غواية الجلاد والضحية في قفص السرد

وحيد الطويلة التقطها بعين أخرى في «حذاء فلليني»

غواية الجلاد والضحية في قفص السرد
TT

غواية الجلاد والضحية في قفص السرد

غواية الجلاد والضحية في قفص السرد

يوفر وحيد الطويلة لبطله «مطاع» المعالج النفسي الشاب، في روايته «حذاء فلليني» فرصة استثنائية للانتقام من جلاده، الذي يلجأ إليه بمحض الصدفة للعلاج، قابعا فوق كرسي متحرك، تجره زوجته، بعد أن أصيب بالعنّة، على إثر إحالته إلى التقاعد من وظيفته ضابطا كبيرا بأمن الدولة. لكن هذه الفرصة تظل معلقة بين وعي البطل الملتصق بمظاهر وأساليب التعذيب الوحشية التي تعرض لها على يديه، ومحاولة بناء وعي جديد، عبر دوائر مفتوحة بحرية على الذات والمستقبل، وكأنه يريد أن يتخلص من سجنه القابع تحت جلده. وفي الوقت نفسه يستعيد هويته التي تم اغتصابها وتفتيتها، وحولت اسمه من «مطاع» إلى «مطيع» ليتوافق مع فلسفة الذل التي يمارسها الجلادون مع ضحاياهم، حتى يستطيعوا العيش تحت مظلتهم «عملاء جيدين لهم، وعيونا طيبة على الآخرين».
هذه النقطة العائمة بين فواصل الوعي واللاوعي تشد الرواية من أولها إلى آخرها عبر 180 صفحة، تتنوع فيها مشاهد الوصل والقطع ما بين الداخل والخارج. وبمعادلات الحب الغامضة، بين البطل، وفلليني المخرج السينمائي الشهير، وكذلك علاقة البطل العاطفية الملتبسة بجارته الحسناء التي تقوم على رعايته هو والده، بعد وفاة أمه وشقيقته، يدير الطويلة مناورته السردية، في شكل خطوط متوازية، تبحث عن نقطة التقاء حميمة، عن لحظة كفؤة للوجود والحلم، فلا أحد يملك لعبته الخاصة، أو لديه القدرة على أن يسمي الأشياء بأسمائها الطبيعية وسط مناخ قمعي يسعى أن يكون البشر مجرد دمى في يد النظام.
يبني الكاتب السارد من ذاكرته، صورة متخيلة للواقع السوري، تشير ضمنيا إلى فترة حكم حافظ الأسد، ويقفز بها إلى مصاف تبدو واقعية، من خلال رائحة اللغة، وطبيعة الشخوص وأسماء الأمكنة، وتداعيات الوقائع والأحداث. في ظل هذه الصورة تتحرك الخطوط المتوازية في إشارات وعلامات متوترة دراميا أشبه بالكابوس، فالبشر المقهورون لا يملكون إرادة صنع الحياة، لقد سلبت منهم أسئلتها وأشكالها وأحلامها، ولم يعد أمامهم سوى أن يتقوقعوا داخل أنفسهم، أو يمتثلوا لوطأة الظروف، ليكونوا أوغادا طيبين ومستأنسين كلما لزم الأمر... إنه فيلم رعب، يصف أجواءه الكاتب السارد، في لطشات حوارية خاطفة بين فلليني، و«مطاع»، يحثه على عدم الانتقام من جلاده قائلا: «أنا لا أؤمن بأن هناك أوغادا، بل بشرا فقط، فالأخيار قد يتصرفون أحيانا كالأوغاد، والأوغاد قد يكونون ضحايا الظروف، وقد يكون أحدهم شيطانا أسود، ويمكن أن يؤثر فيه مواء قطة صغيرة»، بينما يرد الأخير مندهشا: «مواء قطة صغيرة، إنهم يصطادوننا حتى بالألعاب الطفولية التي تسكنها البراءة».
تتسم مناورة الطويلة بنوع من اللهاث السردي، يهيمن على أغلب فصول الرواية، وهو لهاث مشرّب أحيانا، بمسحة من الفانتازيا والتهكم والسخرية، وأحيانا أخرى، بمكر فني يصطاد الحكمة من أفواه العبث والجنون واللامعقول. ورغم تنوع خيوط الأحداث في الرواية، فإن «القبو» و«العيادة» يشكلان الرحم المكاني لدوائر الصراع بين أبطالها، عدا ذلك تمر الأمكنة بشكل عابر.
في هذين المكانين يلجأ الطويلة إلى فكرة عزل الشخصية في المكان، على غرار ما شاهدناه كثيرا في أفلام سينمائية أجنبية وعربية لهتشكوك وفلليني نفسه، وصلاح أبو سيف، وبخاصة في فيلميه «بين السما والأرض» و«البداية»، حيث يتم عزل الشخصية في مكان ما، لتصبح بمنأى عن العالم الخارجي، بين جدران صماء مقبضة، وتصبح حركة الزمن مكثفة وضاغطة نفسيا على الشخصية من الداخل، فتنفض ما بداخلها محاولةً للخلاص من متاهة الوعي بوجود، أصبح هو والعدم سواء.
في القبو، وهو مكان لجهاز أمن الدولة أسفل الأرض، يُزج بـ«مطاع»، المعالج النفسي الشاب للتحقيق معه بعد تقرير غريب قدم عنه، ويظل قرابة الشهر تحت وطأة صنوف بشعة من التعذيب، تمتهن كرامته، ويجبر على تغيير اسمه، ويكتب سيرة حياته أكثر من مرة، ويجيب عن أسئلة عبثية، من قبيل: كم مرة تستمع إلى خطاب السيد الرئيس في الإعادة، هل تربي الحمام، ولماذا يحط فوق سطح البيت، وإلى أي مدى تصدق النشرات الجوية، وعلاقته المجنونة بفلليني، ومعرفته بـ«مأمون»، وهو لقب للمخبرين الذين يعملون لصالح الأمن ويدبجون لهم التقارير، وحين يشير إلى أن فلليني «شاعر وليس مخرجا فقط يا سيدي»، يتهم بالكذب، ويوجه إليه السباب والركلات، ويصرخ في وجهه الضابط الكبير الذي يتولى تعذيبه: «مخرج فقط يا حيوان، مقيد في دفاترنا مخرج فقط».
تتسع الهوة في القبو، حيث الأشياء تمتد إلى الأسفل، ولا تستطيع أن ترفع رأسك بعقلانية للسقف، لا أحلام ولا ذاكرة تتشكل في مستوى اليقظة، أو تنبهك إلى فوارق الحضور والغياب، الهوية المظلمة للقبو، بل علة وجوده منزوعة الروح، كل ما هنالك أن تراقب حطامك، وهو ينزلق في هوة إثر أخرى إلى عالم سفلي، لا تعرف متى ينتهي.
يخرج البطل من القبو بعد أن يتم التأكد من براءته، وأنه اعتقل بطريق الخطأ، مكتسبا اسما وهوية مغايرين لوجوده، وإصابات لحقت بجسده وأنفه، لكن في أذنيه لا تزال ترن مشاهد التعذيب أجراسا ثقيلة... يصفها على هذا النحو «لم أكمل جملتي، لا أعرف من أين تأتيني الركلات، ولا كيف دخلت الكهرباء في جسمي، ولا كيف خرجت، ولا كيف أفاقوني، ومتى وإلى أين نحن الآن».
في العيادة، يتسع المشهد قليلا، تنفرط زواياه وتتنوع ببطء، بينما تتكثف حركة اللهاث في الداخل ما بين الرغبة في الانتقام من الجلاد، والواجب القابع في ضمير الطبيب، الذي يقضي بمسؤوليته عن معالجة مرضاه بأمانة وشرف. لكن يعزز من فرصة الانتقام زوجة الجلاد نفسه، التي تريد هي الأخرى أن تثأر لعشرين عاما قضتها في كنف زوج متسلط، يعاشرها بشكل غير إنساني، يصل إلى حد الاغتصاب، كأنها مرآة مهشمة تنعكس في شقوقها صور ضحاياه، من النساء والرجال الذين يعاملهم ويتلذذ بتعذيبهم وكأنهم فئران ضالة، من حقل تجارب السلطة. يلحق بالمشهد نفسه «مأمون»، المخبر الذي وشى على البطل بتقريره الغريب.
يدخل الشيطان على خط اللعبة، ليس طرف نقيض وضد فحسب، بل حيز فارغ، قرينا لزمن مفتت وهارب، من الجلاد والضحية معا، لم تستطع أن تسد فجوته عدسة فلليني، صاحب المقولة الأثيرة «الأحلام آخر ما يموت» التي يعلقها الضحية في عنقه تعويذة ضد الموت والخوف.
وبوازع من الشيطان الذي يتحول فجأة إلى مبعوث للخير، وبرجاءات من فلليني تتراجع فكرة الانتقام لصالح فكرة التسامح لدى كل من الضحية والزوجة، فها هو البطل بعد أن أفاق من لوثة ازدواجية اسمه المصطنعة، يقول فيما يشبه المناجاة الداخلية: «أود لو أرى ما تحت قشرة رأسه، أتحسسها، فحصوا مخ أينشتاين، ولم يفحصوا مخ جلاد. الأفكار الوسخة تنام تحت قشرة الدماغ مباشرة، كما يقول البعض أو يتخيل. لكنني عندما أفقت من صدمة وقوعه في يدي، وبعد أن قررت ألا أقتله أو أعذبه، أصبحت متفائلا بعض الشيء، بدل أن أنتصر عليه انتصرت على نفسي وعلى قهري، وأكاد الآن أصدق ما قاله فلليني، وأمشي معه يدا بيد، خطوة بخطوة».
سوى اسمي البطل وفلليني المخرج الإيطالي الأشهر لا تفصح الرواية عن غالبية أسماء شخوصها، يبدو أنها تتستر عليهم، بصفتها نوعا من الحماية الداخلية من بطش السلطة الغاشمة، التي لا تنسى ثأرها حتى وهي على سرير المرض؛ فالجلاد لا يتخلى عن سطوته وغطرسته، فيقول وهو على كرسيه المتحرك متحديا طبيبه الضحية: «تظن أنك تستطيع الانتقام مني وقتلي أو تعذيبي، أظن أن هذا يرضيك أو يهدهد روحك المتعبة، ويرخي على قلبك السكينة. سكينتي سقطت من يدي، لكن لا تنس شيئا، أنني لست وحدي، خلف ألف سكين ترسانة عمياء لها أنياب وأظافر طويلة، سكاكيننا في كل مكان».
يصعِّد الطويلة من توتر حركة السرد دراميا، متخففا من ثقل ضمائر الحكي، ونبرتها التقليدية المعتادة، وبخاصة ما بين المخاطب والغائب، فيترك الأفق مفتوحا أمام خدعة المونتاج لتتنوع بصريا بنعومة وتلقائية في شريط الزمن الروائي، حتى تبدو الأشياء معقولة في لا معقوليتها، ويعزز ذلك باللجوء إلى لعبة التقمص، حيث يراقب السارد الكاتب بعين متخفية حركة الشخوص، يستبطن شواغلها داخليا وخارجيا، ليتحول النص إلى خشبة مسرح، عليها تتعرى أقنعة الشخوص نفسها، وينكشف صراعها على من يضع اللطشة الأخيرة، من ينهي الفيلم.
في غبار خدعة المونتاج، وبإيقاع مباغت يمزج الفانتازيا بغرائبية ممتعة، ينهي فلليني شوط الرواية الأخير، حيث الجلاد داخل القفص، وجهه يضمر وينكمش في لقطات متتالية، بينما تنهال زوجته عليه بطعنات نافذة، وفلليني يأمرها بأن تعود إلى القفص، وتلقي السكين بلا اكتراث على الأرض.
في تلك اللحظة ينعدل حذاء فلليني المقلوب على صفحة غلاف الرواية، ويتحول القفص إلى معادل رمزي للقبو، لكنه قبو متخيل، في مشهد سينمائي مرسوم بعناية، يمكن الدخول إليه والخروج منه حسبما تقتضي اللعبة.
هكذا، أدار وحيد الطويلة لعبته الروائية بمكر فني رائق، كاسرا إيقاع السرد التقليدي لثنائية الجلاد والضحية، معريا شيطانية القسوة وإغواءاتها الرخوة والوحشية، التي تمارسها الأنظمة المستبدة.



إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

أغلفة روايات القائمة الطويلة
أغلفة روايات القائمة الطويلة
TT

إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

أغلفة روايات القائمة الطويلة
أغلفة روايات القائمة الطويلة

أعلنت الجائزة العالمية للرواية العربية الروايات المرشّحة للقائمة الطويلة بدورتها عام 2025؛ إذ تتضمّن القائمة 16 رواية. وكانت قد ترشحت للجائزة في هذه الدورة 124 رواية، وجرى اختيار القائمة الطويلة من قِبل لجنة تحكيم مكوّنة من خمسة أعضاء، برئاسة الأكاديمية المصرية منى بيكر، وعضوية كل من بلال الأرفه لي أكاديمي وباحث لبناني، وسامبسا بلتونن مترجم فنلندي، وسعيد بنكراد أكاديمي وناقد مغربي، ومريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية إماراتية.

وشهدت الدورة المذكورة وصول كتّاب للمرّة الأولى إلى القائمة الطويلة، عن رواياتهم: «دانشمند» لأحمد فال الدين من موريتانيا، و«أحلام سعيدة» لأحمد الملواني من مصر، و«المشعلجي» لأيمن رجب طاهر من مصر، و«هوّارية» لإنعام بيوض من الجزائر، و«أُغنيات للعتمة» لإيمان حميدان من لبنان، و«الأسير الفرنسي» لجان دوست من سوريا، و«الرواية المسروقة» لحسن كمال من مصر، و«ميثاق النساء» لحنين الصايغ من لبنان، و«الآن بدأت حياتي» لسومر شحادة من سوريا، و«البكّاؤون» لعقيل الموسوي من البحرين، و«صلاة القلق» لمحمد سمير ندا من مصر، و«ملمس الضوء» لنادية النجار من الإمارات.

كما شهدت ترشيح كتّاب إلى القائمة الطويلة وصلوا إلى المراحل الأخيرة للجائزة سابقاً، وهم: «المسيح الأندلسي» لتيسير خلف (القائمة الطويلة في 2017)، و«وارثة المفاتيح» لسوسن جميل حسن (القائمة الطويلة في 2023)، و«ما رأت زينة وما لم ترَ» لرشيد الضعيف (القائمة الطويلة في 2012 و2024)، و«وادي الفراشات» لأزهر جرجيس (القائمة الطويلة في 2020، والقائمة القصيرة في 2023).

في إطار تعليقها على القائمة الطويلة، قالت رئيسة لجنة التحكيم، منى بيكر: «تتميّز الروايات الستّ عشرة التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة هذا العام بتنوّع موضوعاتها وقوالبها الأدبية التي عُولجت بها. هناك روايات تعالج كفاح المرأة لتحقيق شيءٍ من أحلامها في مجتمع ذكوريّ يحرمها بدرجات متفاوتة من ممارسة حياتها، وأخرى تُدخلنا إلى عوالم دينيّة وطائفيّة يتقاطع فيها التطرّف والتعنّت المُغالى به مع جوانب إنسانيّة جميلة ومؤثّرة».

وأضافت: «كما تناولت الكثير من الروايات موضوع السلطة الغاشمة وقدرتها على تحطيم آمال الناس وحيواتهم، وقد استطاع بعض الروائيين معالجة هذا الموضوع بنفَسٍ مأساوي مغرقٍ في السوداوية، وتناوله آخرون بسخرية وفكاهة تَحُدّان من قسوة الواقع وتمكّنان القارئ من التفاعل معه بشكل فاعل».

وتابعت: «أمّا من ناحية القوالب الأدبيّة فتضمّنت القائمة عدّة روايات تاريخيّة، تناول بعضها التاريخ الحديث، في حين عاد بنا البعض الآخر إلى العهد العبّاسيّ أو إلى فترة محاكم التفتيش واضطهاد المسلمين في الأندلس. كما تضمّنت القائمة أعمالاً أقرب إلى السيرة الذاتيّة، وأخرى تشابه القصص البوليسيّة إلى حدّ كبير».

من جانبه، قال رئيس مجلس الأمناء، ياسر سليمان: «يواصل بعض روايات القائمة الطويلة لهذه الدورة توجّهاً عهدناه في الدورات السابقة، يتمثّل بالعودة إلى الماضي للغوص في أعماق الحاضر. لهذا التوجّه دلالاته السوسيولوجية، فهو يحكي عن قساوة الحاضر الذي يدفع الروائي إلى قراءة العالم الذي يحيط به من زاوية تبدو عالمة معرفياً، أو زاوية ترى أن التطور الاجتماعي ليس إلّا مُسمّى لحالة تنضبط بقانون (مكانك سر). ومع ذلك فإنّ الكشف أمل وتفاؤل، على الرغم من الميل الذي يرافقهما أحياناً في النبش عن الهشاشة وعن ضراوة العيش في أزمان تسيطر فيها قوى البشر على البشر غير آبهة بنتائج أفعالها. إن مشاركة أصوات جديدة في فيالق الرواية العربية من خلفيات علمية مختلفة، منها الطبيب والمهندس وغير ذلك، دليل على قوّة الجذب التي تستقطب أهل الثقافة إلى هذا النوع الأدبي، على تباين خلفياتهم العمرية والجندرية والقطرية والإثنية والشتاتية». وسيتم اختيار القائمة القصيرة من قِبل لجنة التحكيم من بين الروايات المدرجة في القائمة الطويلة، وإعلانها من مكتبة الإسكندرية في مصر، وذلك في 19 فبراير (شباط) 2025، وفي 24 أبريل (نيسان) 2025 سيتم إعلان الرواية الفائزة.

ويشهد هذا العام إطلاق ورشة للمحررين الأدبيين تنظّمها الجائزة لأول مرة. تهدف الورشة إلى تطوير مهارات المحررين المحترفين ورفع مستوى تحرير الروايات العربية، وتُعقد في الفترة بين 18 و22 من هذا الشهر في مؤسسة «عبد الحميد شومان» بالأردن.