«الفخ الداعشي» لفرنسا

هجوم الشانزليزيه {صوت} للتنظيم ضد التنوير والديمقراطية

مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
TT

«الفخ الداعشي» لفرنسا

مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)
مقاتلتان أجنبيتان من «داعش» («الشرق الأوسط»)

هل باتت فرنسا هدفاً للإرهاب الداعشي؟ الاستفهام يحمل الجواب «نعم، إنها أضحت كذلك بشكل واضح للجميع، ولا سيما في العامين الماضيين»، أما التساؤل فربما يكون هو الحقيق بالبحث عن الأسباب وراءه؛ لخطورة المشهد في الحال وأهواله إن جرت الأمور في تصاعد على صعيد الاستقبال؛ ما يعني إمكانية اتساع رقعة المساحة الجغرافية المعرضة للاعتداءات الإرهابية داخل الأراضي الفرنسية. والشاهد، أنه منذ عام 2015 تعرضت فرنسا إلى ثمانية حوادث إرهابية كبيرة راح ضحيتها نحو 238 شخصاً عدا عن الجرحى الجسديين وآلاف المشوهين نفسياً، وبالطبع هناك ضِعف هذا العدد أو يزيد من العمليات التي تم إحباطها، بعضها أعلن عنه بشكل رسمي، والبعض الآخر لم يعلن عنه حتى لا يسود الذعر في الأوساط الشعبية الفرنسية».
على أن العملية الإرهابية الأخرى أسفل قوس النصر وعلى رأس «جادة الشانزليزيه» تكتسي أهمية ودلالات رمزية ولوجيستية كثيرة، يمكن للمرء قراءتها عبر تحليل صورة الحدث من حيث المكان والزمان والرسالة للفرنسيين وغيرهم من ورائها.
أما المكان، فهو يحمل معاني الانتصار والمجد لفرنسا؛ فقوس النصر الذي عمل «نابليون بونابرت» على بنائه في بداية القرن التاسع عشر، كان الهدف منه تخليد انتصارات الجيوش الإمبراطورية، وتحمل جدرانه الداخلية نحو 660 اسما من أسماء قادته العسكريين، و96 من أسماء انتصاراته.
هنا... هل يحمل الهجوم رسالة مفادها أن الانكسارات من وراء الإرهاب قادمة لفرنسا وللفرنسيين؟
ثم خذ إليك الآلية التي جرى بها الحادث؛ إذ تحمل نسقاً غير تقليدي، يدلل على رغبة مؤكدة في الانتقام، وإقدام قاطع على الجريمة، حتى وإن كلفت صاحبها حياته، وهو ما جرت به المقادير بالفعل، وما يشير بأن فرنسا ربما تكون على بعد خطوات من مواجهة الانتحاريين أصحاب «الأحزمة الناسفة»، أو مستقلي «المركبات المفخخة»، إن وجدوا إليها سبيلاً.
بحسب المتحدث باسم وزارة الداخلية الفرنسية، بيار هنري براندي، فإنه عند التاسعة مساءً، وصلت سيارة قرب حافلة للشرطة وخرج رجل من السيارة وفتح النار على الأرجح من سلاح آلي على حافلة الشرطة ليقتل أحدهم، ثم يحاول الذهاب راكضاً لاستهداف آخرين، وليتمكن تالياً من إصابة اثنين، قبل أن يلقى حتفه... أي تخطيط جنوني تواجهه فرنسا في مثل تلك الحوادث متعمدة إرهابياً وجنائياً؟
ثم يأتي الظرف الزماني؛ فالحادث يقع قبل نحو ثلاثة أيام بالضبط من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي تعلو فيها الأصوات اليمينية الشعبوية، وتتزايد بها التيارات اليمينية، وكذا القومية، وجميعها تحمل معالم وملامح، ومواقف واضحة من الإسلام والمسلمين، ومن المهاجرين واللاجئين، كلها سلبية بشكل سوداوي، وكأن الجاني هنا يدفع الجميع في طريق الصدام، ويقود الناخب الفرنسي إلى أن يختار من بين المرشحين من هو كفيل بإنهاء سيرة الديمقراطية ومسيرتها في الجمهورية الفرنسية الخامسة.
من هنا، يتأكد لنا بعملية حسابية خوارزمية بسيطة غير معقدة أن حادثة الشانزليزيه لن تكون الأخيرة، وعليه يبقى السؤال الجوهري لماذا باتت أرض التنوير هدفاً لسهام «داعش» على هذا النحو الذي نراه؟
بالرجوع إلى الماضي القريب، وتحديداً في 2014، نجد أن الناطق الرسمي باسم «داعش» المدعو «أبو محمد العدناني» كان قد وجّه أتباع التنظيم ومناصريه إلى قتل الغربيين، وأضاف في توجيهه تخصيصا يفيدنا في قراءة المشهد الفرنسي على نحو خاص حين قال «خصوصاً الفرنسيين الحاقدين»... لماذا؟
هناك في واقع الحال جانبان للجواب، الأول يتصل بأحوال المسلمين والمهاجرين، وبالبيئة الاجتماعية والحياتية في الداخل الفرنسي، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، وهناك ما هو خارجي ويزعج «داعش» بنوع خاص من فرنسا، في سوريا والعراق وشمال أفريقيا، عسكرياً وسياسيا، ومالياً، ولتكن الإجابة من الخارج، ثم العودة لاحقاً إلى الداخل الذي يحمل موروثات قديمة، تتجدد جراحاتها عند الأجيال الجديدة.
أدركت فرنسا من خلال حقائق الأرقام أن الدواعش من الفرنسيين، سواء أحفاد الغال الأصليين أو أبناء المهاجرين والمجنسين، قد أضحوا خطراً حقيقياً على الأمن القومي للبلاد؛ فهناك أكثر من ألفي شخص عرفوا طريقهم إلى جماعات الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بالفعل، وهناك نصف هذا العدد تشير التحريات إلى محاولاتهم الالتحاق بـ«داعش» الذي بات صرعة فكرية وعقائدية.
إضافة إلى ما تقدم، فإن أكثر من ثلاثة آلاف عنصر من الفرنسيين المرتبطين بتنظيمات إرهابية واقعين تحت مراقبة أمنية واستخباراتية فرنسية، في حين الكارثة الحقيقية تتمثل في عودة ثلاثمائة فرنسي من ميادين قتال «داعش» إلى الداخل الفرنسي، هؤلاء هم العائدون من أكاديمية تنظيم داعش للقتل والكراهية سفك الدماء، والمستعدون للموت بكل صوره... هل كان لفرنسا أن تستكين في تلك المواجهة الشرسة؟
من الواضح جداً أن الإصرار الداعشي على إحداث أكبر الضرر بفرنسا والفرنسيين، مرده إلى الدور الفاعل والحاسم الذي تلعبه في مواجهة «داعش»، والمتميز عن باقي الأدوار الأوروبية بشكل عام.
بحسب البيانات الرسمية الفرنسية، فإن الفرنسيين يقومون على قيادة عملية شمال العراق في إطار التحالف الدولي منذ أيلول سبتمبر (أيلول) 2014. وفي سوريا منذ 18 سبتمبر 2015، كما أن فرنسا تجري عمليات جوية وتقدم المشورة والتدريب لقوات الأمن العراقية، ولا سيما القوات الكردية، عطفاً على قيام فرنسا أيضاً بدعم المجموعات المعتدلة التي تحارب تنظيم داعش في سوريا.
والثابت أن تنظيم داعش قد تعرض لخسائر جسيمة في الأرواح والمعدات من قبل العمليات الجوية الفرنسية التي جرت فوق الأراضي العراقية والسورية، ولا سيما بعد الهجمات التي ارتكبتها «داعش» في باريس وسان - دوني في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهناك عدد كبير من الطائرات وقطع البحرية الفرنسية التي تذيق تنظيم الدولة هواناً عسكرياً، زاد من الحقد تجاه الأراضي الفرنسية. وعطفاً على ذلك، فإن الفرنسيين تسببوا للدواعش في خسائر مالية غير مسبوقة أيضاً أثرت كثيراً على تماسكهم وقدرتهم على الصمود، وشراء مجاهدين جدد عبر التلويح بذهب المعز بنوع خاص.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الضربات التي شاركت بها فرنسا ضمن قوات التحالف الدولي قد دمرت الكثير من البنى التحتية النفطية الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش، مثل الآبار والمصافي وقوافل شاحنات الوقود وغيرها، مما قلص المداخيل التي يجنيها التنظيم من بيع النفط تقليصاً ملحوظاً، كما أن فرنسا اتخذت في الداخل تدابير صارمة كل الصرامة في طريق تجميد الأصول الإرهابية، للمرتبطين بتلك الحوادث تنفيذاً أو تخطيطاً أو تسهيلاً.
على أن المشهد الخارجي لا يفسر لنا وحده أسباب تنامي الأصوليات وصعود الراديكاليات في الداخل الفرنسي؛ فهناك من الأسباب التاريخية والمعاصرة، ما يجعل معامل تفريخ الأصوليين الفرنسيين نشطة، وزاد القلق الفرنسي نهاراً، وتراكم الأرق ليلاً منذ عام 2014 حينما أشار مقاتل «داعش» الفرنسي «إبراهيم الخياري» في تسجيل له إلى أن... «فرنسا في حالة حرب مع تنظيم داعش»، أما الطامة الكبرى التي روعت الفرنسيين ولا تزال فقد تمثلت في ظهور فرنسي الأصل للمرة الأولى مكشوف الوجه يدعى «مكسيم أوشارد»، وهو يذبح أحد الرهائن، وقد كان المشهد بمثابة رسالة تطلع «داعش» لأن يفهمها الفرنسيون، ومفادها أن الاختراق قد حدث لفرنسا من الداخل، لا من الخارج فقط.
تقتضي اللحظة الراهنة قراءة عميقة للمشهد الداخلي الفرنسي لمعرفة أسباب القصور التي أدت إلى تنامي تلك الحركات في الداخل، وهي ليست قراءة تبريرية بالمرة، فلا أحد يمكنه أن يجيز أو يبرر أو يبارك سفك الدماء، فللدماء حرمتها، وللآمنين حقهم في عدم الترويع.
أحد الذين قرأوا المشهد الفرنسي بعين ثاقبة هو «غونتر ماير» مدير مركز بحوث العالم العربي في جامعة ماينز الألمانية، وعنده أن هناك تراكما للأسباب أدى إلى ما نراه، منها اعتبار الإسلام ديناً غريباً في الأوساط الثقافية الفرنسية؛ الأمر الذي يدفع الشباب المسلم هناك إلى نوع من «الجيتو الفكري»، وإلى التهميش أحياناً، ناهيك عن الانعزالية والإحساس بالاضطهاد أحياناً أخرى.
ثم أن فترة الارتباك الذهني والعقائدي، بل والآيديولوجي التي تعيشها فرنسا في زمن العولمة، أفرزت تيارات يمينية وسياسية، تحمّل المهاجرين واللاجئين من المسلمين أوزار تردي الأوضاع في البلاد على أكثر من صعيد؛ مما يولد حقداً وكراهية مقابلين عند بعض الشباب المسلم الفرنسي، الذي يصل به الكبت إلى الإسقاط المتمثل في الانتماء إلى «داعش»، ولاحقاً توجيه نيران الأسلحة الآلية إلى صدور الفرنسيين.
على أن السؤال الحقيقي بالتوقف أمامه... هل فشلت الدولة الفرنسية في تسهيل عملية اندماج هؤلاء وأولئك ضمن صفوف المواطنة كما كان يتوجب الأمر بالفعل؟
هذا ما يؤكده الكاتب الألماني «شتيفان بوخن»، وعنده أن فرنسا أخفقت في تقديم أدوية ناجعة وعلاجات شافية وافية لكثير من أخطائها، ولا سيما إرثها الاستعماري في شمال أفريقيا ودول المغرب العربي؛ ولهذا تبقى حزازات الصدور كائنة وكامنة، بل قائمة وقادمة، إلى حين تبدو الفرصة مواتية للانتقام للتاريخ، إن جاز التعبير. والمقطوع به، أن الأسباب أوسع من المسطح المتاح للكتابة وتبدو هناك جذور فكرية عقدية من نوعية المطلقات التي لا تقبل فلسفة المواءمة، كما في القضايا السياسية، ومن دون مراجعات جذرية لتلك القضايا سيبقى الخلاف محتدماً والمواجهات قائمة.
ويستلفت النظر في حادثة الشانزليزيه الحديث عن جنسية فاعلة، ففي حين قالت الداخلية الفرنسية إنه «بلجيكي»، أنكرت بلجيكا الأمر، على أنه ليست هذه هي الإشكالية، بل الكارثة وليست الحادثة في أن فرنسا، وعموم أوروبا أمام أجيال جديدة من المتطرفين غير المعروفين، وغير المنتظمين في عقد تراتبي هيراركي؛ إذ يكفي أن تؤمن بفكر الدولة الإسلامية، وأن تجد سلاحاً قريباً منك، لتتمكن من أحداث خسائر هائلة بشرية ومالية، فعلى سبيل المثال يقصد فرنسا نحو خمسين مليون سائح كل صيف، ويعد قوس النصر بالنسبة لهم مقصداً أولياً، والخوف يولد في حركة السياحة تدهوراً واضحاً كما في تجارب دول أخرى.
على أن السؤال الجوهري قبل الانصراف... «هل ستقع فرنسا من جديد في فخ الإرهاب والأصوليات التي تدفعها دفعاً في طريق التنكر لمبادئها الرئيسة من (حرية ومساواة وإخاء)؟».
التجربة قاسية بالفعل، والجمع بين الأمن والحرية معادلة صعبة، ويخشى الجميع لا في فرنسا فحسب، بل في عموم أوروبا من السير في الطريق البرابرة الجدد، كما كان يقول الراحل حديثاً عن عالمنا، الفيلسوف الفرنسي، البلغاري الأصل «تزيفتان تودروف» يجعلنا كالبرابرة أنفسهم، ويحقق الغرض الأصلي الذي يسعون إليه، أي جر العالم إلى دائرة الظلاميات ونهاية عصور التنوير.
وقت ظهور هذه الكلمات للنور سيكون الفرنسيون قد قالوا كلمتهم واختاروا رئيسهم الجديد، فهل تأتي هذه الحادثة الإرهابية الأخيرة لتغير الأوضاع وتعدل الطباع لصالح اليمين القومي المتطرف أم سينتصر الفرنسيون لدولة التنوير؟



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.