سيكولوجية «حرامي الأدب» وسارق الأفكار

الاضطراب النفسي عامل مشترك بين من يقدمون عليها

سيكولوجية «حرامي الأدب» وسارق الأفكار
TT

سيكولوجية «حرامي الأدب» وسارق الأفكار

سيكولوجية «حرامي الأدب» وسارق الأفكار

طرق أحد أقاربنا الباب بقوة، صارخاً: «الحق يا جِد، الواد حلب النخلة». الساعة تجاوزت منتصف الليل، وجميعنا ننام مبكرا خصوصا جدي الذي يصحو عادة قُبيل الفجر ليصلي بأهل القرية إماماً.
جسد الشاب القصير النحيل ذي الشعر المجعد، لم يزل معلقاً على النخلة حين ركض جدي ونحن وراءه صغارا وكبارا خوفا من أن يكون الأمر أكبر من مجرد «سرقة بلح» فالصعيد في تلك الفترة وفي بعض أوقات السنة لا يكون آمنا تماما بسبب مسألة «الثأر». كان قريبنا عائدا من سقاية أرضه مارا بحديقتنا، فسمع خشخشة بين السعف وصوت البلح يقع في القفص، فقرر الانتقام من الشاب، خاصة أنها ليست المرة الوحيدة، فمن قبل تم ضبطه وهو يسرق العنب وقد عبأ منه أربعة أقفاص كبيرة، وكانت «عنباية» جدي معروفة بحلاوتها وكثافة إنتاجها، وبسبب بكاء أمه، غفر له جدي وأعطاه ما سرق، وحين اعترضنا وأردنا أن يترك لنا العنب ويمشي إلى حال سبيله، قال جدي: «خلاص طالما عينه راحت للعنب خليه يا خده».
ضرب أحد أعمامي «عياراً» في الهواء ليهدد الولد المتشبث بـ«جريد النخلة» حتى ينزل على الأرض، سمعت أمه صوت الطلقة، فأتت تجري كأنها تعلم بأمر ابنها. حاولت التوسل لجدي لكننا صممنا على العقاب وإبلاغ «النقطة»، قال عمي: «لو فلتناه مرة تانية، يمكن يقول دي نخلتنا وزرعناها في أرض فرغلي!». لكن مرة أخرى يصر جدي بشدة على أن يجعله وأمه يحملان البلح على رأسهما ويرجعان إلى البيت. كان جدي صوفياً حكيماً ذا هيبة وكلمة مسموعة يُرجع إليه في كبرى قضايا القرية والحكم بين الناس، قال: «اللي ما ترجعهش الرباية، وما يرجعش حتى إن قطعت إيده، يكفيه إنه شايل فضيحته على راسه وماشي والناس عارفين». كنتُ طفلة وقتذاك لكن الواقعة علقت بذاكرتي، أعجبني عقاب جدي لهما، فليس دائما ينصفنا القانون!
اليوم قررت أن أفعل مثل عمي وأضرب «عياراً» في الهواء وأتأسى بجدي ضد من سرق نصوصي ومقالاتي، وكل سارق لنصوص غيري أيضاً. أتناول مشكلة منتشرة قد لا يجدي معها فضح الأسماء بقدر جدوى مناقشتها على أساس سيكولوجي، يوضح لنا شخصية «حرامي الأدب» وتكوينه النفسي. تلك المشكلة التي أشار إليها النقاد والعلماء منذ أرسطو، التي ربما لا أستطيع أن ألملم خيوطها في مقال، لكنه مجرد تنويه قد «يخزي عين» سُرّاق أفكار الآخرين.
لماذا يقع أشخاص في فخ سرقة غيرهم، خصوصا في هذا العصر الذي أصبح مفتوحاً لدرجة يتعذر معها أن يهرب السارق بسرقته من دون أن يعلم أحد وتتحول إلى فضيحة سرية أو علنية؟!
هل السارق لجهد غيره، هو، دائما، شخص فارغ فكرياً وخال من الموهبة؟ أم أن للموضوع بُعدا نفسيا حتى ولو كان على قدر من الإبداع أو المكانة العلمية؟ كما نعلم، لم يسلم من السرقات الأدبية حتى كبار المبدعين، منذ العصور القديمة إلى الآن، في كل مجالات الإبداع. فهي كما وصفها القاضي الجرجاني: «داء قديم وعيب عتيق». ومن أشهر وأقدم القضايا الجدلية في هذا الجانب، ما دار حول أصالة قصة «روميو وجوليت» لشكسبير، ما دعا البعض إلى القول، إن شكسبير لم يكن مبدعاً لها وإنما مبتدعاً. وفي مجال الشعر، توجد نقاشات طويلة ورؤى نقدية متكررة حول السرقات الشعرية منذ قرون.
وبغض النظر عن كون من يقوم بالسرقة موهوباً أم عديم الموهبة، فهو إنسان، والاضطراب النفسي هو العامل المشترك، خصوصا في حال تكرار السلوك، ومن دوافعه:
- وقوع «اللص الأدبي» في دائرة المرضى بهوس السرقة المعروفة علمياً باسم kleptomania، الذي يصيب نحو 0.3 في المائة إلى 0.6 في المائة من الناس. وهو سلوك اندفاعي منحرف، يشعر المريض معه، بدافع قهري للسرقة، مصحوبا بحالة قلق وصراع بين أن يفعل أو لا يفعل. ويقوم بفعل السرقة بوعي كامل للتخفيف من هذا التوتر والشعور بالرضا، وغالبا ما يشعر بالنشوة واللذة بعدها. وقد لاحظت من خلال خبرتي العلاجية، أن مرضى هوس السرقة، غالبا ما يكون لديهم اضطرابات أخرى، وبخاصة في سلوكهم المجتمعي والجنسي، مثل التحرش، أو الإدمان، أو الكذب، أو نوع آخر من السرقة أو الرشوة.
- تدني الثقة بالنفس، وعدم الإحساس بجدوى ما يمتلكه من قدرات أو مكانة أو أموال، (أو ربما افتقاد كل ذلك)، يولد لديه رغبة عنيفة في سرقتها من غيره لتكون ملكه، ظنا منه أنها تكسبه قيمة.
- إذا كان «الخوف من الرفض» هو الخوف الأول عند المرأة، فإن «الخوف من الفشل» أو عدم التحقق، هو الخوف الأكبر عند الرجل، وبالتالي السارق يريد تجاوز هذا الألم النفسي ليحقق نجاحاً وإن كان مسروقاً.
- ولا تخلو السرقة من العدوان النفسي على الشخص المسروق منه، وبالتالي سلبه بعض ما يمتلك.
- السرقة هنا تشير في المقام الأول، إلى سرقة الاهتمام والحب والاحتفاء الذي ربما يتصور الشخص أنه يفتقده، أو أن الآخر يحظى به أكثر منه.
- النرجسية وتضخم الذات، تجعل لدى صاحبها رغبة في امتلاك «كل» شيء؛ «كل السلطة»؛ «كل الأفكار»؛ «كل المال»؛ «كل الاهتمام»؛ «كل الكتب». ومن هنا، يستكثر على غيره امتلاك فكرة أو شيء هو عاجز عن إنتاجها، فيلجأ إلى سرقتها.
- لا يصدّق البعض أنه سارق. ومع مرور الوقت على الإعجاب بالشيء المسروق وانتمائه له، يصدق أنه مالكه فعلا، ويدافع عنه «بصدق وهمي» يشبه ضلالات المرض النفسي، حيث جرى خداع العقل من خلال معايشة فكرة الملكية.
ويعتمد لصوص الأدب على عدم وجود قانون صارم وحاسم للسرقات الأدبية، وعلى جهل معظم الناس بالمقارنة أو قراءة كل المكتوب. وربما يطبع السارق وينشر ما قام بسرقته قبل صاحبه الأصلي. فإلى أي معيار سوف يحتكم الضحية؟! وماذا لو كان اللص ذا منصب أو شهرة، يحتمي بأحدهما أو كليهما، مستغلا نزعة الناس نحو تقديس ذوي القوة والخوف من التجرؤ على مواجهتهم، بالإضافة إلى المصالح الخاصة والشللية التي تلعب دورا جوهريا في التستر وعدم الفضح.
غير أن لص النصوص والأفكار، غالبا ما يترك خلفه ما يؤدي إلى كشفه، كأن إحساسا ما بالذنب يؤرقه. لذلك، فهو يسرق حرفياً وهو يعلم أن أحدا في أيامنا هذه، لن يعدم اكتشاف سرقته. وربما يصب هذا، في مطالبته اللاشعورية بالعقاب. ومع ذلك، وعلى الرغم من العقاب الفاضح أحيانا، فإنه لا يكف عن هذا السلوك، وكأنه يدور بنفسه في دائرة مفرغة، بين السلوك القهري والشعور بالذنب الذي يعقبه.
* استشارية علاج نفسي



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟