«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»

رسمه الحكم البريطاني عام 1893... وفجّر أزمة عام 2017

«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»
TT

«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»

«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»

تحدث عبد اللطيف بدرام، عضو في البرلمان الأفغاني المنتمي لعرقية الطاجيك من ولاية بدخشان التي تقع في أقصى شمال شرقي أفغانستان، تحدث قبل أيام في مؤتمر صحافي عن أوضاع البلاد من الناحيتين السياسية والأمنية. وعرّج بدرام في سياق شرحه على ما سماه «ملف تدخلات باكستان» في شؤون بلاده، عازيا ذلك إلى وجود خلاف حدودي بين البلدين، ومتهما إسلام آباد بأنها تتدخل في الشأن الداخلي لأفغانستان بحجة أن كابل لم تعترف بالحدود الرسمية بين البلدين. وأشار البرلماني الأفغاني إلى أنه يعتبر «خط ديوراند» المثير للجدل خطا رسميا معترفا به بين أفغانستان وباكستان. وحث الحكومة في العاصمة الأفغانية كابل على إعلان ذلك خطا رسميا يفصل البلدين.
هذا التصريح كان كافيا لإشعال فتيل أزمة جديدة تتحول إلى كرة نار يتقاذفها أبناء عرقيتي الباشتون والطاجيك فيما بينهما عبر قنوات تلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تتوفر لغالبية الأفغان. كذلك شن عدد من أعضاء البرلمان من عرقية الباشتون في جلسة علنية غاب عنها عبد اللطيف بدرام، هجوما لاذعا عليه، واتهموه بأنه «جاسوس» تلقى الأموال من باكستان. بل وطالبوا رئيس البرلمان الأفغاني بالسماح لهم بـ«رجمه» بالحجارة «ليكون عبرة لمن يتخلى عن أراضي البلد في الجانب الباكستاني من الحدود». كما طالب آخرون من الساسة الباشتون بمنازلة بدرام وخوض حوار التحدي معه في أي قناة تلفزيونية يختارها… فما هي قصة «خط ديوراند»؟
من الطبيعي أن يختلف الأفغان على كل شيء تقريبا. ومن الطبيعي أيضا أن يتقاتلوا على موضوع قد لا يكون له أهمية كبيرة لا من الناحية التاريخية ولا من الناحية العملية... لكن ما هو ليس طبيعيا أن يتعمق الخلاف ليصل إلى درجة التخوين والتهديد بالقتل «رجما» على ألسنة نواب في البرلمان. وهم الساسة الذين يعوّل عليهم في إصدار قوانين ترسم ملامح مستقبلية للبلاد ولشعبها الذي عانى ولا يزال من تبعات الحروب الأهلية.
لقد تزايدت التوترات الفئوية والطائفية خلال العقود الثلاثة الماضية.
الغزو الأميركي لأفغانستان وتدفق ملايين الدولارات بحجة إعادة إعمار البلد وبناء مجتمع خال من العنف والتطرف عمّقا الخلافات الفئوية، وأعطيا نتائج عكسية. وهذا ما يظهر جليا خلال مناقشات سياسية وحوارات، يشارك فيها نخبة من الساسة من العرقيات المختلفة، حول ملفات قد تكون مهمة بالنسبة للمجتمع الأفغاني أو لا تكون أصلا في صلب اهتماماته. وهكذا غدا مألوفا أن يخالف النائب من الباشتون زميله من الطاجيك حتى لو كان رأيه صوابا والعكس صحيح.

لمحة تاريخية
عام 1893م، كانت بريطانيا تحكم شبه القارة الهندية، ويومذاك لم يكن هناك وجود لدولة باكستان الحالية، وقّع الأمير عبد الرحمن خان، حاكم أفغانستان، اتفاقية مع السير هنري مورتمور دیورند، الحاكم البريطاني على شبه القارة الهندية حددت فيها الخطوط الفاصلة بين ما بات اليوم أفغانستان وباكستان.
وفي وقت لاحق أطلق على ذلك الخط اسم «خط ديوراند»، الذي حدد واقعيا - وفيما بعد رسميا - الحدود بين أفغانستان وأراضي الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية، وكانت بريطانيا تدفع مقابل ذلك للجانب الأفغاني مليون وثمانمائة ألف روبية هندية سنويا كميزانية للدولة. وقيل أيضا إن هذه الاتفاقية التي كانت سارية المفعول في حياة الأمير عبد الرحمن خان، استمر مفعولها بعد وفاته عندما تولى نجله الأمير حبيب الله خان. ولقد طمأن الأخير البريطانيين بأنه سيحترم اتفاقيات أبرمت مع والده بخصوص ترسيم الحدود. وجدد التوقيع على الاتفاقية المذكورة، التي لم يرد فيها ذكر أنها صالحة فقط لمدة مائة سنة وستنتهي بعدها صلاحياتها.
«خط ديوراند» هذا قسّم القبائل الباشتونية القاطنة عبره في أفغانستان وباكستان إلى شطرين. إذ بقي نحو أربعين مليون باشتوني داخل الحدود الباكستانية – حيث يُعرفون بـ«الباتان» – مقابل أقل منهم بكثير في الجانب الأفغاني... إلا أن هؤلاء يرفضون الاعتراف بالحدود الرسمية ويطالبون بضم القبائل الباشتونية عبر الخط إليهم.
وفي عام 1919م، عندما نالت أفغانستان استقلالها التام من المستعمر البريطاني، اعترفت بجميع الاتفاقيات الموقعة بين الأمير عبد الرحمن خان والبريطانيين، بما فيها «خط ديوراند»، وتنصّ المادة رقم 5 من اتفاق السلام الموقع بين كابل والحكم البريطاني في مدينة روالبندي (الباكستانية) صراحة على أن أفغانستان تعترف بالحدود الرسمية التي اعترف بها الأمير عبد الرحمن خان عام 1893م.
بعد ذلك، عندما أسست دولة جديدة باسم باكستان عام 1947 – في أعقاب تقسيم شبه الدولة الهندية بين دولتي الهند وباكستان – رفضت أفغانستان الاعتراف بالدولة الجديدة بحجة أن الحدود غير مرسومة بينهما وطالبت بأراضيها التي تصل حتى عمق مدينة بيشاور الباكستانية حاليا. ومنذ ذاك الحين توترت العلاقات بين كابل وإسلام آباد واستمرت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، إذ اتهم كل منهما الآخر بالتدخل في شؤونه وتغذية العنف والتطرف في أراضيه. وكان الخاسر الوحيد في هذا الوضع العدائي أبناء شعب الباشتون الساكنون على جانبي «خط ديوراند»، الذين حرموا من التعليم والحياة الكريمة طوال التاريخ. وحاليا، تعتزم باكستان إنشاء بوابات رسمية وبناء سياج حديدي على طول حدودها مع أفغانستان لمنع تسلل مسلحي «طالبان – باكستان» الذين يشنون هجمات في العمق الباكستاني. وتدعي إسلام آباد أنهم يتخذون من أفغانستان مقرا لهم بينما تنفي كابل هذه التهم من أساسها وترد باتهام إسلام آباد بإيواء وتدريب مقاتلي طالبان الأفغانية.

رفض السياج الحديدي
كابل ترفض بالمطلق فكرة السياج الحديدي، وترى أنه غير مُجد في القضاء على التطرف، بل يجب محاربة ملاذات الجماعات الإرهابية الموجودة في العمق الباكستاني. أيضا، يعتبر كثيرون من الساسة الأفغان أن الأزمة بين كابل وإسلام آباد يجب أن تحل عبر الحوار البناء، وأن على كابل مصارحة إسلام آباد والاعتراف بـ«خط ديوراند» كخط رسمي يفصل البلدين كحدود دولية بينهما. غير أن قادة الباشتون من الجانب الأفغاني يرفضون ذلك، ويقولون إن الشعب في البلدين - المراد هنا شعب الباشتون على طرفي الحدود - هو من يجب أن يتخذ القرار المصيري وليس الحكومات.
في المقابل، فإن غالبية قادة عرقية الطاجيك وساستها، وكذلك باقي العرقيات من غير الباشتون، يعتبرون «خط ديوراند» حدودا دولية بين بلادهم وباكستان، ويرغبون في إنهاء هذه المعضلة التي طال أمدها. وهم يرون أن أي ادعاء آخر مجرد استهلاك داخلي لا غير، وذلك أن الحجة القائلة بأن الخط قسم الباشتون ليست دليلا مقنعا. ويعطون على ذلك حجة مقابلة هي أن الطاجيك أيضا مقسمون بين أفغانستان وجمهورية طاجيكستان المتاخمة لها، والشيء نفسه ينطبق على الأوزبك والتركمان المقسمين بين أفغانستان وجمهوريتي أوزبكستان وتركمانستان.
في هذا المناخ المضطرب، تذر الخلافات الفئوية بقرنها، وتبدو في تصاعد مستمر ينذر بحرب أهلية جديدة ما لم يتم تداركها من قبل ساسة عقلاء من الطرفين الباكستاني والأفغاني. وإذا ما تفاقم الموضوع فإنه قد يتحول إلى نقطة اللاعودة... وعندها يغدو تقسيم أفغانستان إلى دويلات صغيرة يصبح خطرا حقيقيا.

موقف حامد كرزاي
خلال مؤتمر علمي عقد في كابل وتحدث فيه الرئيس الأفغاني الأسبق حامد كرزاي (وهو باشتوني) حول الاعتراف بـ«خط ديوراند» كحدود رسمية بين أفغانستان وباكستان، قال كرزاي إن الأفغان لن يعترفوا بهذه الحدود التي تفصل بين قبيلة واحدة في دولتين.
وأشار الرئيس الأسبق إلى أن «جميع الساسة بمن فيهم قادة الطاجيك والأوزبك والهزارة متفقون على أن هذه الحدود غير رسمية، ولا يجوز الاعتراف بها لأن حدود أفغانستان تصل إلى منطقة بول ختك، وهي آخر نقطة في مقاطعة بيشاور الباكستانية. ومن ثم تبدأ حدود إقليم البنجاب الباكستاني». وتدعي كابل تاريخيا أن هذه المناطق تعود إليها، ولكن بسبب تفاهم سياسي بين حكام أفغانستان في زمن الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية جرى تقسيم مناطق الباشتون - أو الباتان - إلى جزأين جزء يخضع لنفوذ باكستان والجزء الآخر ضمن الحدود الأفغانية الحالية.
غير أن باكستان، الطرف الآخر من المعادلة والأزمة، تقول إنها تعتبر مسألة الحدود محلولة ومحسومة بينها وبين أفغانستان، وأنه «لا توجد معضلة تستدعي البحث والنقاش» مع الجانب الأفغاني. كذلك فهي ترفض أي تدخل دولي بهذا الخصوص. وكما يبدو فإن كفة باكستان هي الراجحة في هذه المسألة نظرا لضعف الموقف الأفغاني في الوقت الراهن، فضلا عن أن المجتمع الدولي وجميع المؤسسات الدولية تعترف بـ«خط ديوراند» خط حدود رسمية بين أفغانستان وباكستان، كما أشارت إلى ذلك وزيرة الخارجية الأميركية في العام الماضي. فعندما نشبت أزمة الحدود الأخيرة بين كابل وإسلام آباد عبر إطلاق قذائف صاروخية بين حراس الحدود، قالت الخارجية الأميركية في عهد باراك أوباما إن الولايات المتحدة تعترف بالحدود الحالية كخط فاصل بين أفغانستان وجارتها باكستان.
ولكن ماذا عن بريطانيا الطرف الثالث في الاتفاق السياسي عام 1893م، والتي تحتفظ بنص التوافق السياسي في متحف تاريخي في لندن؟
على الرغم من أن بريطانيا لم تصدر أي تصريح رسمي بهذا الشأن، فإن المؤشرات تشير إلى أنها ترى مسألة الحدود بين أفغانستان وباكستان منتهية بالنسبة لها، وأن الحدود الحالية حدود رسمية معترف بها من قبل الجميع. ويصر الساسة البريطانيون على أن هذه الاتفاقية لم تقيد بمدة زمنية وأنها وقعت بين الطرفين برضاهما دون أي ضغوط عسكرية أو سياسية كما تدعي كابل.

الباشتون... باشتونان
على صعيد آخر، لدى إجراء مقارنة بين أوضاع قبائل الباشتون القاطنة في أفغانستان ونظيراتها القاطنة في الجانب الباكستاني، يجد المتابع والدارس فارقا شاسعا بينهما من كل النواحي. فالباشتون في الجانب الأفغاني، رغم أنهم يحكمون أفغانستان منذ آلاف السنين، لم يتمكنوا من توفير أبسط الخدمات الأساسية للباشتون في بلادهم ولذا ترى قبائلهم متخلفة من الناحيتين التعليمية والاقتصادية، كما أن مناطقهم تعتبر أكثر المناطق حرمانا مقارنة بالعرقيات الأفغانية الأخرى التي تعيش في البلاد. ولهذا السبب تحولت القبائل الباشتونية إلى ملاذ آمن وحاضنة شعبية لجميع الحركات الراديكالية والجماعات المتشددة والإرهابية. وكمثال فإن حركة طالبان خرجت من قبائل الباشتون ويشكل الباشتون غالبية مقاتليها، وهي التي احتضنت زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن وباقي عناصر التنظيم في مناطقها قبيل وبعد الغزو الأميركي لأفغانستان. ومفهوم أن الجماعات المتطرفة تجد في المناطق الفقيرة والمتخلفة تعليميا بيئة حاضنة ومساعدة تستطيع التمدد فيها والتعايش بسبب تلاقي الأفكار المتطرفة. ومن يدقق في الصور التي تخرج من قبائل الباشتون الأفغاني يجد أنهم لم يتغيروا على مر العصور، وتظهر أشكالهم الخارجية كأنهم يعيشون في العصور الحجرية إلا قلة قليلة منهم.
أما في باكستان، خاصة في المناطق التي تنتشر فيها قبائل الباشتون أو الباتان، مثل إقليم بيشاور ومقاطعة خيبر، بالإضافة إلى مدينة كويتا – كبرى مدن إقليم بلوشستان – التي تحولت أخيرا إلى مقر لجماعتي طالبان الأفغانية والباكستانية، فيختلف الباشتون هناك من حيث مستوى المعيشة ومستوى التعليم. هنا ترتفع عند باشتون باكستان نسبة التعليم أعلى بكثير من نظرائهم الأفغان، كما أنهم يعيشون حياة أكثر ترفا وازدهارا من باشتون أفغانستان، ومع أنهم أقلية عرقية في باكستان فلدى باشتون باكستان تمثيل كبير في الحكومة وقد وصلت أكثر من شخصية سياسية باشتونية إلى مناصب رفيعة وحساسة في الحكومات الباكستانية المتلاحقة، بل إن منهم من تقلد منصب رئيس الجمهورية مثل غلام إسحاق خان والجنرال محمد أيوب خان والجنرال يحيى خان... والأخيران توليا أيضا منصب قائد الجيش الباكستاني، وهو منصب جد رفيع في البلاد. كذلك كان في رؤساء جهاز الاستخبارات الباكستاني شخصيات باشتونية أمثال الجنرال حميد غول والجنرال أسد دراني وغيرهما. ومن ثم، فمن الناحية السياسية نرى باشتون باكستان أكثر تمثيلا ودراية بالسياسة وفن الحكم من نظرائهم الأفغان، كما أنهم يعيشون حياة أفضل بكثير من كل النواحي الاقتصادية والأمنية. وتشهد مناطق باشتون باكستان ازدهارا وتطورا كبيرين بالمقارنة مع مناطق الباشتون في أفغانستان حيث تنتشر تجارة المخدرات وزراعة الحشيش والخشخاش (مصدر مادة الأفيون وهي تصدر كما هائلا إلى العالم من هذه المادة القاتلة)... ثم إن معظم الانتحاريين هم من مناطق الباشتون الأفغان والقليل القليل منهم من باشتون باكستان.

النضج السياسي
إضافة إلى ما سبق، نجد أن العملية السياسية عند باشتون باكستان أكثر نضجا، وهناك أحزاب سياسية تخوض الانتخابات وتتمتع بشعبية واسعة بينهم وبين غيرهم من العرقيات الساكنة في باكستان، ويحصلون على عدد كبير من الكراسي في البرلمانات المحلية والمركز.
وصحيح أن الأحزاب الباشتونية في باكستان تناضل من أجل الحصول على كامل حقوقهم وتوفير حياة كريمة لبني جلدتهم، وصحيح أيضا أن معظم هذه الأحزاب أنشئت لتحقيق أهداف قومية، إلا أنها لم تقل في يوم من الأيام في نضالها السياسي إنها تسعى إلى الانفصال عن باكستان والانضمام إلى «أفغانستان الكبرى»، بل العكس تماما هو الصحيح. إذ إن غالبية الأحزاب الباشتونية في باكستان - وأبرز قادتها من أمثال محمود خان اتشكزاي وعبد الولي خان واسفنديار - كلها تطالب بحقوق الباشتون ولكن ضمن دائرة الدستور الباكستاني ورفض الانفصال عن الدولة.
وحقا، هذه هي الورقة الرابحة بالنسبة لباكستان، فحتى لو نظم استفتاء شعبي في الجانب الباكستاني ستصوت غالبية الباشتون بلا شك لصالح البقاء ضمن كيان باكستان، رافضة الانضمام لأفغانستان التي تمزقها الحروب المستمرة منذ أكثر من أربعين سنة ولا تزال تدفع أثمانها الباهظة.
وعن هذا الجانب يقول أحمد سعيدي، الكاتب والمحلل السياسي والدبلوماسي الأفغاني السابق في إسلام آباد، إن «الدعوة إلى إلحاق الباشتون في باكستان بأفغانستان دعوة فارغة وغير قابلة للتحقيق»، مشيرا إلى أن «ساسة أفغانستان يعرفون ذلك جيدا، وهم يبحثون عن أمر مستحيل». ثم أردف: «الأصوات التي تطالب بحق أفغانستان في أراضي باكستان أصوات مغرضة كل كلامها للاستهلاك المحلي، لأنه لا يمكن عودة عقارب الساعة إلى الوراء» على حد تعبيره.
ويشارك محللون كثيرون سعيدي تحليله هذا. ويدعو هؤلاء إلى تركيز الجهود في محاربة الإرهاب والتطرف ونشر ثقافة التسامح وتوفير حياة كريمة للشعب الأفغاني بغض النظر عن انتمائه الطائفي والمذهبي ليكون نموذجا في المنطقة بدل الدخول في نقاشات جانبية لا طائل من ورائها. ويرون أن أولويات أفغانستان يجب أن تكون محاربة التطرف والأفكار المتطرفة التي تجد حاضنة شعبية في مناطق فقيرة من البلاد وذلك عبر نشر التعليم ومحاربة ثقافة العنف والقضاء على المخدرات... لا خوض صراع سياسي سيلحق الضرر بالداخل الأفغاني المقسم أصلا والعيش في استقرار وسلام مع الجيران.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».