نراه، منها اعتبار الإسلام ديناً غريباً في الأوساط الثقافية الفرنسية؛ الأمر الذي يدفع الشباب المسلم هناك إلى نوع من «الجيتو الفكري»، وإلى التهميش أحياناً، ناهيك عن الانعزالية والإحساس بالاضطهاد أحياناً أخرى.
ثم أن فترة الارتباك الذهني والعقائدي، بل والآيديولوجي التي تعيشها فرنسا في زمن العولمة، أفرزت تيارات يمينية وسياسية، تحمّل المهاجرين واللاجئين من المسلمين أوزار تردي الأوضاع في البلاد على أكثر من صعيد؛ مما يولد حقداً وكراهية مقابلين عند بعض الشباب المسلم الفرنسي، الذي يصل به الكبت إلى الإسقاط المتمثل في الانتماء إلى «داعش»، ولاحقاً توجيه نيران الأسلحة الآلية إلى صدور الفرنسيين.
على أن السؤال الحقيقي بالتوقف أمامه... هل فشلت الدولة الفرنسية في تسهيل عملية اندماج هؤلاء وأولئك ضمن صفوف المواطنة كما كان يتوجب الأمر بالفعل؟
هذا ما يؤكده الكاتب الألماني «شتيفان بوخن»، وعنده أن فرنسا أخفقت في تقديم أدوية ناجعة وعلاجات شافية وافية لكثير من أخطائها، ولا سيما إرثها الاستعماري في شمال أفريقيا ودول المغرب العربي؛ ولهذا تبقى حزازات الصدور كائنة وكامنة، بل قائمة وقادمة، إلى حين تبدو الفرصة مواتية للانتقام للتاريخ، إن جاز التعبير. والمقطوع به، أن الأسباب أوسع من المسطح المتاح للكتابة وتبدو هناك جذور فكرية عقدية من نوعية المطلقات التي لا تقبل فلسفة المواءمة، كما في القضايا السياسية، ومن دون مراجعات جذرية لتلك القضايا سيبقى الخلاف محتدماً والمواجهات قائمة.
ويستلفت النظر في حادثة الشانزليزيه الحديث عن جنسية فاعلة، ففي حين قالت الداخلية الفرنسية إنه «بلجيكي»، أنكرت بلجيكا الأمر، على أنه ليست هذه هي الإشكالية، بل الكارثة وليست الحادثة في أن فرنسا، وعموم أوروبا أمام أجيال جديدة من المتطرفين غير المعروفين، وغير المنتظمين في عقد تراتبي هيراركي؛ إذ يكفي أن تؤمن بفكر الدولة الإسلامية، وأن تجد سلاحاً قريباً منك، لتتمكن من أحداث خسائر هائلة بشرية ومالية، فعلى سبيل المثال يقصد فرنسا نحو خمسين مليون سائح كل صيف، ويعد قوس النصر بالنسبة لهم مقصداً أولياً، والخوف يولد في حركة السياحة تدهوراً واضحاً كما في تجارب دول أخرى.
على أن السؤال الجوهري قبل الانصراف... «هل ستقع فرنسا من جديد في فخ الإرهاب والأصوليات التي تدفعها دفعاً في طريق التنكر لمبادئها الرئيسة من (حرية ومساواة وإخاء)؟».
التجربة قاسية بالفعل، والجمع بين الأمن والحرية معادلة صعبة، ويخشى الجميع لا في فرنسا فحسب، بل في عموم أوروبا من السير في الطريق البرابرة الجدد، كما كان يقول الراحل حديثاً عن عالمنا، الفيلسوف الفرنسي، البلغاري الأصل «تزيفتان تودروف» يجعلنا كالبرابرة أنفسهم، ويحقق الغرض الأصلي الذي يسعون إليه، أي جر العالم إلى دائرة الظلاميات ونهاية عصور التنوير.
وقت ظهور هذه الكلمات للنور سيكون الفرنسيون قد قالوا كلمتهم واختاروا رئيسهم الجديد، فهل تأتي هذه الحادثة الإرهابية الأخيرة لتغير الأوضاع وتعدل الطباع لصالح اليمين القومي المتطرف أم سينتصر الفرنسيون لدولة التنوير؟



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟