الفن وبهجة المأساة في قصيدة لييتس

حوّل الحروب ومشاهد العنف إلى قصائد من أهم ما كتب بالإنجليزية

ويليام بتلر ييتس
ويليام بتلر ييتس
TT

الفن وبهجة المأساة في قصيدة لييتس

ويليام بتلر ييتس
ويليام بتلر ييتس

منذ تعرفت على أعمال الشاعر الآيرلندي وليام ييتس أيام الدراسة الجامعية وأنا لا أتوقف عن العودة إليه بين الحين والآخر، حتى أصبحت المقالات والأوراق البحثية التي كتبت حوله تلفت النظر لكثرتها بالنسبة لما كتبته عن غيره. والحق أن الكتابة عن ذلك الشاعر الكبير لا تحتاج إلى تبرير؛ فأهميته الإبداعية ليست محل شك، لكن اهتمام ييتس، الذي عرفته في مرحلة لاحقة، بالثقافة العربية ثم ما تبين لي من مواقفه السياسية والثقافية في مواجهة الاحتلال الإنجليزي لآيرلندا، الذي ران على تلك البلاد طوال ما يقارب الـ120 عاماً تخللتها ثورات وأعمال مقاومة انعكست في الأدب والفن، وكان لييتس نصيب فيها. فعلى الرغم من نزوع ييتس للسلم ومناداته بالمقاومة السلمية عن طريق إحياء الثقافة الآيرلندية في اللغة والموروث الخاص وغيرهما، فقد كتب عدداً من النصوص التي تحمل معاناة الآيرلنديين وألم الشاعر لما كانت تعيشه بلاده من قمع تحت الحكم الإنجليزي.
تمثل جانب من القيمة الشعرية العالية لييتس في قدرته الخلاقة على تحويل الحروب ومشاهد العنف ونتائجه المأسوية إلى قصائد صارت من أهم ما في الشعر المكتوب باللغة الإنجليزية، ولا أقول الشعر الإنجليزي بحكم أن ييتس لم يكن إنجليزياً. «وقد التفت الشاعر والناقد الأميركي ت. س. إليوت إلى هذه الناحية فقال إن شعر ييتس ليس جزءاً من التراث الإنجليزي مع أنه، أي ييتس، أهم شعراء اللغة الإنجليزية المحدثين، حسب إليوت». والجانب الذي أشير إليه ليس بالسهل، فليس أيسر على ناظمي الكلام أن يحولوا الحروب والدمار إلى ميلودراما من البكاء أو الاستبسال البطولي، كالدعوة إلى إيقاف الحرب، أو إلى هزيمة الأعداء، أو غير ذلك من الكليشيهات المعروفة في تاريخ الأدب. الأصعب من ذلك هو النظرة التي تمتزج فيها الرؤية الفلسفية بالمخيلة القادرة على التقاط المشاهد ونقلها بلغة مثقلة بالصور والمجازات أو الرموز الموحية، بدلاً من الأنين أو الصراخ المباشر.
من أجمل الأمثلة التي يمكن أن تساق في هذا السياق قصيدة لييتس كتبها حول قطعة من الأحجار الكريمة المعروفة باللازورد أهديت إليه وهي تحمل رسومات حفرها فنان صيني، حسب ما ذكر ييتس نفسه، يتمثل فيها 4 أشخاص أعمل فيهم الشاعر خياله على ما يبدو فقال إنهم 3 تلاميذ ومتصوف. ومع أهمية أولئك والحجر الذي رُسموا عليه، فإن القصيدة تحمل رؤية عميقة للشاعر حول علاقة الفن بالدمار، قدرة الفن ليس على الخلود ومقاومة ما تسببه الحروب من خراب، كما اعتدنا أن نجد في كثير مما كتب حول هذا الموضوع، وإنما قدرته على تقبل الفناء برحابة وعدم تذمر. وهذه بالتأكيد ليست مما اعتدنا سماعه من أن الفن قادر على البقاء، ومع أنها ليست فصل المقال لأن شواهد البقاء موجودة، فإنها تنظر للأمر من زاوية مختلفة جديرة بالتأمل، وكذلك بالاستمتاع بما في الصور من العمق والجمال.
يبدأ ييتس قصيدته بالإشارة إلى خوف الناس الهستيري من الحروب، واحتقارهم للفنون التي تعد مضيعة للوقت: «سمعت أن النساء الهستيريات يقلن - إنهن قد مللن من لوح الألوان وقوس الكمان - من الشعراء المبتهجين باستمرار». البهجة هي ميسم الإبداع حسب قصيدة ييتس «التي تستعمل كلمة (gay) التي كانت تعني البهجة أو السرور، ثم تحول معناها في العقود الأخيرة لتشير إلى من يعرفون الآن بالمثليين». البهجة هي التي نجدها في مآسي شكسبير التي تنتهي بموت أبطال المسرحية. ذلك الموت المحتم لا يؤدي إلى فزع الشخصية كما صاغها الكاتب، بل إن المشاهد تسير بتلك الشخصية مطمئنة إلى حتفها بلا بكاء أو عويل (أي على نقيض النساء الهستيريات):
كلهم يقومون بدورهم المأسوي،
هناك يتبختر هاملت، وهنا لير،
وتلك أوفيليا، وتلك كورديليا؛
ومع ذلك، فحين يأتي المشهد الأخير،
وتكون الستارة على وشك النزول في المسرح الكبير،
إذا كانوا جديرين بأدوارهم البارزة في المسرحية،
فإنهم لا يقطعون نصوصهم ليبكوا.
يعرفون أن هاملت ولير مبتهجان؛
البهجة تغير كل ذلك الرعب.
كل الناس سعوا، كسبوا وخسروا...
البهجة هي بالطبع ما يوجه مخيلة الكاتب وهو يصوغ الشخصية، ما يجعله يرى أن النهاية المفجعة اكتمال للعمل الفني الذي يفترض به أن يبعث على البهجة لدى المتلقي، سواء في المسرح أو على صفحات الكتاب. بهجة الفن العظيم لا تؤدي إلى النهايات السعيدة، ولا إلى الفرح المفتعل لإرضاء الوهم بالخلود. وأظن ييتس لم يبتعد عما قصده المتنبي في قصيدته الشهيرة حين قال:
أين الذي الهرمان من بنيانه
ما قومه، ما يومه، ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها
حيناً ويدركها الفناء فتتبع
يقترب ييتس مما قصده المتنبي في المقطع التالي من قصيدته حيث يتأمل وضع الحضارات التي آلت إلى الفناء:
«جاءوا على أقدامهم، على السفن،
على ظهور الجمال، ظهور الخيل...
حضارات تحاربت
عندئذٍ اندثرت واندثرت حكمتها».
ثم يسوق أمثلة على ذلك:
«لم يبق عمل يدوي واحد من كاليماخوس
الذي عالج الرخام كما لو كان برونزاً
صنع ستائر بدت كما لو أنها ترتفع
حين تهب ريح البحر على الزاوية».
لكن سرعان ما يتبين الفرق بين الشاعر العربي بنظرته الساخرة إلى المأساة التي تلف الإنسان ومنتجاته، ودعوته الضمنية للاتعاظ بذلك، والشاعر الآيرلندي الذي يرى أن الابتهاج هو ما يجب أن تتسم به رؤيتنا لذلك الفناء المحتوم.
في المقطع الأخير من قصيدته يدخل الشاعر نفسه في المشهد حين يشير إلى حجر اللازورد بوصفه مثالاً على الفن البهيج. لكن القصيدة تنبهنا إلى أن الشاعر يمارس فعل التخيل بشكل مباشر:
كل خدش على الحجر،
كل حفر أو كدمة
تبدو مجرى لماء أو انهياراً لثلج،
أو منحدراً عالياً حيث الثلج ما زال يسقط
مع أن غصن كرز أو برقوق ما زال دون شك
يحلّي البيت الصغير عند منتصف المسافة
الذي يصعد الصينيون نحوه، ويبهجني
أن أتخيلهم جالسين هناك؛
هناك، على الجبل والسماء،
على كل المشهد المأساوي الذي يحدقون فيه.
يطلب المرء أغاني حزينة؛
تبدأ أصابع مرهفة بالعزف.
أعينهم بين التجاعيد الكثيرة، أعينهم،
أعينهم الشائخة، اللماعة، مبتهجة.
ننتبه إلى أن الشاعر دخل بشكل مباشر في لعبة الصياغة الفنية التي يتحول بها الحجر إلى منحوتة شعرية، فهو يتحدث عن ثلج «ما زال يسقط» و«غصن كرز أو برقوق ما زال دون شك / يحلي البيت» «وتكرار (ما زال) مقصود لتعميق الدلالة». إنه يخترع صوراً ودلالات ويخبرنا أنه يفعل ذلك. وإن مررنا بذلك دون أن ننتبه فإن قوله: «يبهجني أن أتخيلهم جالسين هنا» يحمل من الوضوح ما يكفي لجعل نصه جزءاً من الفن المبهج؛ الفن الذي يبعث على البهجة رغم المأساة التي يشاهدها، مثل أعمال شكسبير وكاليماخوس وغيرهما.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.