«أسبوع آلام»... مصري

«داعش» يفسد فرحة الأقباط بالعيد

«أسبوع آلام»... مصري
TT

«أسبوع آلام»... مصري

«أسبوع آلام»... مصري

تمكنت الشرطة المصرية، سريعاً، من تحديد هوية منفذي جريمتي تفجير كنيستين في طنطا والإسكندرية. وظَهرَ من أسماء المُنَفذَين ومن عاونهما أن تنظيم داعش، الذي كانت معظم عملياته تقتصر على سيناء، بدأ ينطلق من الصعيد في جنوب البلاد، ويستهدف الأقباط في منطقة الدلتا شمال القاهرة.
وقع تفجيرا الكنيستين اللذان راح ضحيتهما 45 قتيلا وعشرات الجرحى، يوم الأحد الماضي، أي في بداية «أسبوع الآلام» عند المسيحيين، الذي ينتهي يوم غد، الأحد أيضا. إلا أن الكنائس المصرية، وسط حالة عامة من الحزن والغضب والحداد، قررت جميعا الاكتفاء بأداء الصلوات بداية من مساء اليوم (السبت) وإلغاء مظاهر الاحتفال، على أن يقتصر يوم غد على فتح أبواب الكنائس لاستقبال المعزّين في ضحايا الحادثين. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الكنائس المصرية التي تقرر فيها إلغاء الاحتفال بأحد الأعياد منذ مئات السنين.
على الرغم من اختلاف الظروف المحيطة بعلاقة الأقباط بالنظام السياسي للدولة المصرية في عهدي الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، فإن التفجيرين الأخيرين اللذين استهدفا كنيستين في مدينتي طنطا والإسكندرية، وما سبقهما بأسابيع من حوادث مشابهة في القاهرة وسيناء، يمثلان تحديا كبيرا للرئيس عبد الفتاح السيسي، بينما تعاني مصر أزمة اقتصادية حادة وتهديدات إرهابية منذ الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي في عام 2013.
مرت سبع دقائق كأنها دهرٌ على كبار الرجال المحيطين بالرئيس السيسي؛ إذ كان لا بد من التأكد من سلامة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية. ولقد كان أعلى رمز ديني للأقباط المصريين داخل البلاد وخارجها، يحضر قداس أحد الشعانين بمقر الكنيسة المرقسية في الإسكندرية، التي جرى تفجيرها بعد قليل من تفجير كنيسة مار جرجس في مدينة طنطا، عاصمة محافظة الغربية (نحو 100 كيلومتر شمال القاهرة).
هاتف البابا لا يرد... وكذلك هواتف سكرتيره وهواتف مساعديه ترن ولا تجيب. ثم أخيرا تنفس الجميع الصعداء: البابا بخير، وغادر الإسكندرية في طريقه إلى دير في وادي النطرون. إنه الدير الذي كان يقيم فيه قبل أن يتولّى موقعه خلفا للبابا الراحل شنودة. ويقع هذا الدير، المعروف باسم دير الأنبا بيشوي، على بعد نحو 100 كيلومتر شمال غربي القاهرة على الطريق الصحراوي، الذي يربط العاصمة بالإسكندرية. وهنا يعلق مسؤول أمني قائلا: «لو كان قد حدث مكروه للبابا تواضروس في حادث الكنيسة المرقسية، لانقلبت الدنيا رأسا على عقب».
وربما كان هذا أحد أسباب الشعور بالحزن العميق، ليس لدى الأقباط فقط، لكن في أوساط المصريين عامة.

ماذا حدث بالضبط؟
حدثت الأمور بالطريقة التالية - كما يرويها مصدر أمني: «بعد التفجير الأول في كنيسة طنطا، صدرت تعليمات سريعة بضرورة تشديد الإجراءات على جميع الكنائس. وفي الإسكندرية كان أحد كبار رجال الأمن قد لاحظ أن بوابة الكشف عن المعادن والمتفجرات، موجودة بعد مدخل الكنيسة وليس على بابها الخارجي، فأصدر تعليمات بنقلها من مكانها لكي تكون بعيدة عن المحيط الداخلي للمبنى».
ويضيف: «تحريك البوابة الإلكترونية من مكانها، قلّل من عدد الضحايا في كنيسة الإسكندرية وجنّب البلاد كارثة؛ إذ كان البابا تواضروس ما زال في الداخل مع المصلّين. وبعد الحادثين مباشرة ترأس الرئيس السيسي اجتماعا لمجلس الأمن الوطني. وظهر عقب الاجتماع أمام كاميرات التلفزيون وهو غاضب. ودعا، في كلمات حادة، المجتمع الدولي، إلى محاسبة الدول التي تدعم الإرهاب، مطالبا المصريين بالصمود».
ومن ثم، أعلن الرئيس فرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة شهور، وتشكيل مجلس أعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف، والعمل على ضبط الموقف على المناحي الإعلامية والقضائية والقانونية كافة، وما يتعلق بالخطاب الديني، لمجابهة التطرف. وقال: «لقد نجحنا في سيناء، فتحرك الإرهابيون إلى منطقة أخرى، وحين سنحكم السيطرة عليها، سينتقلون إلى أخرى، وهكذا». وشدد على قدرة المصريين على الصمود وهزيمة الإرهاب في نهاية المطاف.

إلى وادي النطرون
من جانبه، توجه البابا تواضروس عقب تفجيري الأحد الماضي مباشرة، إلى دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون، الذي كان البابا الراحل شنودة يلجأ إليه حين كان يتعرض الأقباط إلى هجمات إرهابية، كما كان يحدث في العقود الماضية. وفعلاً، لم يظهر البابا تواضروس في باقي يوم الأحد، ولم يظهر أيضاً يوم الاثنين. وأخذت الشكوك تحيط بمسألة عقد الاحتفال بـ«عيد القيامة» (أحد أهم عيدين عند مسيحيي العالم مع «عيد الميلاد») الذي كان مقرّراً إقامته يوم غد في مقر الكاتدرائية في ضاحية العباسية بالقاهرة.
وبالتزامن مع ذلك، اتسعت دائرة القلق بشأن ما يجري في أوساط المصريين. وبينما كان المتبرّعون بالدم، من المسلمين والمسيحيين، يتزاحمون على المستشفيات، حيث يعالج عشرات المصابين، ظهرت دعوات بنقل الاحتفال بـ«عيد القيامة» إلى وادي النطرون، واضطر قادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي يرأسها البابا تواضروس، إلى عقد اجتماعات وإجراء اتصالات لبحث ما يجري. كذلك، باشرت أجهزة الدولة في اتخاذ إجراءات لطمأنة الشارع. وظهر رجال الشرطة العسكرية إلى جانب دوريات الشرطة. وقررت الكنيسة إلغاء الاحتفال من الأصل، وتضامنت معها الكنيستان القبطية الكاثوليكية والإنجيلية، على أن تقتصر فعاليات يوم غد (الأحد) على أداء الصلوات، وتقبّل التعازي.

المسيحيون في مصر
يشكل المسيحيون في مصر نحو 10 في المائة من عدد السكان الذي يبلغ نحو 100 مليون نسمة، بينما تصل تقديرات أخرى بالنسبة إلى 15 في المائة. وكان المجتمع المصري قد تعرض لصدمة مماثلة حين وقع في ديسمبر (كانون الأول) الماضي تفجير في مقر الكنيسة البطرسية الملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس في وسط القاهرة؛ ما أدى إلى مقتل 29، معظمهم من النساء. وأعقب ذلك إقدام تنظيم داعش المتطرف الإرهابي في شبه جزيرة سيناء باستهداف أسر مسيحية عدة بالقتل؛ ما اضطر بعض الأسر الأخرى إلى الهجرة خارج المحافظة.
وخلال حوار مع «الشرق الأوسط»، كان الحزن يخيم على القس عيسى داود، راعي كنيسة النعمة الإنجيلية في محافظة المنيا، إلى الجنوب من القاهرة. قال القس إن الكنائس «قررت بالفعل إلغاء الاحتفالات. كيف نحتفل وسط كل هذه الدماء؟ الناس لديها احتجاج عام. هناك حالة حزن، ولدى الناس شعور بالتقصير الأمني». ووسط مشاعر مختلطة ما بين الشكوك واليقين، عاد القس داود ليوضح أن رجال الشرطة ضحّوا بأرواحهم وهم يمنعون الانتحاري من الوصول إلى داخل الكنيسة المرقسية بالإسكندرية.
من ناحية أخرى، يبدو أن إلغاء الاحتفالات بـ«عيد القيامة» كان خيارا أفضل من ذلك الذي اقترحه البعض داخل الكنيسة بنقل القداس والاحتفالات إلى وادي النطرون؛ لأن هذا الأمر كان سيُفسَّر على أنه غضب مسيحي من الدولة، مذكراً بسنوات الخلافات بين البابا شنودة وكل من الرئيسين أنور السادات في السبعينيات وحسني مبارك فيما بعد. ويتحدث كثرة من رجال الدين المسيحي والمفكّرين عن أن الأمر مختلف اليوم: «لأن الإرهاب هذه المرة موجّه ضد الدولة ككل، وليس ضد المسحيين فقط».
مع هذا، فإن الحالة العامة في أوساط المسيحيين أكثر سخطا على الأوضاع مما تبدو عليه في المحافل الرسمية؛ إذ أدى تفجيرا الكنيستين إلى ارتفاع لغة الغضب والشعور بوجود استهداف ليس فقط بالأعمال التخريبية، لكن من خلال ما يوصف بـ«الخطاب التحريضي».
وأمام بوابة الكاتدرائية في القاهرة، وقف جمعٌ من الفتيات والشبان المسيحيين وقد سيطرت عليهم حالة من الغضب. وقال جورج (23 سنة) إنه فقد إحدى قريباته في التفجير الذي وقع بالقرب من الكاتدرائية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وأضاف: «في كل مرة نصلي أو نحتفل نفقد أعزاء لنا. متى ينتهي هذا الكابوس؟».
وتولت الكلام فتاة تدعى ميريت (19 سنة)، فقالت إن «المناخ العام يسوده خطاب معاد للمسيحيين... في الجامعة يوجد متعصّبون يدعون إلى عدم الاختلاط بنا أو السلام علينا أو التهنئة بأعيادنا. هذا أمر غريب».
إلا أن جمال، الطالب في جامعة عين شمس، ويبلغ من العمر 18 سنة، قال: «إن من ينشر الفرقة بين المسيحيين والمسلمين قلة». وتحدث عن أصدقائه وجيرانه من المسلمين الذين يشاركونه وأسرته في المناسبات الاجتماعية والدينية المختلفة، قائلا: «في الأعياد يقولون كل عام وأنتم بخير.. وفي خطبة أختي قدموا لنا الهدايا، نحن مصريون، ومن يشيع الكراهية بيننا قلة».

ساعات خشوع
في هذه الساعات، يستعد المسيحيون المصريون للدخول في حالة من الخشوع داخل الكنائس. ولن يكون هناك توزيع للحلوى والهدايا على الأطفال أو إطلاق الزينات، كما كان يحدث في أعياد السنوات السابقة، وذلك تعبيرا عن حالة الحزن. وسيكتفي مرتادو الكنائس بأداء طقوس الصلوات، واستقبال المعزين من الطوائف المصرية المختلفة. وعن هذا الحال يقول القس داود «لدينا شعور حقيقي بأن الرئيس عبد الفتاح السيسي يبذل كل ما في وسعه من أجل منع وقوع مثل هذه الحوادث». ويضيف أن إقامة البابا في وادي النطرون ليومين «لا أعتقد أنها تحمل أي رسالة للقيادة السياسية في البلاد. فالرئيس تضامن مع القضية بكل الأشكال، واتخذ إجراءات مشددة لحماية الكنائس، وفرض حالة الطوارئ». بينما يشير المفكّر المصري، جمال أسعد، قائلا لـ«الشرق الأوسط» إنه لم يسبق إقامة القداس في وادي النطرون.
وتجدر الإشارة إلى أنه يطلق على يوم الأحد الذي وقعت فيه التفجيرات «أحد الشعانين»، ويعد «الأحد السابع» من الصوم الكبير الذي يستمر نحو شهرين، قبل «عيد القيامة». كما يطلق على الأسبوع الذي يبدأ به هذا اليوم «أسبوع الآلام»، في إشارة إلى ذكرى دخول السيد المسيح إلى مدينة القدس. ولقد ظهر البابا تواضروس لأول مرة، بعد تفجيري الكنيستين، حين استقبل في وادي النطرون يوم الثلاثاء الماضي، وفدا من الفاتيكان كان ينقل له تعازي البابا فرنسيس، الذي يعتزم القيام بأول زيارة له لمصر يوم 28 من الشهر الحالي، وهي زيارة مقررة سلفاً منذ ما قبل أحداث التفجيرات.
ثم ظهر البابا تواضروس يوم الخميس الماضي وهو يستقبل الرئيس السيسي، في مقر الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة. وجاء الرئيس لتقديم التعازي في ضحايا الحادثين، وأكد أن أجهزة الدولة كافة تبذل أقصى ما في وسعها لملاحقة مرتكبي تلك الأفعال الآثمة، وتقديم كل من شارك فيها للعدالة في أسرع وقت. وفي المقابل، أعرب البابا عن شكره لحرص الرئيس على زيارة الكاتدرائية. وأكد أن الإرهاب لن ينجح في شق صف المصريين، أو النيل من وحدتهم واستقرارهم. ثم أردف إن «الوحدة والمحبة بين أبناء الوطن هي السبيل الوحيد الذي يكفل سلامة مصر والقضاء على الإرهاب». ومن جانبه، أعلن الجيش المصري أنه سيتولى ترميم الكنيستين، وفقا لما أعلنه الناطق باسم وزارة الدفاع المصرية، العقيد أركان حرب تامر الرفاعي.
في الواقع، يمثل حادثا كنيستي طنطا والإسكندرية تحديا للرئيس السيسي الذي يسعى إلى إنعاش الاقتصاد وبسط الاستقرار، بعد سنوات من الاضطرابات التي بدأت منذ 2011، وكبدت البلاد خسائر بمليارات الدولارات. ويحاول السيسي التغلب على مصاعب مصر الاقتصادية، من خلال إطلاق الكثير من المشروعات الكبرى، والقيام بزيارات خارجية لبث الطمأنينة في مستقبل البلاد، مع سعي السياسة المالية للدولة إلى زيادة معدل النمو إلى 5.5 في المائة في السنة المالية 2018 - 2019 مقارنة مع 4.8 في المائة متوقعة في السنة المالية المقبلة، وفقا لبيان لوزير المالية. لكن فرض حالة الطوارئ ربما يسهم في عرقلة مثل هذه الطموحات.
هذا، ووافق البرلمان، بالإجماع، على إعلان حالة الطوارئ، منذ الثلاثاء الماضي، رغم ردود الفعل المتباينة بشأن قدرة مثل هذا الإجراء على منع الهجمات الانتحارية، غير أن حالة الطوارئ تمنح الحكومة سلطات واسعة للتحرك ضد «أعداء الدولة»، حيث قال رئيس الوزراء، شريف إسماعيل: إن خطوة إعلان الطوارئ ضرورية من أجل هزيمة الجماعات الإرهابية التي تسعى لهدم البلاد.
ومع أن قانون الإرهاب المعمول في مصر منذ 2015، يغلظ العقوبات في قضايا الإرهاب لتصل إلى الإعدام، ويشدد العقوبات في مسائل النشر، سواء بواسطة وسائل الإعلام أو الإنترنت، فإن قانون الطوارئ يمنح - من جانبه - صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية، ويسمح لها بإغلاق شركات وصحف ووسائل إعلام ومنع المظاهرات ومراقبة الاتصالات الشخصية من دون إذن قضائي. وجرى قبل يومين تعطيل صدور عددين من إحدى الصحف الخاصة.
وبعكس الموجات الإرهابية، ذات الطابع المحلي، التي بدأت في أواخر سبعينات القرن الماضي وانتهت بمقتل السادات عام 1981، وبخلاف طبيعة العمليات المسلحة ضد الأقباط والسياح في عهد مبارك، وبخاصة في فترة التسعينات، ينظر الكثير من المصريين، بمن فيهم السيسي، اليوم، إلى النشاط الإرهابي الحالي باعتباره «نشاطا عابرا للحدود»، ويستهدف الجميع وليس المسيحيين فقط.
كما أن الرئيس نفسه أشار في غير مناسبة إلى ضلوع دول في تمويل النشاط الإرهابي ضمن حالة من العداء للدولة المصرية، ودول أخرى في المنطقة. ودعا المجتمع الدولي إلى التحرك لمواجهة هذا الخطر، حين ألقى كلمة بهذا الشأن يوم الأحد الماضي. وسبق للرئيس أن لمّح إلى التعاون العابر للحدود الذي يحظى به الإرهابيون، وذلك عقب تفجير الكنيسة البطرسية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وشنت مصر غارة حربية على مقار لـ«داعش» قرب مدينة درنة الليبية، حين قتل التنظيم المتطرف، قبل سنتين، 21 مصريا مسيحيا كانوا يعملون في ليبيا.
وعقب الإطاحة بحكم مرسي، المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، قال الدكتور محمد البرادعي، على هامش حوار أجرته مع «الشرق الأوسط» حين كان نائبا للرئيس المصري المؤقت وقتذاك، عدلي منصور: إن عدد العناصر المتطرفة في سيناء يبلغ 12 ألفا من المصريين والأجانب. وأيا ما كان الأمر، فإن مصر، مثلها مثل دول ما يعرف بـ«الربيع العربي» شهدت منذ عام 2011 عودة كبيرة لألوف عدة من المتطرفين الذين كانوا يشاركون في القتال في المناطق الملتهبة في العالم، من أفغانستان إلى باكستان ومن العراق إلى الشيشان، غيرها.
وبمجرد الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق مبارك، عادت إلى مصر جماعات من المتطرفين، من بينهم محكوم عليهم بالإعدام وبالسجن المؤبد، ومن بينهم أيضا قادة كانوا قد فرّوا من أفغانستان ولجأوا إلى الإقامة لبعض الوقت في إيران. كما أدى حكم جماعة الإخوان في عهد مرسي، إلى نشاط واسع وحضور للجماعات المتشددة، كان أبرزها تعيين إدارة مرسي محافظاً لمحافظة الأقصر السياحية ينتمي إلى جماعة متهمة بتدبير قتل سياح أجانب أثناء زيارتهم للمعالم الأثرية في المحافظة نفسها عام 1996.
وبعد إزاحة حكم مرسي فرت أعداد كبيرة من عناصر الجماعات المتطرفة إلى سيناء وإلى دول مضطربة مثل سوريا وليبيا. وجرى تحميل جانب من المسؤولية عن الإطاحة بحكم مرسي، للمسيحيين في مصر، وفقا لبيانات أصدرتها تنظيمات متطرفة. وبعدها بدأت الحرب ضد السلطات انطلاقا من سيناء، وتمكنت قوات الجيش التي انتقلت إلى هناك، من إرهاق المتشددين وقتل الكثير منهم؛ ما أدى إلى فرار بعضهم إلى خارج البلاد، بينما نقل البعض الآخر عملياته إلى القاهرة والدلتا.
وفيما يبدو أنه تحول جديد في تكتيكات «داعش»، الذي أعلن مسؤوليته عن التفجيرات التي جرت منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي حتى يوم «أحد الشعانين»، لفتت بيانات الشرطة المصرية، الانتباه إلى أن معظم عناصر الخلايا التي نفذت العمليات الأخيرة، تنتمي إلى محافظة قنا (نحو 600 كيلومتر جنوب القاهرة). وتمكنت وزارة الداخلية المصرية عقب التفجيرات بيومين من تحديد هوية منفذي العمليتين، وبدأت في تمشيط مناطق جبلية قرب محافظة قنا في الصعيد، وفي مواقع أخرى في البحر الأحمر والسويس المجاورة لسيناء، بالإضافة إلى القاهرة نفسها. وشددت الإجراءات على الحدود البرية، وبخاصة تلك الملاصقة لليبيا.
ومعظم الأسماء الـ19 المتهمة في تفجير الكنيستين، التي أوردتها بيانات وزارة الداخلية، من مواليد محافظة قنا، ومن مواليد عقد الثمانينات. وألقي على ثلاثة متهمين منهم بالفعل. وردت قيادات المحافظة من قبائل ونواب في البرلمان ووجهاء بالتبرؤ من مرتكبي ما وصفوه بـ«العمل الإرهابي الخسيس الذي وقع في الكنائس».



جبهة لبنان: المُسيَّرات الهجومية عنوان «معركة الاستنزاف»

قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
TT

جبهة لبنان: المُسيَّرات الهجومية عنوان «معركة الاستنزاف»

قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)

رفعت إسرائيل من وتيرة عملياتها في العمق اللبناني، مستهدفةً بشكل ممنهج مواقع لـ«حزب الله»، ومنفّذة عمليات اغتيال طالت قادة ميدانيين، في حين يردّ الحزب بضرب مواقع إسرائيلية ذات بُعد استراتيجي. أما القاسم المشترك بين الطرفين فيتمثّل باستخدامهما أسلحة جديدة أبرزها المُسيَّرات الهجوميّة التي باتت وسيلة فاعلة على الجبهتين، وعنوان «معركة الاستنزاف» المستمرّة منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. يتمسّك «حزب الله» حتى الآن بقواعد الاشتباك، وعدم تغيير ظروف اللعبة تجنباً لحربٍ واسعة تريدها إسرائيل وتسعى لاستدراجه إليها، بينما تُوسّع تل أبيب دائرة استهدافها العمق اللبناني ويشّن طيرانها الحربي غارات تطول معظم بلدات الجنوب وأطراف مدينة صيدا وصولاً إلى البقاع الذي يشكل امتداداً لبيئة الحزب، وقد أسفرت غارة إسرائيلية قبل يومين على منطقة الزهراني في قضاء صيدا، عن مقتل عنصر في الحزب وطفلين سوريين، كما كثّفت غاراتها على بلدات جنوبية منها النجارية والعدوسيّة القريبتين من مدينة صيدا البعيدة جداً عن الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.

في حين نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤولين عسكريين قولهم إن إيران نقلت وسائل دفاع جوي متقدمة لـ«حزب الله»، مستندين في ذلك إلى صور من موقع عسكري هاجمه الجيش الإسرائيلي، أدخل «حزب الله» في المقابل أسلحة جديدة على المعركة لإظهار قدراته القتالية، ومحاولة خلق «توازن رعب» جديد مع إسرائيل.

وفي هذا الإطار أعلن الحزب عن «تنفيذ عملية بواسطة مُسيَّرة هجوميّة مسلّحة مزوّدة بصاروخين من طراز (إس – 5) على موقع عسكري في المطلة بأقصى شمال شرقي إسرائيل، قبل أن تنفجر». وأيضاً نشر مقطع فيديو يوثّق تحليق المُسيَّرة باتجاه الموقع حيث توجد دبابات ولحظة إطلاقها الصاروخين ثم انفجارها.

دخول الأسلحة الجديدة على المعركة لا يعني بالضرورة أن الحزب يهيئ الأرضية لفتح جبهة الجنوب على امتدادها، بقدر ما هو توجيه رسائل إلى الجانب الإسرائيلي تفيد بأن المغامرة العسكرية ستكون أثمانها مكلفة جداً.

وهنا أشار الدكتور رياض قهوجي، مدير مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري والخبير في شؤون الأمن والتسلّح، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «حزب الله لم يستخدم كل أسلحته منذ البداية، بل آثر أن يرسم لنفسه قواعد الاشتباك المناسبة، ويحصر عملياته العسكرية ضمن جبهة معينة مع إسرائيل».

ولفت قهوجي أيضاً إلى أن الحزب «لا يزال يعتمد على صواريخ (كاتيوشا) و(غراد) إلى جانب صاروخ أطلق عليه اسم (البركان) هو عبارة عن صاروخ (غراد) معدّل برأس أكثر قوّة». ووفق قهوجي فإن «استخدام الحزب الأسلحة التكتيكية، أي الصواريخ المضادة للدروع مثل (كورنيت)، تبقى استراتيجية أكثر فاعلية، لأن الضرر الذي ينجم عن (كاتيوشا) و(غراد) محدود الفاعلية، بالنظر إلى امتلاك إسرائيل قبّة حديدية قادرة على تدمير هذه الصواريخ في الجوّ».

المُسيَّرات الانقضاضيّة

في هذه الأثناء، يواظب «حزب الله» على تصوير عملياته التي تستهدف مواقع إسرائيلية قريبة من الحدود اللبنانية، لسببين:

الأول، إظهار قدرته أمام جمهوره وبيئته على إلحاق الخسائر بالعدو والردّ على الاغتيالات التي تطول قيادييه وكوادره.

والثاني، التأثير النفسي على الجانب الإسرائيلي. وكان الحزب قد أعلن أخيراً «استهداف نقطة تموضع واستقرار لجنود العدو في موقع رويسة القرن في مزارع شبعا اللبنانية بصاروخ موجّه». وذكر في بيان له أن العملية «حققت إصابات مباشرة، مما أدى إلى اشتعال النيران فيها في الموقع المذكور».

ضمن هذا السياق، لا يُخفي رياض قهوجي أن «استخدام الحزب الصواريخ الموجَّهة والطائرات المُسيَّرة الانقضاضية أو الانتحارية، نجح في إيقاع إصابات في صفوف الجنود الإسرائيليين... وكلما اقترب الهدف من الحدود اللبنانية قلّت قدرة إسرائيل على اعتراض مُسيَّرات وصواريخ الحزب وإسقاطها».

تشييع عباس شومان أحد عنصر "حزب الله" (رويترز)

عمليات مركّبة

في المقابل، فرض تفوّق الجيش الإسرائيلي، خصوصاً في سلاح الجوّ والدفاعات الجوية، على «حزب الله» تكتيكات معيّنة، فبدأ الأخير استخدام الطائرات المُسيَّرة بشكل منسق مع الصواريخ الموجهة، في ممارسة أطلق عليها تسمية «العمليات المركّبة».

وعودة إلى رياض قهوجي، فإن «العنوان الأساسي للمعركة الحالية هو الاستنزاف، لأن الحزب لم يتوقّع أن تستمر هذه الحرب لسبعة أشهر». وهنا قدّم الخبير الاستراتيجي اللبناني مقاربة مختلفة لرؤية إسرائيل لهذه الحرب، إذ شدّد على أن الجيش الإسرائيلي «ألغى قواعد الاشتباك وأزال الحدود أمام عملياته، مستخدماً قدراته وتفوّقه الجوّي... وهو ينجح بالاستهداف النوعي ويختار أهدافه عبر اغتيال قادة ميدانيين وكوادر أساسية في الحزب ذات خبرة قتالية عالية وواسعة، بالإضافة لاستهدافه مخازن أسلحة ومواقع سيطرة، فضلاً عن تدمير بلدات وقرى تشكِّل البيئة الحاضنة للحزب، من أجل زيادة الضغط عليه». ثم أردف: «لا شك في أن الجانب الإسرائيلي يستخدم جميع أنواع الأسلحة ضمن استراتيجية واحدة هي الاغتيالات والاستنزاف وتدمير قدرات الحزب بشكل ممنهج».

تحييد المدن الكبرى

لا خطوط حمراء أمام العمليات الإسرائيلية التي بلغت منطقة البقاع الشمالي وصولاً إلى مواقع «حزب الله» في ريف مدينة القصير السورية، لكنها ما زالت تتجنّب قصف المدن الكبرى مثل صور وصيدا وبيروت. وحسب رأي قهوجي، فإن «تحييد إسرائيل للمدن الكبرى إنما هو لتجنيب مدنها صواريخ (حزب الله)، وهذه قاعدة الاشتباك الوحيدة التي يلتزم بها الطرفان». ومن ثم لفت إلى أن الحزب «يمتلك تشكيلة كبيرة من الأسلحة، خصوصاً في مجال الدفاع الجوي، وقد قدّم نموذجاً منها عندما أسقط ثلاث مُسيَّرات إسرائيلية من طراز (هيرمز 450) و(هيرمز 950)، لكنَّ هذا التقدّم لا يعني تهديد السيطرة الجوية الإسرائيلية، فهي ذات قدرات محدودة أمام الطائرات الحربية النفّاثة، وهذه الصواريخ استُخدمت في سوريا في مواجهة القصف الذي يطول مواقع للحزب وإيران ولم يُثبت فاعليته».

اغتيال القادة الميدانيين

على صعيد آخر، لوحظ بوضوح في الفترة الأخيرة، أن إسرائيل هي التي تسارع إلى الكشف عن اسم الشخصيّة العسكرية التي يغتالها قبل أن يعلن عنه «حزب الله» عن هويّة المستهدف من قادته الميدانيين ودوره وأهميته في الجبهة.

وخلال الساعات الماضية أعلن الجيش الإسرائيلي عن «تنفيذ عملية اغتيال جديدة طالت مسؤولاً في (حزب الله) يتولى قيادة وحدة صاروخية في منطقة ساحل جنوب لبنان». وقال الناطق العسكري الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، إن الجيش «نفّذ غارة جوية في منطقة صور، هاجم فيها قاسم سقلاوي، قائد الوحدة الصاروخية في منطقة الشاطئ في (حزب الله)». وأضاف أدرعي أن سقلاوي «كان مسؤولاً عن التخطيط والتنفيذ لعمليات إطلاق قذائف صاروخية نحو الجبهة الداخلية الإسرائيلية، حيث عمل على تنفيذ وتخطيط عمليات إطلاق قذائف صاروخية، وأخرى مضادة للدروع نحو إسرائيل من منطقة الشاطئ في لبنان»، في إشارة إلى منطقة الساحل الجنوبي.

ورداً على هذا الاغتيال والعملية الإسرائيلية في مدينة القصير السورية، التي تسببت بمقتل اثنين من عناصره، أعلن «حزب الله» أن مقاتليه «هاجموا موقع المطلة ‏وحاميته وآلياته بمُسيَّرة مسلّحة بصاروخي (إس 5)، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها الحزب هذا النوع من الصواريخ التقليدية غير الموجهة».

معركة استنزاف

ثم إنه صحيح أن المواجهة وضعت «حزب الله»، كما وضعت إسرائيل، أمام معركة استنزاف لم يتوقعها الطرفان، لكن رغم ارتفاع أثمانها والخسائر التي يتكبّدها الحزب فإنه لا مؤشرات على استعداده للذهاب إلى «حربٍ شاملة»، بخلاف حكومة إسرائيل التي تسعى لإشعال الجبهة مع لبنان، رافضةً الضغوط الأميركية والأوروبية. غير أن مصدراً مقرّباً من «حزب الله» قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأخير «ليس في مرحلة استنزاف كما يروّج البعض». وتابع أن الحزب «يضع نفسه في حالة مواجهة دائمة مع الجانب الإسرائيلي، ولذلك يرى أن معركة إشغال إسرائيل ومساندة غزة لا تزال في بدايتها، وأن الحزب يملك نفساً طويلاً في كلّ حروبه من إسرائيل».

ومن ثمَّ أكد المصدر المقرّب من الحزب أن «المقاومة تحتفظ بكثير من المفاجآت التي ستصدم العدو وحلفاءه وليس العكس». وأضاف شارحاً أن «المقاومة في حالة حرب مع الإسرائيلي منذ اجتياح بيروت في عام 1982، وبقيت في هذه الوضعية حتى بعد تحرير الجنوب في 25 مايو (أيار) 2000، لأن العدو لم يُخفِ يوماً نيّاته العدوانية تجاه لبنان». واستطرد: «ما دام الإسرائيلي فتح الحرب في غزة، ووضع لبنان أمام خطر الحرب منذ الثامن من أكتوبر، فعليه أن يتحضّر للمفاجآت إذا ما اختار توسيع المواجهة».

منطقة عازلة

أخيراً، حول احتمالات المستقبل، يُجمع الخبراء على أن جبهة جنوب لبنان ستبقى مشتعلة، إلى أن تتبدّل الظروف التي كانت قائمة قبل السابع من أكتوبر الماضي، وأن تل أبيب لن تقبل بوقفٍ لإطلاق النار قبل إقامة «منطقة عازلة» في جنوب لبنان، تقع تحت سيطرة قوات «يونيفيل» والجيش اللبناني، وخالية من أي وجود لمقاتلي «حزب الله».

وفي رأي أحد الخبراء، فإن حكومة إسرائيل «ستعمل على فرض واقع أمني في جنوب لبنان، كي لا تستفيق يوماً على (طوفان أقصى جديد) ينطلق من جنوب لبنان إلى الجليل الأعلى ومستوطنات الشمال... ولذلك نراها ترفض عودة مواطنيها إلى منازلهم في المناطق القريبة من حدود لبنان قبل الانتهاء من هذه الورقة الأمنية، سواء بالحلّ الدبلوماسي أو بالعمل العسكري أياً كانت نتائجه». لا خطوط حمراء أمام العمليات الإسرائيلية التي بلغت منطقة البقاع الشمالي وصولاً إلى مواقع «حزب الله» في ريف مدينة القصير السورية

منظر لقطاع من الجبهة المفتوحة في جنوب لبنان (رويترز)

حسابات أوراق القوّة... والخسائر البشرية

> تأهباً للحرب الشاملة التي تتفوّق فيها إسرائيل عتاداً وعديداً تكنولوجياً، فإن «حزب الله» يخبئ أوراقاً قويّة تحضيراً لها. وهنا، أفاد الخبير الاستراتيجي الدكتور رياض قهوجي، بأن الحزب «لا يزال يمتلك ترسانة من الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي إذا حصل التصعيد في أي وقت». وجزم قهوجي بأن «حزب الله لا يريد الحرب، وهو يعدّل تكتيكاته عبر الصواريخ الموجَّهة والمُسيرات الانقضاضيّة لإيقاع إصابات في إطار حرب الاستنزاف، بخلاف الإسرائيلي الذي يسعى إلى حرب واسعة، لكن عندما تقع هذه الحرب سيُظهر الحزب أوراق القوّة لديه».والمعروف أنه عند كلّ زيارة يقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو وزير الدفاع يؤاف غالانت، أو رئيس الأركان هرتسي هاليفي، يحضّ هؤلاء جنودَهم على الاستعداد لمعركة طويلة مع لبنان بما فيها احتمال الاجتياح البرّي، ويتكلمون عن «بنك أهداف» كبير ووسائل ربما تكون «حرب 2006» نزهة أمام ما سيحدث.على هذا، ردّ المصدر المقرّب من «حزب الله» بأن إسرائيل «تمارس حرباً نفسيّة على لبنان وحزب الله للخضوع لشروطها»، وشدد على أن الحزب «حدّد بدوره بنك الأهداف داخل الكيان الإسرائيلي في أي مواجهة قادمة». وأضاف: «لقد أعلن (أمين عام حزب الله) السيد حسن نصر الله، أن ضرب بيروت سيقابله تدمير تلّ أبيب، وضرب المنشآت المدنية سيقابَل بتدمير أهداف مدنية استراتيجية لدى العدو، بما فيها منصات الغاز في حقل كاريش».وفي حين لم يكشف الجانب الإسرائيلي عن خسائره البشرية جرّاء عمليات «حزب الله» ضدّ مواقعه وتجمعات جنوده، أعلنت مؤسسة «الدولية للمعلومات» عن سقوط 428 قتيلاً لبنانياً بالقصف الإسرائيلي على لبنان، غالبيتهم من «حزب الله». وأفادت «الدولية للمعلومات» في نشرتها الشهرية، بأنه «منذ عملية طوفان الأقصى في غزة التي بدأت فجر يوم السبت 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ولغاية صباح الأربعاء 22 مايو (أيار) 2024، وصل عدد الشهداء 428 شهيداً، أكثريتهم السّاحقة من حزب الله». وأشار إلى أن القتلى توزّعوا على الشكل التالي:- مقتل جندي واحد للجيش اللبناني سقط يوم الثلاثاء 5 ديسمبر (كانون الأول) 2023، عندما قصفت إسرائيل أحد مراكز الجيش في بلدة العديسة الحدوديّة.- 305 لـ«حزب الله» و18 لحركة «أمل» وواحد للحزب السوري القومي الاجتماعي في 15 ديسمبر 2023، و3 من الإعلاميين.- 61 مدنياً من بينهم الجدة سميرة أيوب وحفيداتها الثلاث اللواتي استُشهدن يوم 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 في الطريق بين عيترون وعيناتا.- عائلة البرجاوي وأقاربهم الذين قضوا يوم الأربعاء 14 فبراير (شباط) 2024.- عائلة فادي حنيكي (الذين قُتلوا داخل منزلهم) في ميس الجبل في 5 مايو 2024.- 9 من الهيئة الصحية الإسلامية التابعة لـ«حزب الله»، و5 من الجماعة الإسلامية، و7 من مسعفي الهيئة الطبية الإسلاميّة التابعة للجماعة الإسلاميّة أُصيبوا في بلدة الهبّارية، و3 من كشافة الرسالة الإسلامية التابعة لحركة «أمل»، و7 سوريين، و8 فلسطينيين.


سايمون هاريس... أصغر زعيم في تاريخ آيرلندا...أحد الثلاثي الأوروبي الداعم لقيام دولة فلسطين

في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً
في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً
TT

سايمون هاريس... أصغر زعيم في تاريخ آيرلندا...أحد الثلاثي الأوروبي الداعم لقيام دولة فلسطين

في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً
في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً

طرح الإعلان «الثلاثي» من حكومات النرويج وإسبانيا وجمهورية آيرلندا عن قرارها كل على حدة بالاعتراف رسمياً بدولة فلسطين علامات استفهام في الأوساط السياسية الداعمة لإسرائيل والمناوئة للقضية الفلسطينية إلا أنه حظي بترحيب واسع في الضفة المقابلة والواقع أن هذا الموقف جاء مبنياً على سلسلة مواقف اعتراضية اتخذتها تباعاً بصورة تصعيدية الدول الأوروبية الثلاث منذ حوّلت «حكومة الحرب» الإسرائيلية «الردّ» على عملية «طوفان الأقصى» التي شنّتها حركة «حماس» على غلاف قطاع غزة إلى حرب تهجير وتدمير مفتوحة راح ضحيتها أكثر من 35 ألف قتيل ومئات ألوف المصابين ناهيك من تحويل مدن القطاع ومؤسساته إلى أنقاض

في ما يخصّ مواقف جمهورية آيرلندا من حرب تهجير قطاع غزة، صدر أول موقف من رئيس الحكومة السابق الدكتور ليو فارادكار في ديسمبر (كانون الأول) الماضي خلال قمة الاتحاد الأوروبي، عندما طالب زملاءه القادة الأوروبيين بتبني موقف حازم باتجاه فرض وقف حرب غزة.

وأضاف فارادكار أن الاتحاد «فقد صدقيته بسبب عجزه عن أخذ موقف أكثر قوة وحدّة» إزاء ما يحدث في غزة. وغمز من قناة «ازدواجية المعايير»، قبل أن تتضامن آيرلندا مع إسبانيا وبلجيكا ومالطا في المطالبة بمناقشة جدية للأمر في ظل تفاقم الوضع الإنساني في القطاع.

بعد ذلك، في مارس (آذار) الماضي، صعّد فارادكار مواقفه في مستهل جولته الأميركية، عندما قال: «إن قتل أعداد هائلة من أطفال غزة سيقضّ مضاجع العالم إذا ظل صامتاً في وجه العقاب الجماعي المستمر الذي تمارسه إسرائيل». واستنكر بشدة في كلمة له بمدينة بوسطن قائلاً: «حياة الطفل هي أكبر النعم على الإطلاق. الطفولة يجب أن تكون نعمة. لكن اليوم في غزة بالنسبة لكثيرين نراها حكم إعدام ونقمة». ثم كرّر مواقفه المطالبة بوقف كامل وفوري للحرب بعد أيام قليلة خلال لقائه بالرئيس جو بايدن في البيت الأبيض.

إلا أن فارادكار استقال من منصبه خلال فترة قصيرة من عودته إلى بلاده لـ«أسباب خاصة» أثير حولها لغط. وعلى الإثر، انتخب حزب «فين غايل» الحاكم النائب والوزير الشاب سايمون هاريس خلفاً له في قيادة الحزب ورئاسة الحكومة.

هاريس (37 سنة) قُيض له بالأمس أن يكمِل ما مهّد له سلفه، وأن يكون الزعيم الآيرلندي الذي يعلن اعترف بلاده رسمياً بدولة فلسطين.

من هو هاريس؟

ولد سايمون هاريس يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1986 في بلدة غرايستونز، وهي منتجع على الساحل الشرقي للجزيرة الآيرلندية، في مقاطعة ويكلو، الواقعة إلى الجنوب من العاصمة دبلن. وبهذه المقاطعة ارتبطت حياته السياسية منذ شقّ طريقه في عالم السياسة عام 2009.

سايمون هو الابن الأكبر بين 3 أولاد (صبيان وبنت) لعائلة بارت وماري هاريس. ولقد تلقى تعليمه في إحدى مدارس غرايستونز الثانوية، وفيها لمع في التمثيل، وأعد مسرحية وهو ابن 13 سنة. وحين بدأ شغفه بالسياسة في سن الـ15 سنة، تواءم هذا الشغف مع تعاطفه مع ذوي الحاجات الخاصة عندما أسس رابطة تهدف لمساعدة أهالي الأطفال المُعانين من إعاقتي التوحّد ونقص التركيز، وللعلم فإن شقيقه هو ممّن يعانون من التوحّد. وكذلك كان من اهتمامات تلك الرابطة التواصل مع الشخصيات السياسة ودفعها إلى دعم هؤلاء المعانين والمحرومين وتأمين تعليم الأطفال منهم.

وبما يخص حياة هاريس الأسرية، فإنه متزوّج من كوفه ويد، وهي ممرضة في قسم أمراض القلب، ولديهما صبي وبنت. وعلى الصعيد الشخصي، فإنه يعاني من «مرض كرون» (الالتهاب المزمن في الجهاز الهضمي).

التعليم... والانطلاقة السياسية

أما بالنسبة لدراسته الجامعية، فإنه بدأ في تخصص الصحافة والأدب الفرنسي في معهد دبلن للتكنولوجيا، غير أنه لم يتابع، بل غادر الدراسة في السنة الثانية، ليركّز مسيرته على السياسة. وبالفعل، في انتخابات عام 2002، نشط سايمون هاريس ضمن صفوف حزب «فيانا فويل» (قومي على يمين الوسط)، إلا أنه انتقل خلال سنة واحدة إلى حزب «فيني غايل» (يمين ليبرالي) وانتخب في تنظيمه الشبابي.

وفي حزبه الجديد، بدأ عام 2008 رحلته مساعداً لزميلته الوزيرة المستقبلية فرانسيس فيتزجيرالد عندما كانت عضواً في مجلس الشيوخ (أحد مجلسي البرلمان). وفي العام التالي، خلال الانتخابات المحلية، انتخب عضواً في المجلس المحلي لمقاطعة ويكلو، وكان لافتاً أنه حصل على أعلى نسبة تأييد بين كل أعضاء المجالس المنتخبة على امتداد آيرلندا، كما انتخب عضواً في بلدية غرايستونز.

من البرلمان إلى الوزارة

عام 2011، انتخب هاريس، وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في مجلس النواب الآيرلندي عن ويكلو... وكان يومذاك أصغر نواب البرلمان سناً. وفي مجلس النواب صقل خبراته عبر شغله مهاماً في بعض اللجان البرلمانية المتخصصة، ومنها الاقتصاد والصحة.

وفي عام 2014، خطا هاريس خطوة كبيرة أخرى عندما عيّن وزير دولة في وزارة المالية. وتسارع الصعود عندما رقّي عام 2016، في أعقاب تشكيل حزب «فيني غايل» حكومة أقلية، ليصبح وزيراً للصحة، ولاحقاً، مع تشكيل الحكومة الائتلافية عام 2020 انتقل من وزارة الصحة ليتولى وزارة التعليم الإضافي والعالي والبحث والابتكار والعلوم. ومن ثم تولى أيضاً بصفة مؤقتة حقيبة وزارة العدل بين ديسمبر 2022 ويونيو (حزيران) 2023 عندما حصلت زميلته الوزيرة هيلين ماكينتي على إجازة أمومة.

رئيساً في سن الـ37

وأخيراً، بعد الاستقالة المفاجئة لفارادكار يوم 20 مارس الماضي، دُعي حزبه «فيني غايل»، وفق التدابير المألوفة والمتبعة لانتخاب زعيم جديد، مع العلم أن الزعيم المستقيل تعهّد بالتخلي عن رئاسة الحكومة فور انتخاب خلف له على قمة الحزب. وفي اليوم التالي، فتح باب الترشيح إلا أنه بحلول بعد ظهر ذلك اليوم كان أكثر من نصف عدد أعضاء الكتلة البرلمانية للحزب قد أعلنوا تأييدهم لاختيار سايمون هاريس، وأبعد كل وزراء الحزب أنفسهم عن المنافسة. وهكذا صار هاريس المرشح الوحيد، وبالتالي الزعيم الفعلي بالتزكية، يوم 24 مارس الذي كان قد حُدد كمهلة أخيرة لقبول الترشيحات، خلال اجتماع رسمي للقيادة الحزبية في اليوم ذاته، عقد بمدينة آثلون بشمال وسط البلاد. ومن ثم يوم 9 أبريل (نيسان) بعد عطلة عيد الفصح الماضي، عيّن رسمياً بصفته زعيم الحزب الحاكم رئيساً جديداً للحكومة وهو لا يزال في السابعة والثلاثين من العمر... وبذا بات رئيس الحكومة الأصغر سناً في تاريخ البلاد.

حزب «فيني غايل» في سطور

> حزب «فيني غايل» (أي العشيرة أو الأمة الآيرلندية) حزب يميني ليبرالي مسيحي التوجهات، يمتلك اليوم ثالث أكبر عدد من المقاعد داخل مجلس النواب الآيرلندي وأكبر تمثيل نيابي آيرلندي في البرلمان الأوروبي.

> أسس يوم 8 سبتمبر (أيلول) 1933 من اندماج 3 جماعات نشطت إبان النضال الاستقلالي عن بريطانيا، أيّد أعضاؤها «الاتفاقية الأنجلو آيرلندية» إبان النزاع الأهلي الآيرلندي بين الاستقلاليين المعتدلين والمتشددين، وعدّ هؤلاء أنفسهم مناصرين للزعيم الراحل المعتدل مايكل كولينز الذي اغتاله رافضو «الاتفاقية».

> بعد الاستقلال تناوب الحزب مع حزب «فيانا فويل» الأكثر تشدداً قومياً، والذي انشق مثله، تحت قيادة زعيمه البارز إيمون دي فاليرا، عن حزب «شين فين» أقدم القوى الاستقلالية.

> اضطر للتحالف غير مرة مع حزب العمال الآيرلندي (يسار الوسط) في ائتلافات حكومية ضد «فيانا فويل»، وخرج منهم زعماء بارزون، من أهمهم ليام كوسغريف (ابن وليم توماس كوسغريف أول رئيس للمجلس التنفيذي لدولة آيرلندا الحرة)، وجون كوستيللو، والدكتور غاريث فيتزجيرالد، والدكتور ليو فارادكار، أول رئيس من أصل هندي يتولى السلطة في آيرلندا.


هؤلاء هم رؤساء حكومات جمهورية آيرلندا منذ 1945

ليو فارادكار (رويترز)
ليو فارادكار (رويترز)
TT

هؤلاء هم رؤساء حكومات جمهورية آيرلندا منذ 1945

ليو فارادكار (رويترز)
ليو فارادكار (رويترز)

> عُرف الحاكم الفعلي في آيرلندا قبل عام 1937 بأسماء مختلفة، وكذلك اختلفت الأنظمة والدساتير. وفي البداية، بين 21 يناير (كانون الثاني) 1919 و6 ديسمبر (كانون الأول) 1922، عُرف هذا الكيان السياسي بـ«الجمهورية الآيرلندية» وكانت تديره حكومة يرأسها «رئيس الجمهورية» - أو رئيس «الدويل» - وتعمل بموجب «دستور الدويل».

وتخللت هذه الفترة مرحلة «الحكومة المؤقّتة» لـ«آيرلندا الجنوبية» بين 26 أغسطس (آب) 1921 و6 ديسمبر 1922، تحت رئاسة رئيس «المجلس التنفيذي» الحاكم وتعمل بموجب «اتفاقية آيرلندا الحرة» لعام 1922.

بعد ديسمبر 1922 ولد كيان «آيرلندا الجنوبية» تحت رئاسة «الدولة الآيرلندية الحرة» واستمر حتى 29 ديسمبر 1937، تحت «دستور الدولة الآيرلندية الحرة». ومن ثم، منذ نهاية 1937 قامت «جمهورية آيرلندا» تحت حكومة تنفيذية يرأسها ويحكم البلاد رئيس حكومة «تيشوك» بموجب «دستور آيرلندا».

غاريت فيتزجيرالد (الأيريش إندبندنت)

من جهة أخرى، انحصر عملياً منصب رئيس الحكومة بين قادة الحزبين الكبيرين «فيانا فويل» (تعني «فرسان القدَر») و«فيني غايل» (العشيرة الآيرلندية) اللذين ولدا إثر الانشقاقات التي أصابت حزب «شين فين» القومي التاريخي البارز. وللعلم، عاد «شين فين» إلى الواجهة في كل من الجمهورية وإقليم آيرلندا الشمالية، حيث تتولى زعيمته ميشيل أونيل منذ فبراير (شباط) الماضي منصب الوزير الأول للإقليم.

وفيما يلي، أسماء رؤساء حكومات «جمهورية آيرلندا» منذ 1945:

- إيمون دي فاليرا (فيانا فويل) 1944 - 1948 – دائرته البرلمانية: دائرة مقاطعة كلير بغرب آيرلندا.

- جون كوستيللو (فيني غايل) 1948 - 1951 – دائرة جنوب شرقي دبلن.

- إيمون دي فاليرا (فيانا فويل) 1951 - 1954 – مقاطعة كلير.

- جون كوستيللو (فيني غايل) 1954 - 1957 – جنوب شرقي دبلن.

- إيمون دي فاليرا (فيانا فويل) 1957 - 1959 – مقاطعة كلير.

- شون ليماس (فيانا فويل) 1959 - 1966 – جنوب وسط دبلن.

- جاك لينش (فيانا فويل) 1966 - 1973 – كورك الكبرى ثم شمال غربي كورك (جنوب غربي آيرلندا).

- ليام كوسغريف (فيني غايل) 1973 - 1977 – دن ليري ووراثداوي (بضواحي دبلن الجنوبية).

- جاك لينش (فيانا فويل) 1977 - 1979 – مدينة كورك.

تشارلز هوخي (الإيرليش إندبندنت)

- تشارلز هوخي (فيانا فويل) 1979 - 1981 - دبلن - أرتان.

- غاريت فيتزجرالد (فيني غايل) 1981 - 1982 – جنوب شرقي دبلن.

- تشارلز هوخي (فيانا فويل) 1982 – شمال وسط دبلن.

- غاريت فيتزجيرالد (فيني غايل) 1982 - 1987 – جنوب شرقي دبلن.

- تشارلز هوخي (فيانا فويل) 1987 - 1992 – شمال وسط دبلن.

- ألبرت رينولدز (فيانا فويل) 1992 - 1994 – مقاطعتا لونغفورد وروسكومون (على حدود آيرلندا الشمالية).

- جون بروتون (فيني غايل) 1994 - 1997 – مقاطعة ميث (إلى الشمال من دبلن).

- بيرتي أهيرن (فيانا فويل) 1997 - 2008 – وسط دبلن.

- بريان كووين (فيانا فويل) 2008 - 2011 – مقاطعتا ليش وأوفالي (وسط آيرلندا).

- إندا كيني (فيني غايل) 2011 - 2017 – مقاطعة مايو (أقصى غرب آيرلندا).

- ليو فارادكار (فيني غايل) 2017 - 2020 – غرب دبلن.

- مايكل مارتن (فيانا فويل) 2020 - 2022 – جنوب وسط كورك.

- ليو فارادكار(فيني غايل) 2022 - 2024 – غرب دبلن.

- سايمون هاريس (فيني غايل) 2024... – مقاطعة ويكلو (إلى الجنوب من دبلن).


الانتخابات الهندية ودلالاتها الجيوسياسية داخل النظام العالمي

مودي يشارك في احتفال تدشين المعبد الهندوسي الذي شيد على انقاض المسجد الببري في آيوديا بشمال الهند (رويترز)
مودي يشارك في احتفال تدشين المعبد الهندوسي الذي شيد على انقاض المسجد الببري في آيوديا بشمال الهند (رويترز)
TT

الانتخابات الهندية ودلالاتها الجيوسياسية داخل النظام العالمي

مودي يشارك في احتفال تدشين المعبد الهندوسي الذي شيد على انقاض المسجد الببري في آيوديا بشمال الهند (رويترز)
مودي يشارك في احتفال تدشين المعبد الهندوسي الذي شيد على انقاض المسجد الببري في آيوديا بشمال الهند (رويترز)

تمتد التبعات الجيوسياسية للانتخابات الهندية، التي هي الأكبر على الإطلاق في العالم، إلى ما وراء حدود الهند. ومع اقتراب فترة ولاية ثالثة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي، تستحوذ هذه الانتخابات على اهتمام دبلوماسي عالمي؛ نظراً لتداعياتها على الاستقرار الإقليمي والعالمي. وكذلك تزداد أهمية نتائجها في ضوء إلى النفوذ الهندي المتنامي على الساحة الدولية. ولكون الهند الدولة الأولى من حيث عدد السكان في العالم، وواحدة من أكبر أسواقه الاستهلاكية، يرى الخبراء المراقبون أنه عندما يتعلق الأمر بالتحديات الكبرى التي يواجهها العالم كالحرب الروسية - الأوكرانية، وأوضاع الشرق الأوسط الساخنة، وملف الصين وتايوان، بجانب التغييرات المناخية والإرهاب والاقتصاد العالمي، يبدو من الصعب التفكير في حلول لأي من هذه القضايا العابرة للحدود من دون مشاركة فاعلة من الهند.

الانتخابات الهندية 2024 آفاقيبدو فوز رئيس الوزراء الهندي اليميني ناريندرا مودي شبه مؤكد بولاية ثالثة، وهذا الأمر يستوجب فهماً أعمق لأهداف السياسة الخارجية لنيودلهي في الفترة المقبلة، وكيف ترغب في تشكيل العلاقات الدولية وكذلك التحولات الدبلوماسية المحتملة.

وبما يخصّ الحرب الروسية - الأوكرانية ظهر جانبان من مواقف مودي أثناء حملته الانتخابية الأخيرة أمام رئيسي روسيا فلاديمير بوتين وأوكرانيا فولوديمير زيلينسكي. الأول - كما نشر الزعيم الهندي على موقع «إكس» - أنه ناقش موضوع تعزيز شراكة الهند مع البلدين. أما الآخر، فكان عملياً طمأنة الزعيمين إلى أن نيودلهي لا تزال ملتزمة بمساعدة موسكو وكييف على إيجاد حل سلمي للصراع بينهما.

وعلى صعيد الشرق الأوسط، أرسل مودي مستشاره للأمن الوطني، أجيت دوفال، إلى إسرائيل ليبلغ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بأنه لا ينبغي له أن يعتبر دعم الهند له أمراً مفروغاً منه، وناشده ألا يتجاهل الاحتجاجات الدولية المتزايدة على الحملة العسكرية الإسرائيلية المتواصلة في غزة. وهنا، عبّر المحلل السياسي الهندي ناريش كوشيك، عن اعتقاده بأن مودي، عبْر تناوله صراعين عالميين رئيسيين، «حتى أثناء انخراطه بعمق في حملة الانتخابات العامة في الداخل، يظهر للجميع أنه يتعامل بجدية مع مسؤولية الهند على الساحة الدولية. والأهم من ذلك، أنه يكشف عن أن العالم هو الآخر، يأخذه على محمل الجد، وأن الهند تحت قيادته أصبحت لاعباً عالمياً مهماً».

الجدير بالذكر، هنا، أن الهند كانت القوة الكبرى الوحيدة، التي حافظت على حيادها منذ الغزو الروسي لأوكرانيا قبل سنتين. وعلى الرغم من العلاقات التاريخية الوثيقة التي لنيودلهي بموسكو، تكلم مودي بنبرة حازمة إلى بوتين في سبتمبر (أيلول) الماضي، وأخبره أن الوقت ليس مناسباً للحرب؛ الأمر الذي حظي إشادة القوى الغربية على نطاق واسع. وأيضاً، تحترم القيادة الإسرائيلية، آراء مودي، لا سيما وأنه كان أول زعيم غير غربي يدين هجوم جماعة «حماس» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ويعتبره «عملاً إرهابياً».

من جهة ثانية، بفضل تمتع الهند باقتصاد أقوى، أتيحت فرص جديدة ليس فقط لها، بل كذلك للدول الأخرى الراغبة في الاستفادة من سوقها الضخمة. وهذا يتطلّب بالضرورة مناخاً سياسياً مستقراً وصديقاً للأعمال. ولقد وفّر الزعيم الهندي اليميني ذلك. واليوم يُعد الاقتصاد الهندي سبباً بارزاً آخر يدفع العالم لأن يولي اهتماماً وثيقاً بالبلاد. والحقيقة، أن الأمر لا يتعلق بحجم الهند فحسب، بل أيضاً لكون اقتصادها الأسرع نمواً بين اقتصادات الدول الكبرى. ومعلومٌ، أن الحرب في أوكرانيا أثرت سلباً على معظم الاقتصادات الأوروبية، في حين يعاني الاقتصاد الصيني - ثاني أكبر اقتصادات العالم - من تداعيات جائحة «كوفيد - 19».

تنافس موسكو وواشنطن

ناريش كوشيك يرى أن الخلاف الأخير بين الولايات المتحدة وروسيا حول الانتخابات الهندية، «يُعد مؤشراً واضحاً على الأهمية الجيوسياسية لهذه الانتخابات». وكانت واشنطن قد اضطرت أخيراً إلى إعلان رفضها الرسمي كلام الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، بشأن تدخل اميركي مزعوم في الانتخابات الهندية. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميللر، في توضيح للموقف: «لا، بالطبع، نحن لا نقحم أنفسنا في الانتخابات بالهند... كما أننا لا نقحم أنفسنا في الانتخابات بأي مكان في العالم». إلا أن السؤال هنا، هو إذا كان من المتوقع على نطاق واسع أن يفوز مودي، وحزبه «بهاراتيا جاناتا» القومي الهندوسي، بالانتخابات، فلماذا تستحوذ الانتخابات الهندية على اهتمام دولي واسع النطاق؟

لقد حافظت الهند على صفتها كدولة ديمقراطية منذ الانتخابات الأولى التي شهدتها في الفترة 1951 - 1952، في وجه التحديات الكثيرة التي واجهتها. ومع أن تجربتها ليست خالية من العيوب، فإن الحكومات على مستوى الولايات الهندي، وأيضاً على المستوى المركزي، يجري تغييرها عن طريق الاقتراع. وبناءً عليه؛ تعد الهند الديمقراطية الوحيدة غير الغربية التي أنجزت ذلك مراراً وتكراراً على مر السنين. وعلى الرغم من الانتقادات المتزايدة، لا يزال الدستور في الهند يحظى بالاحترام على نطاق واسع، وتتولى سلطة قضائية مستقلة حماية مواده بقوة.

التحديات أمام مودي في جنوب الهندلقد فرض رئيس الوزراء ناريندرا مودي سيطرة شبه كاملة على الساحة السياسية الهندية منذ صعوده إلى السلطة قبل عشر سنوات، مع استثناء واحد يتمثل بفشل في الفوز في ولايات الجنوب، الأكثر ثراءً في البلاد، التي كانت معقلاً لأحزاب إقليمية أو حزب «المؤتمر». وللعلم، فإن أكبر المكوّنات العرقية - اللغوية في ولايات الجنوب الخمس ذات الغالبية العرقية الدرافيدية، هي: التيلوغو (ولايتا أندرا براديش وتيلانغانا) والتاميل (ولاية تاميل نادو مع أقليات في ولايات مجاورة) والكانادا (ولاية كارناتاكا) والمالايالام (ولاية كيرالا ومقاطعتا لاخشاذويب وبونديشيري).

في ظل هذا الوضع، يواجه حزب «بهاراتيا جاناتا»، الممثل الرئيسي للعرقية الهندية الهندوسية المتركّزة في ولايات ما يسمى «الحزام الهندي»، صعوبات في اختراق معظم الولايات الجنوبية. واليوم يلاحَظ أن حركة «هندوتفا» القومية الهندوسية الهندية - التي تشكّل صلب تأييد حزب «بهاراتيا جانا» - تحاول التخفيف من غلوّ خطابها القومية العرقية الهندية وحدّته - بأمل جذب جمهور أوسع. وفعلاً، ركز مودي اهتمامه وأنظار تحالفه (التحالف الوطني الديمقراطي)، الذي يشكل «بهاراتيا جاناتا» حزبه الأكبر، في هذه الانتخابات... على محاولة اختراق الولايات الجنوبية، ما يشير إلى تحوّل استراتيجي في التواصل السياسي وأولويات الحكم.

والواقع، أن ولايات جنوب الهند الدرافيدية الخمس تشكّل معاً نحو 20 في المائة من إجمالي سكان البلاد، وفيها 30 في المائة من اقتصادها. وهي تعدّ القلب النابض لقطاعي التصنيع والتكنولوجيا الفائقة في الهند (بالأخص مدينتا بنغالور وحيدر آباد). كما تحظى المرأة فيها بتمكين على مستوى فرص التعليم والتوظيف، ولديها تاريخ طويل من السياسات التقدمية، وبالذات ولاية كيرالا.

وفي هذا الصدد، قال الصحافي مونيش شاندرا باندي: «الاندفاع نحو الجنوب لا يقتصر على السياسة الداخلية، بل يحمل كذلك أهمية جيوسياسية. فمع تزايد نفوذ الصين في منطقة المحيط الهندي، يكتسب الخط الساحلي الجنوبي أهمية استراتيجية متزايدة. وبالتالي، من شأن تعزيز النفوذ داخل الولايات الجنوبية، خاصة تاميل نادو، منح الهند ميزة استراتيجية في مجالي الأمن البحري والتعاون الإقليمي». وفعلاً، خلال الحملة الانتخابية، زار مودي أكثر من 12 مرة ولايات الجنوب خلال الأسابيع القليلة الماضية، في محاولة لتحسين حظوظ حزب «بهاراتيا جاناتا» في الجنوب، حيث تعرّض هذا الحزب لتجاهل كبير حتى عام 2019، عندما تجاوز حاجز 300 في الـ«لوك سابها» (مجلس النواب). مع ذلك، فإن جهود رئيس الوزراء لاختراق الجنوب لا تخلو من تحديات ومصاعب. ولا شك، أن التنوع اللغوي والثقافي، والهويات الإقليمية الراسخة، والانتماءات السياسية التاريخية، عقبات جّديّة أمام طموحات حزب عرقي هندوسي متشدد مثل «بهاراتيا جاناتا». ثم أن معالجة القضايا والحساسيات الخاصة في كل ولاية تتطلب اتباع نهج دقيق ومرن.

قادة حزب المؤتمر المعارض (من الشمال إلى اليمين) سونيا غاندي وماليكارجون خارج وراهول غاندي يحملون بيانات انتخابية (آ ب)

الجغرافيا السياسية لسياسة «هندوتفا»

راهناً، يُنظر إلى ناريندرا مودي، على نطاق واسع، باعتباره رمز «هندوتفا» في الهند، خاصةً أن سياساته تهدف إلى تعزيز مكانة الغالبية الهندوسية في بلد تشكّل فيه نحو 80 في المائة من السكان. إذ يقول منتقدو مودي وحزبه إن حكمه عزّز عودة ظهور «هندوتفا»، تلك الآيديولوجية القومية المتشددة التي تقوم على الإيمان بوجوب أن يكون للهندوس السيطرة الكاملة على الهند. واليوم، تدخل الهند هذه الانتخابات في ظل حالة من الاستقطاب والانقسام العميقين.

وما يُذكر أنه في وقت سابق من السنة، دشّن مودي معبد «هندو رام» في مدينة أيوديا، في الموقع حيث كان يقوم المسجد البابري التاريخي، ولقد شكّل هذا الحدث المستفز لمشاعر الأقلية المسلمة الانطلاقة غير الرسمية لحملة الانتخابات العامة لـ«بهاراتيا جاناتا»؛ إذ ألهب بناء المعبد على أنقاض المسجد المشاعر القومية الهندوسية في جميع أنحاء البلاد... وطبعاً قاد «بهاراتيا جاناتا» الاحتفالات. وفي المقابل، قاطع حزب المعارضة الرئيسي، حزب «المؤتمر الوطني الهندي»، الاحتفال، متهماً «بهاراتيا جاناتا» بتسييس الدين، علماً بأن نحو 200 مليون مسلم يعتبرون الهند وطنهم، وهؤلاء يشكلون ثالث أكبر مجتمع من المسلمين في العالم، وتحمل رفاهيتهم واهتماماتهم تبعات جيوسياسية.

دور مودي... شخصياً

وفي تجمع انتخابي عُقد في فترة قريبة، أشار مودي إلى المسلمين باعتبارهم «متسللين» و«أولئك الذين لديهم عدد أكبر من الأطفال»، كما حذّر من أن حزب «المؤتمر» المعارض سيعيد توزيع ثروة البلاد على المسلمين. وفي سياق التحريض العدائي المكشوف، نشر «بهاراتيا جاناتا» ايضاً مقطع فيديو بالرسوم المتحركة يزعم أن حزب «المؤتمر» سينتزع ثروات غير المسلمين ويوزّعها على المسلمين، الذين شبّههم بـ«الغزاة والإرهابيين واللصوص». وبعد أيام، اتهم مودي حزب «المؤتمر» بالدعوة إلى «جهاد التصويت»، وهي «نظرية مؤامرة» قديمة لطالما روّج لها القوميون الهندوس. وعليه، تقدمت أحزاب المعارضة بشكوى ضد مودي، لدى لجنة الانتخابات الهندية. وبالفعل، أزيل الفيديو.

هذا، ويقول زعماء بالمعارضة ومعلقون سياسيون إن رئيس الوزراء مودي ومعه ساسة من حزبه يواصلون نشر الكراهية الصارخة للإسلام والمسلمين. وقد انتقدوا لجنة الانتخابات صراحة لتأخرها باتخاذ الإجراءات اللازمة ضدهم. ومن جانبهم، يشعر زعماء مسلمون بالقلق إزاء المسلمين بتمثيل كافٍ داخل البرلمان الهندي. وتكشف الأرقام عن أن هناك 27 نائباً مسلماً فقط في مجلس النواب المؤلف من 543 مقعداً في البرلمان، وليس بين هؤلاء أي نائب من نواب «بهاراتيا جاناتا» البالغ عددهم 310 نواب.في هذا الصدد، قال ضياء الإسلام، وهو مؤلّف كتاب عن المسلمين في الهند، إن المسلمين «وضعوا ثقتهم على مدى عقود في الأحزاب العلمانية؛ ما أسفر عن غياب حاد للقيادة الإسلامية». وفي ظل رئاسة مودي للوزراء، أصبحت سياسة «هندوتفا» جزءاً لا يتجزأ من النظام الاجتماعي - القانوني - السياسي في الهند. وعلى المستوى الوطني، تضمن ذلك إلغاء وضع الولاية لكشمير، التي كانت سابقاً الولاية الوحيدة ذات الغالبية المسلمة في الهند. وكذلك طبّقت الحكومة قانون الجنسية المثير للجدل، الذي يتهمه معنيون بحقوق الإنسان بالتمييز ضد المسلمين، وهو يمنع المسلمين المضطهدين (وحدهم بين الأقليات الدينية الأخرى، بما فيها الأقليات المسيحية) في البلدان المجاورة من طلب اللجوء في الهند. وقد أثار هذا في السابق احتجاجات على مستوى البلاد عام 2019.

فرض ناريندرا مودي سيطرة شبه كاملة على الساحة السياسية الهندية

منذ صعوده إلى السلطة قبل عشر سنوات

مع استثناء واحد يتمثل في فشله بالفوز

في ولايات الجنوب

طابور ناخبين أمام أحد مراكز الاقتراع (آ ف ب)

تأثير الشتات الهندي على الانتخابات

> مع وجود نحو 18 مليون هندي يعيشون في الخارج، فإن الهند لديها أكبر جالية خارج أراضيها في العالم. ويعتبر الهنود غير المقيمين - أولئك الذين ما زالوا يحملون جوازات سفر هندية، لكنهم يعيشون في الخارج - مؤهلين للتصويت في الانتخابات. وكشفت تقارير إعلامية، عن أن كثيرين منهم سافروا جواً إلى الهند للتصويت؛ لأن التصويت الإلكتروني أو التصويت بالوكالة لم يُتح لهم بعد. وبشكل عام، تتمتع قوة الشتات الهندية الضخمة بأهمية جيوسياسية كبيرة في الانتخابات. وحسب المحلل السياسي مانيش شيبر، فإن «الشتات الهندي يمثل مجتمعاً كبيراً، ويشكل قوة متنامية لحشد الدعم في الداخل والخارج. وتنخرط الغالبية في أربعة مواضيع واسعة عندما يتعلق الأمر بالحملات الانتخابية: جمع الأموال للأحزاب السياسية، وتوفير الخدمات الفنية حول كيفية إدارة حملة فعالة، والتطوع لحملات التعبئة على الأرض في الهند، وممارسة الضغط. وخبرتهم تعني أنهم قادرون على توفير دفعة إضافية للحملات الانتخابية». مثلما كانت الحال داخل الهند، كان حزب «بهاراتيا جاناتا» الأكثر منهجية ونجاحاً هنا مقارنة بمنافسيه. ولذا؛ يعتبر هذا الشتات بمثابة سلاح سرّي لمودي، وإذا فاز بولاية ثالثة - كما يبدو مرجّحاً - فإن جزءاً من الفضل وراء ذلك سيعود إلى الشتات. والملاحظ أنه على امتداد السنوات العشر الماضية، حرص مودي على التودّد إلى المغتربين الهنود، وعقد تجمّعات حاشدة في دول منها الولايات المتحدة، وبريطانيا وأستراليا والعديد من الدول الأوروبية وشرق الأوسطية، حضرها الهنود بكثافة.ويعتقد عدد من محللي استطلاعات الرأي أنه خلال الفترة التي سبقت الانتخابات العامة لعام 2024، عاد ما يقدر بنحو 10 آلاف من مجموعة «أصدقاء حزب بهاراتيا جاناتا» في الخارج إلى الهند، للمشاركة في حملات على الأرض.

 

مودي أمام التداعيات الجيوسياسية لقمع المعارضة

> خلال في الفترة السابقة للانتخابات، اعتقل المسؤول الأول عن دلهي، أرفيند كيجريوال، على خلفية قضية تتعلق بالمشروبات الكحولية. وبعد أسابيع من الاعتقال، أمرت المحكمة العليا بإطلاق سراحه بكفالة. ولقد اتهم حزب «المؤتمر» المعارض، حكومة مودي اليمينية بتدمير قدرته على تنظيم حملات انتخابية، بسبب تجميد حساباته المصرفية في خضم نزاع ضريبي يعود للعام 2018 - 2019. واليوم، يمثّل حزبا «آم أدامي» و«المؤتمر» جزءاً من كتلة المعارضة الرئيسية في البلاد، في مواجهة مودي و«التحالف الوطني الديمقراطي» الذي يقوده. وأيضاً ألقت مديرية الإنفاذ القبض على هيمانت سورين، المسؤول الأول السابق عن ولاية جهارخاند، وعضو حزب المعارضة «جهارخاند موكتي مورتشا»، بناءً على اتهامات بموجب قانون مكافحة غسل الأموال، ولا يزال في السجن. وفي ضوء ذلك، انتقدت الولايات المتحدة وألمانيا الحكومة الهندية بسبب «قمع المعارضة». كذلك تناولت الأمم المتحدة عبر تصريحات مسؤوليها هذه الحملة ضد المعارضة.ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، قال إن الوزارة تتابع عن قرب التقارير الواردة عن اعتقال كيجريوال. وأكد، رداً على استفسار عبر البريد الإلكتروني حول هذه القضية: «نحن نشجع على إجراء عملية قانونية عادلة وشفافة وفي الوقت المناسب لكيجريوال». وجاءت التصريحات الأميركية بعدما أثارت تصريحات مماثلة من ألمانيا انتقادات من نيودلهي، التي استدعت مبعوث ألمانيا للاحتجاج على تصريحات حكومته.أما وزارة الخارجية الهندية، فادعت أن «العمليات القانونية في الهند تقوم على سلطة قضائية مستقلة ملتزمة بالنتائج الموضوعية وفي الوقت المناسب». وتابعت: «في الدبلوماسية، يُتوقع من الدول أن تحترم سيادة الدول الأخرى وشؤونها الداخلية. وتتجلّى هذه المسؤولية بشكل أكبر في حالة الديمقراطيات الشقيقة. وإلا قد ينتهي الأمر إلى إرساء سوابق غير صحية».


محطات في تاريخ الخلافات الإسرائيلية ـــ الأميركية

اجتماع لحكومة شارون... ويبدو فيها نتنياهو في أقصى يمين الصورة (غيتي)
اجتماع لحكومة شارون... ويبدو فيها نتنياهو في أقصى يمين الصورة (غيتي)
TT

محطات في تاريخ الخلافات الإسرائيلية ـــ الأميركية

اجتماع لحكومة شارون... ويبدو فيها نتنياهو في أقصى يمين الصورة (غيتي)
اجتماع لحكومة شارون... ويبدو فيها نتنياهو في أقصى يمين الصورة (غيتي)

شهد تاريخ العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية عديداً من حالات التوتر، التي بلغت حدوداً أكبر من الخلاف الحالي الناجم عن اجتياح رفح. إلا أن الحليفين عرفا دائماً «التنازل» لحلّ الإشكال. وغالباً ما كان هذا «المتنازل» هو الجانب الإسرائيلي. ومع أن بعض المراقبين عدّوا قرار الرئيس جو بايدن تجميد إرسال واحدة من شحنات الأسلحة والذخيرة إلى إسرائيل «زلزالاً سياسياً»، فإن مصادر في الجانبين تكلمت عن أنه - كالعادة - تُبذل جهود وراء الكواليس لتصحيح العلاقات بشكل فوري «كي لا يجني قادة حماس، ومن ورائهم قادة إيران وحزب الله، ربحاً سياسياً ومعنوياً». ويتضح من مسح للعلاقات بين البلدين عبر 76 سنة لإسرائيل انفجار خلافات عدة، لكن 14 منها بلغت حد الأزمة، كما هي الحال اليوم.

آثار استهداف المدمرة "ي إس إس ليبرتي" (صور سلاح البحرية الأميركي)

وقع أول خلاف كبير بين تل أبيب وواشنطن عام 1949، عندما سيطرت إسرائيل على أراضٍ مصرية بعد أشهر طويلة من وقف إطلاق النار. وحينذاك، سُوّيّ الخلافُ عندما وافقت حكومة إسرائيل برئاسة دافيد بن غوريون على الدخول في «مفاوضات رودس» لترسيم حدود وقف إطلاق النار - عبر إنشاء ما عُرف بـ«الخط الأخضر» - وهي التي أصبحت حدود إسرائيل غير الرسمية، قبل «حرب يونيو (حزيران) 1967».

ثم وقع الخلاف الثاني الكبير عام 1957، في أعقاب «حرب السويس» التي وقعت عام 1956 وعُرفت في حينه باسم «العدوان الثلاثي» على مصر. وفي حينه أطلقت إسرائيل عمليات لتثبيت احتلالها لسيناء وقطاع غزة، وبدأت تخطط للاستيطان اليهودي هناك. لكن الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور طالبها بالانسحاب فوراً، وهدد بقطع المساعدات الاقتصادية (إذ لم تكن هناك مساعدات عسكرية ذات شأن)، وفعلاً، انسحب بن غوريون وتجنب الصدام.

ديمونة... و«ليبرتي

»خلال الفترة بين 1960 و1964، نشبت أزمة على خلفية بناء المفاعل النووي الإسرائيلي في منطقة ديمونة (شمال صحراء النقب وجنوب شرقي مدينة بئر السبع) بمساعدة فرنسية. فقد فوجئت الولايات المتحدة بهذا المشروع، وطالبت إسرائيل بإخضاعه للرقابة الدولية أو الأميركية. لكن إسرائيل لم تتراجع هذه المرة، وتمسّكت برفضها أمام الرئيس آيزنهاور، ثم أمام خلفه الرئيس جون كيندي، الذي اتخذ موقفاً سلبياً أشد من حكومة إسرائيل. ثم جاء الرئيس ليندون جونسون (الذي تولّى الرئاسة إثر اغتيال كيندي) 1963، ليبدأ في إحداث انعطاف في العلاقات. وحقاً، عام 1964، وافقت إسرائيل على رقابة جزئية وسطحية ووافق جونسون على إنهاء الأزمة. وهكذا استمر عمل المفاعل النووي.حرب 1967... والسفينة «ليبرتي»

ثم في عام 1967، وقعت أزمة جديدة بين واشنطن وتل أبيب عندما أقدمت طائرات وسفن حربية إسرائيلية على قصف قطعة بحرية حربية أميركية يوم 8 يونيو 1967، وهو اليوم الثالث في «حرب يونيو».

في ذلك اليوم كانت المدمّرة الأميركية «يو إس إس ليبرتي» تبحر على بعد 13 ميلاً بحرياً قبالة العريش خارج المياه الإقليمية المصريّة بشمال شبه جزيرة سيناء. وأدى القصف الإسرائيلي إلى مقتل 34 من البحارة و171 إصابة.

الجاسوس جوناثان بولارد (رويترز)

حرب أكتوبر

عام 1973، في الأيام الأخيرة من «حرب أكتوبر (تشرين الأول)»، اخترقت إسرائيل خطوط قوات الهجوم المصرية - التي كانت قد حرّرت قسماً كبيراً من غرب سيناء - وتحقق لإسرائيل ذلك بعدما قدّمت الولايات المتحدة دعماً غير مسبوق للجيش الإسرائيلي بلغ حد إرسال طائرات حربية أميركية دخلت إلى المعركة وقادها طيارون أميركيون.

يومذاك، طوّقت القوات الإسرائيلية، المدعومة أميركياً، «الجيش الثالث» المصري وفرضت عليه حصاراً. وعندما طلب الرئيس ريتشارد نيكسون من إسرائيل فك الحصار وبدء مفاوضات لفك الاشتباك، رفضت رئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مائير، الانصياع في البداية وهددت واشنطن بقطع الدعمَين السياسي والعسكري. إلا أنها تراجعت لاحقاً، وفكت الحصار وبدأت المفاوضات.

ثم في مطلع عام 1975 طلب الرئيس جيرالد فورد من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، تحويل «اتفاق فصل القوات» مع مصر إلى «اتفاق لوقف النار»، ويومها وافق رابين بشرط أن توافق مصر على إنهاء حالة الحرب. لكن الرئيس المصري أنور السادات اشترط لإنهاء حالة الحرب انسحاباً إسرائيلياً من كامل أراضي سيناء. وعلى الأثر أجرى هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأميركي) سلسلة جولات مكّوكية. ولما فشل حمّل تل أبيب مسؤولية الفشل، وبدأت واشنطن تعاقب إسرائيل. إذ أعلن الرئيس فورد عن «إعادة تقييم العلاقات الأميركية - الإسرائيلية»، وقرّر تجميد التوقيع على صفقات أسلحة جديدة، بل، وباشر مسؤولون أميركيون رسميون عقد لقاءات مع ممثلين عن منظمة التحرير الفلسطينية... ولم تعد الإدارة الأميركية تنسّق مع إسرائيل التحضير لمؤتمر جنيف للسلام في الشرق الأوسط (لم ينعقد بالتالي).

ولقد استمرت هذه الحال، حتى رضخ رابين. وفي أغسطس (آب) استأنف كيسنجر جولاته المكّوكية لأسبوعين، وأسفرت عن اتفاق جديد بين مصر إسرائيل، يؤكد أن البلدين يحرصان على تسوية الصراع بالطرق السلمية. وانسحبت إسرائيل إلى خط العريش - رأس محمد.

المصاحة التاريخية في كامب ديفيد بين السادات وبيغن برعاية كارتر (غيتي)

«كامب ديفيد»

في عام 1978، بدأ الرئيس جيمي كارتر محاولاته للسلام بين مصر وإسرائيل. إلا أنه قبل «مؤتمر كامب ديفيد» اصطدم برفض إسرائيلي مطلبين مصريَّين: الأول إنشاء مكتب ارتباط مصري في قطاع غزة تمهيداً لإنهاء الاحتلال. والثاني بدء مشروع استخراج النفط مقابل سيناء.

عندها حضر كارتر إلى القدس واجتمع بالحكومة الإسرائيلية، وراح يهدّد: «لقد وعدت السادات بأن توافقوا ولن أسمح لكم بتخييب أملي»... بيد أن هذا الضغط لم ينجح. وفي كامب ديفيد جدّد كارتر تهديده لرئيس الحكومة الإسرائيلي مناحم بيغن بـ«إعادة النظر في العلاقات بين البلدين». ومع أن الخلافات طويت إثر نجاح المؤتمر، ذكر باحثون أن كارتر «تكلم مع قادة إسرائيل بعدائية وفوقية واضحة»... و«أنه لو فشلت المفاوضات لكانت فعلاً بداية أزمة تاريخية». ولقد نُشرت اقتباسات من بيغن بلغت حد اعتبار كارتر «معادياً للسامية»، واقتباسات من كارتر تعدّ بيغن «كذاباً محترفاً ومتغطرساً».

ولاحقاً، وقفت غالبية اليهود الأميركيين ضد إعادة انتخاب كارتر لفترة رئاسية ثانية - إذ هبط تصويت اليهود له من 71 في المائة عام 1976 إلى 45 في المائة عام 1980 -. إلا أن الرئيس رونالد ريغان الذي حظي عام 1980 بتأييد الغالبية اليهودية، وبشكل خاص حكومة بيغن، دخل في صدامات عدة مع إسرائيل. ذلك أنه، عام 1981 قرّر ريغان إبرام صفقة لبيع طائرات «آواكس» للمملكة العربية السعودية، واعترضت إسرائيل بحجة أن الصفقة تمس بأمنها، وجنّدت عدداً من «اللوبيات» لمحاربتها، ومع أنها أغضبت ريغان، فإن ضغوطها فشلت... ونُفّذت الصفقة.

وعام 1981 أيضاً، دمّرت إسرائيل المفاعل النووي العراقي قرب بغداد، من دون التنسيق مع واشنطن. ومجدداً غضب ريغان وقرّر تجميد قرار تسليم إسرائيل طائرات «إف 16». وفقط بعد 6 أشهر حصل تفاهم بينهما أعاد تسليم أول دفعة من الطائرات.

لكن ريغان عاد فاضطر إلى تجميد القسم الثاني من صفقة الطائرات عام 1982، عندما رفض بيغن خطة السلام التي اقترحها لتسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. فقد تضمّنت الخطة الانسحاب الإسرائيلي من معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 وإنشاء كيان فلسطيني مستقل فيها. لكن غضب ريغن استغرق 3 أشهر، وطوى خطته وأعاد التفاهم مع بيغن.

الجاسوس بولارد

عام 1985 نشبت أزمة جديدة في العلاقات عندما أُلقي القبض على جوناثان بولارد، وهو محلل استخبارات مدني في القوات البحرية الأميركية، بتهمة التجسس واستغلال منصبه لتسريب معلومات لصالح إسرائيل. ولقد تنازل بولارد عن الحق في المحاكمة مقابل القيود المفروضة على الحكم، وأقرّ بأنه مذنب، فأدين لكونه جاسوساً لحساب إسرائيل، ثم حُكم عليه بالسجن مدى الحياة في عام 1986، بينما نفت إسرائيل حتى عام 1998 أن يكون بولارد جاسوساً لحسابها.

مشروعات شمير الاستيطانية

عام 1991 كان «بطل تأزم العلاقات» رئيس الوزراء إسحق شمير، الذي عُدّ أسوأ رئيس حكومة في التاريخ الإسرائيلي (بعد بنيامين نتنياهو). إذ أعلن شمير مشروعات عدة لتوسيع الاستيطان وقت التحضير لـ«مؤتمر مدريد للسلام»، ما أثار غضب الرئيس جورج بوش «الأب». لكن شمير استرضاه، بأن حضر بنفسه المؤتمر الذي عُقد على مستوى وزراء الخارجية، وكان برفقته نتنياهو، الذي كان نائباً لوزير الخارجية وناطقاً بلسان الوفد الإسرائيلي.

مع هذا، ضُبِط شمير وهو يروي لمسؤولين أنه إنما وافق على خوض مسار مدريد كي يماطل في المفاوضات إلى أبد الآبدين. عندها فقط أدركت واشنطن أن شمير يجهض المشروع، فقرّر بوش سلسلة عقوبات أقساها القرار بإلغاء الضمانات الأميركية لإسرائيل بقيمة 10 مليارات دولار. وأحدث هذا القرار «زلزالاً» في إسرائيل يُعزى إليه سقوط شمير في الانتخابات اللاحقة وانتخاب إسحق رابين مكانه.

نحن نسيطر على أميركا

بعدها، في ظل حكم أرئيل شارون، أيضاً بدأت العلاقات بشكل سلبي، لكنها تحسّنت بعد قبوله بالانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية وفق خطة الانفصال. ومن الدلائل على الخلافات، روى المؤرخ توم سيجف أنه، يوم 3 أكتوبر 2001، دعا شارون المجلس الوزاريّ - الأمنيّ المُصغّر في حكومته إلى اجتماع لتدارس الدعوة الأميركيّة لإسرائيل بوقف إطلاق النار في الضفّة الغربيّة المُحتلّة. وخلال النقاش اعترض شمعون بيريس، على اتخاذ أي إجراء يستفزّ الحلفاء في واشنطن، إلا أن شارون ردّ عليه «لا تقلق يا عزيزي بشأن الضغط الأميركيّ، نحن الشعب اليهوديّ نُسيطر على أميركا، والأميركيون يعرفون ذلك. القدس: نظير مجلي

نتنياهو (آ ف ب/غيتي)

عهد بنيامين نتنياهو... شهد أسوأ فترات عاشتها العلاقات

يبقى أن أسوأ فترة مرَّت فيها علاقات الولايات المتحدة مع إسرائيل هي فترة - أو فترات - حكم بنيامين نتنياهو. والواقع أنه من أول أيام انتخاب نتنياهو لرئاسة الوزراء، في أول مرة، بعد اغتيال إسحق رابين، وهو يخوض معارك ابتزازية متتالية مع الإدارات الأميركية. وبدأ ذلك المسلسل عام 1996، عندما انتخب وحاول التلاعب في تنفيذ «اتفاقيات أوسلو». وللعلم، في تلك الفترة كان نتنياهو يتصرف كرئيس حكومة قوي، لم تكن قد أُعدت ضده لوائح اتهام بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشى، ولم يكن يخشى كما هو اليوم الحكم عليه بالسجن. فقبل بدء محاكمته (عام 2020)، كان نتنياهو شخصية مختلفة. لقد تطاول نتنياهو على واشنطن، وأخذ صوته يرتفع ويشتد بالتدريج، لكن الأميركيين في عام 1996 أوقفوه عند حده، وأخذوا يُسمِعونه تهديدات بوقف المساعدات، فألقى خطاباً قال فيه إنه ينوي التنازل عن هذه المساعدات، وإن وضع إسرائيل الاقتصادي جيد ولا تحتاج إليها. بيد أن الرئيس بيل كلينتون ردَّ عليه بإرسال وفد رفيع ليفاوض على إنهاء هذه المساعدات... ووصل الوفد فعلاً، فتراجع نتنياهو. مع هذا أصر الأميركيون على إلغاء المساعدات المالية، وتحوّلت المساعدات إلى عسكرية. وهكذا عاد نتنياهو وسار بتنفيذ قسم من «اتفاقيات أوسلو»، خصوصاً بعد «حرب النفق» تحت المسجد الأقصى، في سبتمبر (أيلول) 1997، التي استمرت 3 أيام، وقُتِل فيها 100 جندي فلسطيني و17 جندياً إسرائيلياً. وحينذاك دعا كلينتون كلاً من نتنياهو والرئيس ياسر عرفات إلى واشنطن، بمشاركة الملك حسين، وجرى التوقيع على «اتفاقية الخليل» (انسحبت إسرائيل من مساحة 85 في المائة من مدينة الخليل)، ولاحقاً انسحبت من 13 في المائة من الضفة الغربية. في عام 2010، تفجر خلاف جديد في عهد نتنياهو، إذ بدا يخطط لشن حرب على إيران ووقفت واشنطن ضده. لكن نتنياهو خاض معركة خاسرة من البداية لأن جميع قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية عارضوه (الجيش والموساد وأمان والشاباك). واكتشف عندها وجود مفاوضات سرية بين واشنطن وطهران لتوقيع «الاتفاق النووي». وعندها راح يحارب «الاتفاق» سياسياً، ودخل في صدام مباشر مع الرئيس باراك أوباما، لدرجة التدخل في انتخابات الرئاسة لإسقاط أوباما. كذلك ألقى خطاباً ضد «الاتفاق النووي» في الكونغرس عام 2015 من دون ترتيب مع البيت الأبيض. وتعمق الخلاف لدرجة أن أوباما لم يستخدم «الفيتو» في قرار مجلس الأمن الدولي ضد الاستيطان. ولكن عندما فاز دونالد ترمب بالحكم، ازدهرت العلاقات الثنائية، وحقق نتنياهو إنجازات لسياسة اليمين، كالاعتراف بضم الجولان السوري لإسرائيل، وإعلان «صفقة القرن»، ومعاقبة رفض الفلسطينيين لها بالاعتراف بضم القدس لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وإغلاق القنصلية الأميركية التي تخدم الفلسطينيين، وإغلاق مكاتب منظمة التحرير في واشنطن. ومع سقوط ترمب، عادت العلاقات إلى التوتر، بسبب إجهاض نتنياهو كل المحاولات للعودة إلى المسار السياسي. هذه المرة، وقف الرئيس جو بايدن ضد نتنياهو، بسبب خطته الانقلابية على منظومة الحكم، ورفض استقبال نتنياهو في البيت الأبيض، بل ودعم علناً حملة الاحتجاج ضد الحكومة وخطتها الانقلابية. وبحسب قادة حملة الاحتجاج، فإن تلك «المعركة» اقتربت من نهايتها، وكادت تسقط حكم نتنياهو، لولا هجوم «حماس»، في أكتوبر (تشرين الأول). هنا حاول بايدن إظهار الدعم المطلق لإسرائيل رغم خلافاته مع نتنياهو، قائلاً إنه يفرق بين حكومة إسرائيل وشعب إسرائيل. وظل الدعم مطلقاً، رغم أن الرد الإسرائيلي على هجوم «حماس» كان مرعباً، واستخدمت فيه أدوات تدمير وقتل وحشية، غالبيتها من صنع أميركي. وأيضاً حضر بايدن لإسرائيل ليعلن مدى انتمائه إلى الصهيونية، ونظم جسراً جوياً وآخر بحرياً شمل 130 شحنة أسلحة وذخيرة، وبينها أسلحة تُستخدم للمرة الأولى. وقدم دعماً بقيمة 14.3 مليار دولار ليصبح مجموع ما قدمته واشنطن لإسرائيل منذ قيامها نحو 170 مليار دولار، بجانب منح إسرائيل غطاءً سياسياً وإعلامياً واستخبارياً وقضائياً. لكن نتنياهو ووزراءه من اليمين المتطرف لم يرضوا ولم يشبعوا. ولم يتردد بعضهم في اتهام بايدن وأركان فريقه بدعم وتشجيع «حماس». واليوم، يقود نتنياهو حملة للتصوير إسرائيل «وحيدة بلا أصدقاء»... لكنه قادر على قيادتها في معركة الاعتماد على الذات، أي من دون واشنطن.


أندريه بيلوسوف... خبير اقتصادي ناجح يتربّع على مقعد وزير الدفاع في روسيا

يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية
يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية
TT

أندريه بيلوسوف... خبير اقتصادي ناجح يتربّع على مقعد وزير الدفاع في روسيا

يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية
يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية

العنوان الرئيسي الذي لفت الأنظار في المناقلات والتعيينات التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فور تسلمه رسمياً مهام ولايته الرئاسية الخامسة، لم يكن إقالة سيرغي شويغو وزير دفاعه لسنوات طويلة وصديقه المقرب، بل تعيين أندريه بيلوسوف رجل الاقتصاد الذي عمل لسنوات طويلة بصمت، بعيداً عن الأضواء، حتى إن كثيرين من الروس لا يكادون يعرفون على وجه الدقة طبيعة المهام الكبرى التي كُلّف بتنفيذها في مرحلة تُعد الأصعب في تاريخ روسيا المعاصر. وهكذا انهالت التعليقات، من كل صوب وحدب، وسارع مسؤولون ووسائل إعلام بارزة لإطلاق وصفات جاهزة، لتفسير قرار وضع الخبير الاقتصادي على مقعد وزير الدفاع. بعضهم رأى في القرار دليلاً على «يأس» فلاديمير بوتين، وفق واشنطن. في حين انبرى محللون لتكرار مقولة إن إسناد الكرملين وزارة الدفاع إلى رجل «لم يلبس قط البدلة العسكرية» يضع علامات استفهام كبرى حول قدرته على قيادة الجيش في ظروف معركة مصيرية بالنسبة إلى روسيا.

خلافاً للتكهنات الكثيرة خارج الحدود، وبعيداً عن مصنع القرار الروسي، بدا الكرملين واثقاً من خياراته الأخيرة، ومقتنعاً بأن من شأن اختيار أندريه بيلوسوف لقيادة وزارة الدفاع «إعادة تشغيل» القطاعات الصناعية والاقتصادية كلها في إطار «اقتصاد الحرب» وتحت شعار توجيه مقدرات البلاد لـ«خدمة المعركة».

ولكن مَن بيلوسوف؟ ولماذا حظيَ بثقة بوتين الواسعة، وبات بين الأسماء البارزة على لوائح العقوبات الغربية؟ وفي التساؤلات أيضاً: ماذا سيفعل خبير الاقتصاد الذي فضَّل طويلاً أن يعمل بصمت خلف الأضواء، في منصب وزير الدفاع الروسي؟

خبير ابن خبير

كان أندريه بيلوسوف، وهو نجل خبير اقتصادي سوفياتي بارز، يعمل في الأوساط الأكاديمية قبل ضمه إلى الحكومة عام 1999، واستمر في مناصب اقتصادية، منها وزير التنمية الاقتصادية، والمستشار الاقتصادي لبوتين، حتى شغل عام 2020 منصب النائب الأول لرئيس الوزراء، في مرحلة صعبة للغاية خلال مواجهة تداعيات تفشي «كوفيد - 19» على المجتمع والاقتصاد. وطوال تلك الفترة، دعا بيلوسوف باستمرار إلى دور قوي للدولة في الاقتصاد، وإلى تحفيز نموها عبر الاستثمارات، وأسعار الفائدة المنخفضة، والسياسات المالية والائتمانية الناعمة.

وُلد أندريه بيلوسوف عام 1959 في موسكو لعائلة الاقتصادي ريم ألكساندروفيتش بيلوسوف، وعالمة الكيمياء الإشعاعية أليسا بافلوفنا بيلوسوفا. وكان الأب خبيراً اقتصادياً مرموقاً يُعد -وفقاً لتقارير- «مؤسس» المدرسة العلمية السوفياتية في مجال التسعير والإدارة، وكان أحد المشاركين في إعداد «إصلاحات كوسيغين»، نسبةً إلى رئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كوسيغين الذي قاد مرحلة من التغييرات الاقتصادية هدفت إلى توسيع اللامركزية في تبني القرارات الاقتصادية. أما الأم فكانت عالمة في مجال الكيمياء الإشعاعية، ودرّست لسنوات طويلة كيمياء العناصر النادرة.

تميُّز أكاديمي وبحثي

في هذا الوسط الأكاديمي العلمي شبّ الابن أندريه، مما ترك انعكاسات مهمة على كل مراحل حياته العملية لاحقاً، لجهة الرصانة في أداء عمله والاهتمام بكل التفاصيل، فضلاً عن روح الابتكار في نشاطه المهني.

وبعد التخرّج في المدرسة الثانية للفيزياء والرياضيات، التحق أندريه بكلية الاقتصاد في جامعة موسكو الحكومية، وتخرّج فيها بمرتبة الشرف عام 1981 متخصصاً بـ«التحكم الآلي الاقتصادي». وهناك برزت مواهبه باكراً جداً، ففي أثناء دراسته، بدأ التعاون مع مجموعة من الاقتصاديين البارزين تحت قيادة ألكسندر أنشيشكين، الذي كان في 1977 - 1981 رئيساً لقسم تخطيط الاقتصاد الوطني لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو الحكومية.

ولاحقاً، عمل بيلوسوف في «معهد الاقتصاد وتوقّع التقدم العلمي والتكنولوجي» التابع لأكاديمية العلوم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، الذي أُسس عام 1986 على أساس عديد من الأقسام العلمية لمعهد الاقتصاد المركزي، وفيه شغل على التوالي مناصب باحث مبتدئ، فباحث، فباحث كبير. ولقد تركّزت أولوياته البحثية على رصد اتجاهات الاقتصاد الكلي، فضلاً عن التضخّم والأزمة الهيكلية في الاقتصادات على النمط السوفياتي. وبهذا المعنى أدرك باكراً مشكلات الاقتصاد الاشتراكي، لكنه في الوقت ذاته، ظل مؤمناً بنظريات سيطرة الدولة على المقدرات الاقتصادية والتشغيلية.

عام 1991 المفصليّ

كان عام 1991 حاسماً لبيلوسوف كما كان حاسماً لمصير البلاد كلها. وحينذاك عُيّن رئيساً لمختبر التحليل وتوقُّع عمليات الاقتصاد الكلي في معهد الاقتصاد والتكنولوجيا التابع لأكاديمية العلوم، وسرعان ما أصبح عضواً في المجموعة التحليلية لجمعية السياسة الخارجية التي شُكلت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، وعُرفت باسم «مجموعة بيسميرتنيخ»، (على اسم مؤسسها وزير خارجية اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق ألكسندر بيسميرتنيخ).

في تلك المرحلة كان الاتحاد السوفياتي قد لفظ أنفاسه الأخيرة. لكن الرجل واصل مساره بشكل ثابت، وأسس عام 2000 «مركز الدراسات والتوقّع (أو الرصد)» الذي لعب أدواراً مهمة في المرحلة اللاحقة، رشّحته بقوة ليغدو أحد أبرز رجال الاقتصاد في عهد بوتين. إذ أعدَّ تقريراً بالغ الأهمية عام 2005 حول «الاتجاهات طويلة المدى في الاقتصاد الروسي: سيناريوهات التنمية الاقتصادية لروسيا حتى عام 2020». وتوقّع التقرير حدوث الأزمة الاقتصادية عام 2008، كما أشار إلى احتمال حدوث ركود اقتصادي في 2011 - 2012 وفشل نظام الإدارة العامة. وكلها توقّعات جسّدتها التطوّرات اللاحقة.

ولكن، لعل من المفارقات هنا أن الرجل الذي يحظى حالياً بثقة مطلقة من جانب بوتين، عمل لسنوات طويلة بمنح مالية من جانب الولايات المتحدة؛ إذ تلقى بيلوسوف منحاً من «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية». والمفارقة الأهم، أن الذين يحصلون على هذه المنحة اليوم يُدرجون فوراً على لائحة «العملاء الأجانب» ويُحظر تعيينهم في مناصب حكومية.

في عام 2004، نشر بيلوسوف بأموال أميركية تقريراً بعنوان: «تنمية الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط: تحليل التهديدات»، محللاً حالة الدفاع عن روسيا. وفي العام التالي، عُيّن مديراً لمشروع «شروط تحقيق المزايا التنافسية للاقتصاد الروسي (النهج الهيكلي الكلي)» الذي أُطلق أيضاً بأموال أميركية.

بيد أن تلك المرحلة من حياته لم تؤثر في مسيرته السياسية. فعام 1999 أصبح عضواً في مجلس إدارة وزارة الاقتصاد، وعمل مستشاراً لعدد من رؤساء الحكومة الروسية: يفغيني بريماكوف، وسيرغي ستيباشين، وميخائيل كاسيانوف، وميخائيل فرادكوف.

في الخدمة العامة

دخل بيلوسوف الخدمة العامة، رسمياً عام 2006، وتولّى منصب نائب وزير التنمية الاقتصادية. وفي هذا المنصب أشرف على كتلة الاقتصاد الكلي، بما في ذلك قضايا تحسين مناخ الاستثمار، وتنفيذ البرامج المستهدفة الفيدرالية، والأنشطة الاستثمارية لـ«مصرف التجارة الدولي» أكبر مصرف حكومي في البلاد. وتحت قيادته طُوّر عام 2020 مفهوم التنمية الاجتماعية والاقتصادية طويلة المدى.

لكنَّ النقلة الرئيسية في الجهاز الحكومي لبيلوسوف جاءت عام 2008، عندما عيّنه بوتين (رئيس الوزراء آنذاك) مديراً لدائرة الاقتصاد والمالية التابع لمجلس الوزراء. وفي تلك الفترة بين 2008 و2012، التي أمضاها بوتين رئيساً للوزراء قبل عودته رئيساً إلى الكرملين، بدأ العمل المباشر مع بيلوسوف، الذي حظي بثقة كبرى من بوتين وصار من الدائرة المقربة إليه، وغدا مع النائب الأول لرئيس الوزراء إيغور شوفالوف، ووزيرة التنمية الاقتصادية إلفيرا نابيولينا، المسؤولين عن صياغة الأجندة الاقتصادية للحكومة. وبالإضافة إلى ذلك، صار مسؤولاً عن القضايا المتعلقة بإعداد الميزانية والاستثمار العام وتحسين مناخ الاستثمار. وبمشاركته، أُسّست وكالة المبادرات الاستراتيجية وأُطلقت ما تسمى «المبادرة الوطنية لريادة الأعمال» على أساسها، هادفةً إلى تحسين ظروف ممارسة الأعمال التجارية في روسيا.

وزيراً للتنمية الاقتصادية

وبعدها، فور عودة بوتين إلى الكرملين عام 2012، عيّن بيلوسوف وزيراً للتنمية الاقتصادية، ثم مساعداً للرئيس الروسي للشؤون الاقتصادية. قبل أن يغدو عام 2020 نائباً أول لرئيس الوزراء ومسؤولاً مباشراً عن القطاع الاقتصادي في الحكومة. ومن هذا المنصب واجه الرجل تفشي «كوفيد - 19»، وأظهر براعةً في تقليص الأضرار على الاقتصاد، كما واجه لاحقاً تداعيات رُزم العقوبات التي انهالت على روسيا بعد قرار إطلاق الحرب في أوكرانيا في 2022.

وبناءً عليه، يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية. فقد تعامل مع مشكلات السوق وعدّل التدابير لدعم الشركات الروسية في ظروف الحصار. وساهم في تحسين مناخ الاستثمار وتقليص تداعيات العقوبات، خصوصاً من خلال برامج أطلقها بشأن حماية وتشجيع الاستثمار في الظروف الراهنة، لا سيما على صعيد الضرائب والرسوم الجمركية وتعويض تكاليف أضرار البنى التحتية.

أيضاً، يُعد بيلوسوف مُطلق مشاريع تعديل مسار سلاسل التوريد، وقد أسهم في «طرح» الهيكل اللوجيستي الجديد، وبناء ممرّات نقل لإعادة توجيه التجارة الخارجية لروسيا ومنها وآليات التعامل مع أسواق جديدة.

وكان أحد مشاريع بيلوسوف الأخيرة، بصفته النائب الأول لرئيس الحكومة، بلوَرة استراتيجية «السيادة التكنولوجية» القائمة على ضمان تنمية الاقتصاد الروسي في المجالات الرئيسية، بالاعتماد على موارده العلمية والتكنولوجية الخاصة. وتحديداً، أعدَّ مفهوماً للتطور التكنولوجي في الاتحاد الروسي ينصّ على تقليص الفجوة بين العلم والإنتاج في إطار مشاريع الابتكار الكبيرة بمشاركة الدولة، وتطوير آليات لدعم الابتكار في الاتحاد الروسي -في مفهوم التقنيات الحيوية (المطلوبة الآن) والتقنيات الشاملة (تقنيات المستقبل الواعدة).

ماذا سيفعل الآن في وزارة الدفاع؟

يرى البعض أن أهمية تعيين بيلوسوف وزيراً للدفاع تكمن في ضرورة التعامل مع متطلبات تسخير موارد الدولة الروسية لخدمة الجبهة، وفي الوقت ذاته تحاشي إهمال القطاعات الأخرى التي تؤثر بشكل مباشر على الجبهة الداخلية. فالدولة تستثمر حالياً موارد هائلة في الصناعة العسكرية وفي بعض قطاعات الصناعة المدنية المرتبطة بها والضرورية جداً لسد الفجوات الحاصلة بسبب العقوبات. وبالتالي، طبيعي أن تتمثل الاستراتيجية العسكرية للسلطات الروسية في تقليص الخسائر على كل المستويات. وكذلك يجب إيلاء أقصى قدر من الاهتمام للخدمات اللوجيستية، مع المحافظة على أعلى درجة ممكنة من الشفافية وخفض مخاطر الفساد في الظروف الراهنة... وهو أمر برع فيه بيلوسوف.

اليوم يقول خبراء إن التكليف أشبه بعملية «إعادة تشغيل» السلطة التنفيذية برمّتها. وقد يكون تعليق ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، الأكثر وضوحاً ودقة عندما قال: «في ساحة المعركة، الفائز الآن هو الطرف الأكثر انفتاحاً على الابتكار والتنفيذ الأكثر كفاءة».

لشرح هذه الفكرة قال بيسكوف: «موازنة وزارة الدفاع والكتلة الأمنية كانت في الآونة الأخيرة في حدود 3 في المائة، ثم ارتفعت إلى 3.4 في المائة. وفي الآونة الأخيرة وصلت إلى 6.7 في المائة. وليس خافياً أن وزارة الدفاع مسؤولة عن تقديم جميع الطلبات للصناعة. وهذا ليس رقماً حاسماً بعد، فهو ماضٍ باتجاه تصاعدي (...) لأسباب جيوسياسية معروفة. إننا نقترب تدريجياً من الوضع الذي كان عليه في منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت حصة الإنفاق على الكتلة الأمنية العسكرية أكثر من 7 في المائة. هذا مهم للغاية، ويتطلّب موقفاً خاصاً لجهة ضرورات الدمج بين متطلبات اقتصاد كتلة القطاع العسكري مع اقتصاد البلاد ككل».

إذاً، مهمة أندريه بيلوسوف، كاقتصادي متخصّص ورؤيوي استراتيجي، هي بناء أساس اقتصادي وبنية تحتية للجيش للقتال على المستوى التكنولوجي المناسب، وإحلال نظم جديدة توازن بين المتطلبات العسكرية في المرحلة الراهنة لخدمة الجبهة مع حاجات القطاعات الاقتصادية والصناعية في البلاد.

ولذا كان بدهياً أن يُجمل بيلوسوف، في أثناء عرض ترشيحه لتولي وزارة الدفاع في مجلس الفيدرالية (الشيوخ)، المهمة الرئيسية التي كُلّف بها في «تحقيق النصر في ساحة المعركة في أوكرانيا بأقل قدر من الخسائر في القوات». فضلاً عن التركيز «على حاجة القطاع العسكري إلى مزيد من الكفاءة والابتكار لتحقيق أهدافه».

وباختصار، يبدو من تعيين بيلوسوف أن بوتين يريد سيطرة أوثق على الإنفاق الدفاعي القياسي في روسيا، وإطلاق عملية إصلاح واسعة تقود إلى تعزيز قدرات البلاد الصناعية في مرحلة الحرب وما بعدها. يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية


وزراء دفاع الكرملين... من قصف البرلمان إلى شبهات الفساد

شويغو (رويترز)
شويغو (رويترز)
TT

وزراء دفاع الكرملين... من قصف البرلمان إلى شبهات الفساد

شويغو (رويترز)
شويغو (رويترز)

> كان العقيد الجنرال قسطنطين، أول وزير دفاع لروسيا في مرحلة الانتقال من العهد السوفياتي إلى الدولة الجديدة. ولقد وصل إلى منصبه بفضل ولائه للتيار «الديمقراطي» الذي قاد الانقلاب على الحكم السوفياتي. إذ كان يشغل منصب نائب رئيس الأركان عندما وقع انقلاب أغسطس (آب) 1991 ضد ميخائيل غورباتشوف الذي مهّد للإعلان الرسمي لنهاية الاتحاد السوفياتي. وبسبب دعم كوبيتس المطلق لبوريس يلتسين عُيّن وزيراً للدفاع في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية. وشغل هذا المنصب لمدة 19 يوماً، ثم في 9 سبتمبر (أيلول) 1991 أُلغي المنصب.

بين 1992 و1996 تولى الجنرال بافيل غراتشيف منصب وزير الدفاع، وبرز اسمه بقوة في العام التالي إبّان أزمة البرلمان الذي رفض الانصياع لأوامر يلتسين فأمر الأخير الجيش بقصف رمز الديمقراطية الجديدة لروسيا بالدبابات. لكنَّ هذا لم يكن وحده أبرز «إنجازات» غراتشيف، بل قاد في شتاء 1994 - 1995 العمليات العسكرية للجيش الروسي في الشيشان التي أعلنت انفصالها عن الدولة الروسية. ويومذاك اتهم غراتشيف بارتكاب انتهاكات واسعة، مما دفع يلتسين عام 1996 للخضوع لضغوط غربية بعزله عن منصبه في 2016.

في يونيو (حزيران) 1996، نفّذ واجبات وزير الدفاع مؤقتاً رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، جنرال الجيش ميخائيل كوليسنيكوف. وفي يوليو (تموز) من العام نفسه، أصبح الجنرال إيغور روديونوف وزيراً للدفاع، واقترح تعيينه أمين مجلس الأمن ومساعد الرئيس للأمن القومي ألكسندر ليبيد، الذي كان على خلاف مع غراتشيف. ولكن في ديسمبر (كانون الأول) 1996، فُصل روديونوف من الخدمة العسكرية لدى بلوغه سن التقاعد، لكنه احتفظ بمنصب رئيس الإدارة العسكرية لستة أشهر أخرى. وفي مايو (أيار) 1997 أُعفي من منصبه بسبب تعثر الإصلاح العسكري.

بعدها عُيّن وزيراً للدفاع الجنرال إيغور سيرغييف، الذي شغل سابقاً منصب قائد قوات الصواريخ الاستراتيجية. ومعه أُطلقت عملية واسعة لتقليص عديد الجيش وإجراء تغييرات واسعة في المؤسسة العسكرية، أسفرت حتى عام 2000 عن انخفاض عديد القوات المسلحة من 2.341 مليون إلى 1.2 مليون شخص. ومنذ صيف عام 1999 قاد سيرغييف، بصفته وزيراً للدفاع، الحرب الشيشانية الثانية التي حملت اسم «عملية مكافحة الإرهاب في شمال القوقاز» وظل في منصبه حتى عام 2001.

سيرغي إيفانوف أصبح أول وزير دفاع يعيّنه فلاديمير بوتين، بعد تسلمه قيادة روسيا. وكان نقله عام 2001 من وكالات الاستخبارات الأجنبية ومجلس الأمن، ليتولى الوزارة، وليشغل بين و2007 أيضاً منصب نائب رئيس الوزراء والمشرف الأول على صناعات الدفاع.

ثم عيَّن بوتين أناتولي سيرديوكوف وزيراً للدفاع مع أنه لم يسبق للأخير شغل مناصب عليا في الأجهزة الأمنية والعسكرية. ولذا بات أول مدني يتولى الوزارة، قبل بيلوسوف بسنوات. كما أنه، مثل بيلوسوف، جاء من خلفية اقتصادية، إذ كان رئيساً لدائرة الضرائب قبل توليه المنصب. وفي عهد سيرديوكوف خفّض عديد الجيش إلى أقل من 800 ألف عسكري، وأُجريت تغييرات جذرية في الهيكل التنظيمي والوظيفي للمؤسسة العسكرية. إذ أُغلقت عشرات المدارس العسكرية، وقُلّص عدد المعسكرات من 7500 إلى 200، وفي المقابل بدأت عملية إعادة تسلح واسعة وعملية تحديث للجيش الروسي وفّرت موازنات ضخمة أسالت لعاب موظف الضرائب السابق، الذي انزلق إلى عمليات فساد واسعة أسفرت عن طرده من منصبه وملاحقته قضائياً في عام 2012 بعد اتهامه بسرقات واختلاسات كبرى في مؤسسة «أبورون سيرفيس» التابعة للوزارة.

على الأثر اضطر بوتين للاعتماد على صديقه المقرب سيرغي شويغو، الحاكم السابق لمنطقة موسكو ثم وزير الطوارئ. وإبان تولي شويغو منصب وزير الدفاع، ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم (2014)، وشاركت في عمليات عسكرية في سوريا (منذ 2015)، وأطلقت «عملية عسكرية خاصة» في أوكرانيا (2022). لكنّ شبهات الفساد ظلت تحوم حول وزارة الدفاع في عهده، واعتُقل عدد من كبار المسؤولين فيها بينهم نائب الوزير تيمور إيفانوف.

أيضاً شهد عهد شويغو أسوأ اختبار داخلي في البلاد بعد تمرد مجموعة «فاغنر» منتصف العام الماضي، بسبب خلافات رئيسها يفغيني بريغوجين، مع شويغو واتهامه على الملأ بالفساد، وبأنه لا يلبّي في منصبه احتياجات الحرب المصيرية في أوكرانيا.


تشاد تعبر اختبار «الديمقراطية الشكلية»

مسؤول فرز الأصوات في أحد مراكز الاقتراع بالعاصمة التشادية ندجامينا (آ ف ب)
مسؤول فرز الأصوات في أحد مراكز الاقتراع بالعاصمة التشادية ندجامينا (آ ف ب)
TT

تشاد تعبر اختبار «الديمقراطية الشكلية»

مسؤول فرز الأصوات في أحد مراكز الاقتراع بالعاصمة التشادية ندجامينا (آ ف ب)
مسؤول فرز الأصوات في أحد مراكز الاقتراع بالعاصمة التشادية ندجامينا (آ ف ب)

خطت تشاد خطوة محفوفة بالمخاوف والحذر، على طريق العودة إلى النظام الدستوري، والممارسة السياسية، وذلك بإنجاز الاستحقاق الرئاسي، وإعلان فوز رئيس المرحلة الانتقالية، محمد إدريس ديبي، من الجولة الأولى للاقتراع. وتأتي هذه الخطوة التي عدّها بعض المتابعين «شكلية» لتنهي فترة انتقالية استمرت 3 سنوات، قادها مجلس عسكري برئاسة ديبي، إثر مقتل والده الرئيس السابق إدريس ديبي، في عام 2021. في تشاد، مَن ينظر إلى هذا الاستحقاق على أنه عبور إلى «نقطة تحول سلمية» ونجاح في «اختبار الديمقراطية»، ولو نسبياً، في مقابل آخرين يرون أن الأمر لم يخرج عن «ممارسة شكلية، تحكّمت فيها العصبيات، لتمدد لحكم عائلة ديبي» الذي امتد لأكثر من 3 عقود مع ديبي الأب (1990 - 2021). ويقود جبهة المشككين في الاستحقاق الرئاسي التشادي حزب المعارضة زاعماً وجود مخالفات في عمليات الاقتراع.

الرئيس السابق الراحل إدريس ديبي (رويترز)

وسط التوترات السياسية والأمنية على امتداد منطقة الساحل في أفريقيا ودول الجوار، يرى مراقبون أن العودة إلى النظام الدستوري في تشاد تتطلب استقراراً سياسياً حقيقياً في ضوء معطيات تتعلق بالتحديات الداخلية، لا سيما إشكالية الوفاق الوطني التي لم تكتمل والمعضلة الاقتصادية، بجانب تأثيرات المشهد الإقليمي وحالة التنافس الدولي في الساحل الأفريقي.

لقد صادق المجلس الدستوري في تشاد، نهاية الأسبوع الماضي، على نتائج الانتخابات الرئاسية بتأكيد فوز محمد ديبي، حاصلاً على 61.03 في المائة من إجمالي الأصوات، ومتغلباً على أقرب منافسيه ورئيس وزرائه السابق سيكسيه ماسرا، ورئيس الوزراء الأسبق باهيمي باداكي الذي حلّ ثالثاً بأقل من 10 في المائة.

أبرز التحديات أمام الرئيس ديبي الابن، بحسب محللين، كان إضفاء الطابع المدني والدستوري على نظام حكمه مستقبلاً، ولذا خاض الانتخابات ممثلاً ائتلافاً سياسياً مدنياً باسم «تشاد المتحدة»، في مواجهة غير مسبوقة مع رئيس وزرائه ماسرا، الذي ترشح باسم «ائتلاف العدالة والمساواة»، بعدما عاد إلى البلاد قبل 6 أشهر من الانتخابات، بجانب 8 مرشحين آخرين بينهم امرأة، معظمهم ينتمي إلى منطقة جنوب تشاد.

مواجهة التشكيك

مسألة القبول بنتائج الانتخابات الرئاسية تبقى تحدياً حقيقياً لديبي في ظل تشكيك المعارضة التي قاطعت الانتخابات، واعتراض ماسرا على نتائجها، وإعلانه على «فيسبوك» أنه «تقدّم بطلب إلى المجلس الدستوري لإلغاء نتائج الاقتراع في الانتخابات»، كما حث أنصاره على الاحتجاج. غير أن رئيس حزب «حركة الخلاص التشادية» عمر المهدي بشارة، دعا التشاديين إلى «إعلاء المصلحة الوطنية العليا، وتجنيب المصالح الشخصية»، وأشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «القوى الغربية لن تترك بلاده تنعم بالاستقرار».

في أي حال، لدى النظر إلى تجارب الانتخابات السابقة في تشاد، يتبيّن أن الرئيس الراحل إدريس ديبي نجح في الصمود أمام قوى المعارضة الداخلية بالفوز 6 مرات في استحقاقات انتخابية خلال 3 عقود، مع أن تجربة الممارسة السياسية التشادية تشير إلى ضعف المعارضة السياسية وانقسامها وعجزها عن بلوغ السلطة إلا عبر الصدام المسلح.

وهذه المرة يفاقم مخاوف الاحتجاجات على نتائج الانتخابات، أن 7 مرشحين في هذه الانتخابات ينتسبون إلى الجنوب، وهي من المناطق التي تواجه توترات متصاعدة عمّقت الانقسامات القائمة على أساس الهوية، مع انتشار الجماعات المتمردة.

إذ تنتشر في تشاد جماعات من المعارضة المسلحة، أبرزها جماعة «اتحاد قوى المقاومة» التي سعت مراراً للوصول إلى العاصمة ندجامينا من أجل الإطاحة بالنظام، إلى جانب جبهة «التغيير والوفاق»، ومجلس «القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية» و«اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية»، وتتباين هذه الجماعات، وفق أهدافها، وعلى أسس عرقية.

الدبلوماسي بوزارة الخارجية التشادية محمد علي، يرى أن محمد ديبي (ديبي «الابن»)، فاز في الانتخابات مدعوماً بتحالف «تشاد المتحدة» الذي ضم نحو 235 حزباً سياسياً و1500 جمعية مدنية. وكان تكلم خلال حملته الانتخابية عن نجاحه في الوفاء بتعهده بإجراء الانتخابات في الأجل المحدّد لها، بعكس بلدان أفريقية أخرى.

المصالحة الداخلية

ورغم ما شهدته الفترة الانتقالية من حملات معارضة ضد المجلس العسكري الانتقالي، يرى البعض أن ديبي «أعاد هندسة الفترة الانتقالية، بطريقة تضمن له أن يظل محوراً لمعادلة الحكم». وفي مقال بعنوان «الفوضى في تشاد» لويزلي ألكسندر هيل، الخبير في شؤون أفريقيا والصين، نُشر بموقع «ناشونال إنتريست» في مارس (آذار) الماضي، اعتبر الخبير أن ما تشهده تشاد من توتر وأحداث عنف منذ الإعلان عن جدول الانتخابات الرئاسية في فبراير (شباط) الماضي، يدخل ضمن ما يُسمى بـ«الانقلاب الذاتي»، حيث يستولي رئيس الدولة على المزيد من السلطة من داخل جهاز الدولة نفسه.

في المقابل، ديبي كان قد أجرى خلال الفترة الانتقالية «حواراً وطنياً» لمعالجة التوترات السياسية الداخلية، عُقدت جولته الأولى في دولة قطر، وانتهت باتفاق سلام مع المعارضة المسلحة في أغسطس (آب) 2022 يقضي بوقف إطلاق النار، وعُقدت الجولة الثانية في ندجامينا خلال أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وانتهت بـ«خارطة طريق» مهّدت للانتخابات المنقضية.

الدكتور حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية في جامعة زايد بالإمارات العربية المتحدة الخبير في الشأن الأفريقي، كان قد قال لـ«الشرق الأوسط» إن المهمة الأساسية أمام الرئيس التشادي الجديد تنطوي على «استكمال المصالحة الوطنية الداخلية، وإنهاء صراعات النخبة الحاكمة، والسيطرة على خلافات القبائل نتيجة لسيطرة إثنية الزغاوة على الحكم لأكثر من 30 سنة».

وللعلم، تتسم التركيبة الديموغرافية لتشاد بالتنوّع القبلي والإثني؛ إذ تضم أكثر من مائتي مجموعة إثنية تمتد جذورها في دول الجوار المحيط بتشاد، أبرزها: السارا، والزغاوة، والتبو، والمساليت، والقبائل العربية. وبينما يرى متابعون أن تشكيك المشككين في الاستحقاق سيظل عائقاً أمام الرئيس الجديد، قلّل المحلل التشادي صالح يونس، من هذه المسألة، معتبراً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «ديبي الابن شخصية توافقية، ويدعمه ظهير شعبي مُسلم، والإسلام ديانة معظم التشاديين، فضلاً عن الدعم الغربي له، خصوصاً من فرنسا».

إلا أن الدكتور عبد الرحمن توقف عند ما أسماه «البُعد القبلي الهجيني» للرئيس الجديد؛ فهو ينتمي لقبائل الزغاوة من جهة الأب، ويحمل انتماء لقبائل التبو من جهة الأم؛ الأمر الذي يمكن استثماره على الصعيد الشعبي لتحقيق الوفاق الداخلي.

الجوار المضطرب

من جهة أخرى، يفرض الموقع «الجيوسياسي» لتشاد تحديات أمنية واقتصادية وسياسية، تنعكس اضطراباً يجمع شمالاً تهديدات جماعات المعارضة المسلحة المتمركزة في الجنوب الليبي، وغرباً أعمال جماعة «بوكو حرام» الإرهابية، فضلاً عن حالة انعدام الاستقرار جنوباً بجمهورية أفريقيا الوسطى، وتداعيات الحرب السودانية شرقاً، ومنها فرار مئات الآلاف من السودانيين لأراضيها. ووفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، استقبلت تشاد أكثر من 550 ألف لاجئ سوداني بحلول فبراير (شباط) الماضي، لتتصدر قائمة الدول المستقبلة للاجئين السودانيين الفارين من الحرب السودانية القائمة منذ أكثر من سنة.

محمد ديبي، على ما يبدو، يسعى للسير على نهج والده، بتحويل تلك المخاطر لصالحه، والظهور كلاعب إقليمي يُعتمد عليه في بناء الاستقرار السياسي والأمني في محيط يعج بالأزمات الأمنية والسياسية. وهو هنا أيضا يستند إلى قدرات الجيش التشادي، المصنف من أفضل جيوش منطقة الساحل، ويحتل الترتيب الخامس عشر أفريقياً، وفق تصنيف موقع «غلوبال فاير» العالمي لعام 2023.

وحقاً، لعبت تشاد أدواراً ناشطة في صراعات منطقة الساحل الأفريقي خلال العقد الماضي، عبر مشاركتها عام 2013 في الحرب على الجماعات الإرهابية في شمال مالي مع القوات الفرنسية، وتدخلها في الحرب على «بوكو حرام»، والمشاركة في قوة حفظ السلام الأفريقية بجمهورية أفريقيا الوسطى، ودعوتها لتدخل عسكري دولي في ليبيا.

وهنا، رأى الدبلوماسي التشادي، محمد علي، أن تشاد تقف في مواجهة تأثيرات أزمات جواره (ليبيا والسودان والنيجر)، واستشهد بـ«الأعباء الاقتصادية الكبيرة على بلاده نتيجة استقبال أكثر من نصف مليون لاجئ سوداني خلال الحرب الحالية، بالإضافة لنحو 3 ملايين آخرين كانوا موجودين من قبل».

وفي الوقت عينه يبقى تحدي مكافحة الإرهاب من التحديات الأمنية أمام الرئيس المنتخَب، إذ بات على حكومته خوض المواجهة بمقاربة وطنية، بعد إعلان تشاد وموريتانيا عن حل ائتلاف دول الساحل لمكافحة الإرهاب في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إثر انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

الرئيس محمد ديبي (آ ف ب)

التنافس الدولي

في سياق موازٍ، لا يمكن فصل تشاد عن مشهد التنافس الدولي في منطقة الساحل الأفريقي. فخلال الفترة الأخيرة أجبرت سلطات مالي وبوركينا فاسو والنيجر كلاً من فرنسا والولايات المتحدة على سحب قواتها من أراضيها، في مقابل تقارب مع روسيا بهدف محاربة الجماعات الإرهابية على تلك الأراضي. وفي حين لا تزال فرنسا بقواعد عسكرية في تشاد، بنتيجة دعم باريس المستمر للأنظمة التشادية من بعد الاستقلال (1960)، كان لافتاً خلال مظاهرات المعارضة، في مايو (أيار) 2022، التي نظمتها قوى معارضة وطلاب جامعات نددت بالوجود الفرنسي في تشاد، أن المتظاهرين رفعوا العلم الروسي.

ولذا تعتبر القوى الغربية أن فوز ديبي يشكل ركيزة أساسية للحفاظ على وجودها في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً الوجود العسكري الفرنسي، والشيء بالنسبة لأميركا، رغم إعلانها أخيراً سحب قواتها من تشاد والنيجر.

في المقابل، عكست زيارة الرئيس ديبي إلى موسكو، يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث التقى الرئيس فلاديمير بوتين، إدراكاً منه لتزايد المشاعر المعادية للوجود الفرنسي في بلاده، خصوصاً مع تأكيده أن مباحثاته مع الرئيس الروسي جاءت «بصفته رئيس دولة مستقلة، ولتعزيز وتقوية العلاقات مع روسيا».

ولكن، بينما يعتبر الدبلوماسي التشادي محمد علي أن «العلاقات مع روسيا لا تعني الانفصال عن الغرب، لاحتفاظ بلاده بمصالح استراتيجية مع القوى الدولية»، توقّع رئيس حزب «حركة الخلاص التشادية» بشارة «صراعاً واسعاً بين الغرب بقيادة أميركا والاتحاد الأوروبي، ودول (بريكس) بقيادة روسيا، في منطقة الساحل الأفريقي بداية من تشاد». ورأى بشارة أن «الصراع الدائر بين الوجود الفرنسي والنفوذ الروسي الصاعد في دول الجوار سيكون له تأثيرات كبيرة في الأزمة السياسية ببلده».

يرى البعض أن ديبي

«أعاد هندسة الفترة الانتقالية

بطريقة تضمن له

أن يظل محوراً

لمعادلة الحكم»

حسين حبري (الشرق الأوسط)

محطات الصراع في تشاد منذ الاستقلال

بعد استقلال تشاد عن الاحتلال الفرنسي في عام 1960 عانت البلاد اضطرابات وصراعات داخلية عديدة، كما واجهت الأنظمة الحاكمة فيها حركات تمرد مسلحة، لعل أشهرها في فترة الرئيس الراحل إدريس ديبي. ولكثرة ما واجهه ديبي «الأب» من حركات تمرد ومحاولات انقلاب، لُقب بـ«الناجي العظيم». وفيما يلي رصد بأهم محطات وفصول الصراع في تشاد منذ استقلاله حتى الآن: - أغسطس (آب) 1960، حصلت تشاد على استقلالها من فرنسا، واختار البرلمان التشادي فرنسوا تومبالباي، أول رئيس للبلاد بعد اعتماد نظام انتخابي جديد. وأجريت انتخابات رئاسية بعدها بسنتين، فاز فيها تومبالباي. - عام 1965، عانت تشاد فترة اضطراب إثر اندلاع حرب أهلية داخلية، وتدخلت قوات عسكرية فرنسية عام 1968، لإخماد التمرد في شمال تشاد. - عام 1973، سيطرت القوات الليبية على إقليم «أوزو» الحدودي في شمال تشاد، واستعادت تشاد هذا الإقليم، عبر التحكيم الدولي، بقرار من المحكمة الدولية في لاهاي (هولندا) قضى بأحقية تشاد في الإقليم عام 1994، وأخْلَت القوات الليبية الإقليم بعدها. - عام 1975، شهدت تشاد انقلاباً عسكرياً انتهى بمقتل الرئيس تومبالباي، ليتولى الجنرال فيليكس مالوم رئاسة البلاد إثر خروجه من السجن. - عام 1979، اندلعت مواجهات عنيفة بين قوات الرئيس مالوم، ورئيس وزرائه حسين حبري، ووصلت المواجهات إلى العاصمة ندجامينا، وانتهت باستقالة مالوم، وتولى محمد شواد من «الحركة الشعبية لتحرير تشاد» رئاسة البلاد. - عام 1980، اندلعت الحرب الأهلية التشادية مرة أخرى، بين قوات حسين حبري مدعوماً من فرنسا، وغوكوني عويدي مدعوماً من ليبيا، وانتهت بسيطرة حبري على رئاسة تشاد، إثر احتلاله العاصمة ندجامينا. - في عام 1989، نظم الجنرال إدريس ديبي عملية انقلابية ضد نظام الرئيس حبري، ونجح في دخول العاصمة والاستيلاء على السلطة. - في عام 1998، واجه الرئيس إدريس ديبي، محاولة تمرد من «الحركة من أجل الديمقراطية والعدالة». وعام 2008، تكررت محاولة التمرد، ونجح المسلحون في دخول العاصمة واحتلال القصر الرئاسي قبل أن ينسحبوا في أعقاب تدخل الجيش. - في عام 2013، شن نظام إدريس ديبي حملة اعتقالات واسعة في صفوف المعارضة والنخبة السياسية بعد الكشف عن مخطط لاستهداف الرئيس. - في عام 2013، أعلنت القوات التشادية مشاركتها في الحرب على «الجماعات الإرهابية» في شمال مالي. وفي عام 2015، صدَّق البرلمان التشادي على إرسال قوات لمحاربة جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا والكاميرون. - في عام 2005، أعلن الرئيس إدريس ديبي دعم «حركة العدل والمساواة» المتمردة في دارفور بالسودان، بحكم الروابط العائلية والقبلية التي تربط الرئيس التشادي وقادة الحركة. - في عام 2021، لقى الرئيس إدريس ديبي حتفه، في أثناء وجوده في ساحة القتال ضد المتمردين الذين اتجهوا من الجنوب الليبي إلى شمال تشاد، وعُيّن محمد ديبي، نجل الرئيس الراحل، رئيساً مؤقتاً على رأس مجلس عسكري انتقالي مكون من 15 جنرالاً. - في عام 2022، بعد الإعلان عن مد الفترة الانتقالية في تشاد، بناءً على مخرجات «الحوار الوطني» في العاصمة القطرية الدوحة، خرجت مظاهرات واحتجاجات من قوى معارضة، أسفرت عن مواجهات أسقطت نحو 50 شخصاً، واعتقال المئات من المحتجين. – في عام 2023، تعرَّضت القوات العسكرية التشادية لهجوم من مجموعة «مجلس القيادة العسكرية لخلاص الجمهورية»، على الشريط الحدودي الشمالي مع ليبيا.


ماذا يمكن أن يتغيّر بعد انعقاد «لقاء قرطاج» الثلاثي

من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)
من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)
TT

ماذا يمكن أن يتغيّر بعد انعقاد «لقاء قرطاج» الثلاثي

من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)
من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)

نُظّم أخيراً في قصر الرئاسة التونسية بقرطاج لقاء مغاربي مصغّر ضمّ الرئيس التونسي قيس سعيّد، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفّي، بمشاركة مسؤولين كبار عن قطاعات الأمن والاقتصاد والشؤون الخارجية. ولقد تباينت ردود الفعل على هذا اللقاء ونتائجه داخل البلدان المشاركة فيه، وكذلك في الرباط ونواكشوط وفي عدد من العواصم الأوروبية والأفريقية والغربية المعنية بالأوضاع في المغرب العربي. وأولت أطراف محلية وإقليمية ودولية اهتماماً لافتاً بالتقارب بين تونس والجزائر عشية تنظيم البلدين انتخابات رئاسية جديدة. وفي حين رأت أطراف عديدة عقد هذا اللقاء المصغّر «تمهيداً لتفعيل مسار الاتحاد المغاربي» المجمّد منذ التسعينات، على خلفية توتر العلاقات بين الجزائر والمغرب، اتهم سياسيون في الرباط القيادة الجزائرية بمحاولة «تأسيس اتحاد مغاربي بديل» يُقصي المغرب، ويبدأ بالدول الثلاث التي شاركت في لقاء تونس، وينفتح لاحقاً على موريتانيا فقط. لكن مصادر حكومية في الدول الثلاث ردّت بالقول إن لقاء قرطاج بحث أساساً التنسيق بين البلدان الثلاثة حول التحديات الاقتصادية والأمنية المشتركة وملفات الهجرة غير النظامية والمياه وتسوية الأزمة الليبية والعلاقات مع الدول الأوروبية.

أبرز سؤال مطروح اليوم، بعد اللقاء التشاوري الثلاثي، التونسي - الجزائري - الليبي، هو عمّا يمكن أن يغيّره هذا اللقاء الذي جمع الرئيسين قيس سعيد وعبد المجيد تبّون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفّي. وبالأخص، ما إذا كان لقاء قرطاج هذا سيُسهم في إحداث آليات جديدة للشراكة وتسوية أزمات المنطقة، أم تزداد الأوضاع تعقيداً. ولكن، بحسب تصريحات وزيري الخارجية التونسي نبيل عمار والجزائري أحمد عطّاف بعد اللقاء، فإن مبادرته الثلاثية «ليست موجهة ضد أي دولة بما في ذلك الشقيقة المغرب».

ترفيع التنسيق أمني

في تونس، نوّهت تصريحات أعضاء في الحكومة ووسائل الإعلام بالبيان الختامي الذي صدر عن اللقاء، وعدّته «مساهمة في تطوير الشراكة الاقتصادية، وتفعيل القرارات الجماعية القديمة حول معالجة معضلات الأمن والهجرة غير النظامية والتنمية والمياه في المناطق الحدودية، ورفض التدخل الأجنبي في شؤون المنطقة».

أيضاً أُعلن في تونس وطرابلس عن «مشاورات أمنية» تونسية - ليبية - جزائرية إضافية شملت ملفات المعابر البرّية، بينها بالخصوص معبر رأس جدير الحدودي بين تونس وليبيا الذي كان أغلق قبل نحو شهرين؛ بسبب الاضطرابات الأمنية وصراعات النفوذ على «البوابات والمعابر» بين «لوبيات» مالية وأمنية في غرب ليبيا، والسلطات العسكرية والسياسية في طرابلس.

وفي هذا السياق، لفت الأكاديمي البشير الجويني، وهو دبلوماسي تونسي سابق في ليبيا، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى محادثة بين وزيري داخلية كل من تونس وليبيا، كمال الفقي وعماد الطرابلسي، أوصت بالتعجيل بفتح معبر رأس جدير «في أقرب وقت» بحكم أهميته «الاستراتيجية»، وتكفّله بتنقل ما لا يقل عن نصف مليون مسافر شهرياً، و6 ملايين مسافر سنوياً، معظمهم من الليبيين والتونسيين والجزائريين.

إلا أن قرار «فتح المعبر» لم يقع تفعيله فوراً، رغم المباحثات التي أجريت في لقاءٍ بتونس بين الرئيس قيس سعيّد ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي وأعضاء وفدي البلدين. في المقابل، تزايدت الحركة نسبياً في المعبر الثاني الرابط بين ليبيا وتونس، معبر «الذهيبة - وزّان»، وهو معبر في منطقة صحراوية يحتاج سكان شمال ليبيا ومنطقة العاصمة طرابلس والمسافرون التونسيون إلى قطع مئات الكيلومترات الإضافية لبلوغه. ومعلوم أيضاً أن هناك معبر «الدبداب» الليبي - الجزائري الصحراوي، لكنه مفتوح لنقل السلع فقط.

وفي الوقت ذاته، نشرت وسائل إعلام في البلدان الثلاثة أن من بين النتائج الإيجابية لإحداث «آليات التشاور الثلاثية» التونسية - الجزائرية - الليبية، ترفيع التنسيق في قطاعات مكافحة الإرهاب والتهريب والهجرة غير النظامية، و«اعتراض قوافل المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء» الذين تزايد عددهم بعد تدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في السودان، وعدد من دول الساحل والصحراء.

تخوّفات

على صعيد متّصل، أعربت أوساط سياسية وأكاديمية مغاربية عن «تخوّفات» من إنشاء «آلية ثلاثية مغاربية للتشاور» لا تشمل الرباط ونواكشوط؛ إذ نشر بعض الشخصيات، وأيضاً وسائل إعلام مغربية وعربية، مقالات وبرامج تتّهم القيادة الجزائرية بـ«محاولة إقصاء المغرب» الذي يستضيف المقر الدائم للأمانة العامة للاتحاد المغاربي منذ تأسيسه في «قمة مراكش» خلال فبراير (شباط) 1989.

معبر راس جدير(صورة ارشيفية من وزارة داخلية الدبيبة)

كذلك، صدرت انتقادات للقاء قرطاج الثلاثي من شخصيات ليبية مقرّبة من قائد الجيش في شرق البلاد المشير خليفة حفتر، ومن رئيس حكومة الشرق أسامة حمّاد (في بنغازي) ورئيس حكومة الغرب عبد الحميد الدبيبة (في طرابلس). واعتبر جُلّ هذه الانتقادات أن المنفي، رئيس «المجلس الرئاسي الليبي»، له صلاحيات «محدودة»، مقارنة برئيسي الحكومة ومجلس النواب المؤقت في المنظومة السياسية الليبية الحالية.

لكن المنفي تفاعل مع هذه الانتقادات على طريقته، فأرسل مستشاره سامي المنفي مبعوثاً إلى العاهل المغربي محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، ونقل إليهما رسالتين خطيتين لتوضيح سياق اللقاء الثلاثي. وبالفعل، عقد سامي المنفي في الرباط مؤتمراً صحافياً مع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، حاول من خلاله طمأنة «المتخوّفين» من تشكيل «مؤسسات وآلية إقليمية ثلاثية تجمع الجزائر وتونس وليبيا»، قد يكون لها دور في معالجة الأزمة الليبية وأزمات دول الساحل والصحراء الأمنية والاقتصادية، وأيضاً تلعب دوراً في المباحثات مع أوروبا والولايات المتحدة والعواصم العالمية المعنية بملفات الأمن والهجرة والطاقة والمعادن الثمينة، ومستقبل دول منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط سياسياً وأمنياً وجيو - استراتيجياً.

التنسيق مع الجامعة العربية

من جانبه، صرح السفير أحمد بن مصطفى، المدير العام السابق للشؤون العربية في الخارجية التونسية، في حوار مع «الشرق الأوسط»، بأنه لا يتوقع «تغييرات كبيرة ميدانياً» أو «انفراجة في الأزمات الداخلية لتونس والدول المغاربية»، و«لا في علاقات تونس بكل من ليبيا والجزائر». وفسّر موقفه «غير المتفائل» بكون المغرب «لا يدعم» هذا المسار الجزائري - التونسي - الليبي لاعتباره إياه محاولة لإقصاء الرباط. ومن ثم، أشار السفير إلى اتهامات في المغرب للجزائر بأنها تسعى إلى «الاستفادة» من الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية في تونس وليبيا، من أجل «تغيير التوازنات السياسية في المنطقة» لمصلحتها.

كذلك، رأى بن مصطفى أن «من مصلحة الدبلوماسية التونسية التزام قدر أكبر من الحياد في النزاعات الإقليمية»، وتطوير حضورها في مؤتمرات مؤسسات العمل العربي المشترك ومنظمات جامعة الدول العربية والتعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي وفي الأمم المتحدة، والتأثير في مسارات الصراع العربي – الإسرائيلي، والفلسطيني - الإسرائيلي «عوض البحث عن آليات بديلة أصغر».

ومن ثم لاحظ أن «الحضور العربي والإسلامي والأفريقي لتونس تراجع، بل أصبح ضعيفاً، وهذا ما يجب تداركه عبر مزيد من التطوير للشراكات والتعاون مع كل الدول العربية مشرقاً ومغرباً دون إقصاء».

حل وسط... و«لعبة محاور»

من جهة أخرى، قال عبد الله العبيدي، الدبلوماسي التونسي السابق في ألمانيا وفي المنطقة المغاربية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدبلوماسية التونسية مدعوة للعب دور وسط، وأن تدعم دوماً الحلول الوسطى، وأن تضمن توازناً في علاقاتها مع كل من المغرب والجزائر».

وأردف العبيدي أن الدبلوماسية التونسية تميّزت في عهدي الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة (1956 - 1987) وزين العابدين بن علي (1987 - 2011) بـ«تحقيق توازن» في علاقاتها بالرباط والجزائر، بما في ذلك في المراحل التي اندلعت فيها نزاعات مسلحة بينهما حول الحدود أو حول الصحراء. وعبّر عن موقف مماثل وزير الخارجية الأسبق السفير أحمد ونيس، الذي دعم مبدأ التنسيق الثنائي والثلاثي بين البلدان المغاربية، لكنه أعلن بوضوح أن الاتحاد المغاربي لا يُمكن أن يُقصي أي بلد عضو، وتحديداً المغرب الذي استضاف قمة التأسيس في 1989، كما أنه يستضيف الأمانة العامة للاتحاد منذ 35 سنة. ويتخوّف ونيس، في هذا السياق، من أن تدفع عواصم غربية دولاً في المنطقة نحو «صراعات ثانوية» تؤدي إلى اصطفاف مزيد من الدول العربية والإسلامية والأفريقية حول هذا المحور أو ذاك.

العبيدي يتخوّف، بدوره، من أن تزداد الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وملفات الهجرة في تونس وفي المنطقة المغاربية، تعقيداً، على الرغم من الدعوات للحوار ورفض التدخل الأجنبي الصادرة عن اللقاء الثلاثي. في حين لم يستبعد أحمد بن مصطفى «تعميق الأزمات الحالية»؛ بسبب «هشاشة الجبهة الداخلية في الدول المغاربية وضعف حكوماتها»، بل توقّع دخول تونس ودول المنطقة في مرحلة اللا استقرار في ضوء «استفحال» الأزمات في ليبيا، وتعمّق الخلافات بين الرباط والجزائر.

باريس وروما... وواشنطن وأنقرة

في هذه الأثناء، أشارت أوساط سياسية تونسية ومغاربية إلى تكثيف كل من واشنطن وباريس وروما وأنقرة تحركاتها ومبادراتها لـ«تسوية الأزمات» في ليبيا وتونس والدول المغاربية، وفي منطقة الساحل والصحراء.

وزاد نسق هذه التحركات عشية انعقاد لقاء قرطاج الثلاثي وبعده؛ إذ زارت جورجيا ميلوني، رئيسة الحكومة اليمينية الإيطالية، تونس للمرة الرابعة خلال سنة واحدة، يرافقها وفد يضم وزير الداخلية الإيطالي. وبعد ذلك بأيام، زار تونس وفد عسكري إيطالي برئاسة وزير الدفاع، ثم وفد برئاسة وزير الثقافة. وزارها أيضاً وزير خارجية الحكومة اليمينية في المجر، التي تلتقي مع حكومة ميلوني من حيث مواقفهما المتشددة مع المهاجرين الجدد، ومطالبة تونس وليبيا والجزائر بـ«تعاون أكبر» أمنياً في معالجة معضلة «الهجرة غير النظامية»، وترحيل المهاجرين الآتين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

وفي الوقت عينه، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مكالمة هاتفية مع نظيره التونسي قيس سعيّد، شملت المحاور التي تطرق إليها البيان الختامي للقاء قرطاج الثلاثي. وفهم متابعون في تونس هذه المكالمة بأنها «رسالة سياسية» عن «التفاعل الفرنسي مع التقارب السريع بين تونس وكل من إيطاليا والولايات المتحدة والجزائر»، وذلك في مرحلة تزايد التنسيق الأميركي - التركي - الإيطالي - الجزائري في ليبيا، وفي كامل دول الاتحاد الأفريقي الذي يتولى رئاسته مجدداً الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني.

كل هذه المعطيات تؤكد أن مبادرة تنظيم لقاء قرطاج حرّكت كثيراً من المياه الراكدة إقليميا ودولياً، وهذا، بينما تتابع واشنطن تفعيل دورها في تونس وليبيا وفي كامل المنطقة عبر آليات عديدة، بينها «المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة». وتشمل هذه الأخيرة تدريبات «الأسد أفريقيا 4» التي نُظّمت قبل أيام في تونس والمغرب والسنغال وغانا، وشاركت فيها قوات تونسية مع نحو 7 آلاف عسكري من 20 دولة؛ أبرزها الولايات المتحدة والمملكة المغربية. أعربت أوساط مغاربية عن «تخوّفات» من إنشاء «آلية ثلاثية مغاربية للتشاور» لا تشمل الرباط ونواكشوط


محطات وتجارب «تلاقٍ» مغاربية

الحبيب بورقيبة (أ.ف.ب)
الحبيب بورقيبة (أ.ف.ب)
TT

محطات وتجارب «تلاقٍ» مغاربية

الحبيب بورقيبة (أ.ف.ب)
الحبيب بورقيبة (أ.ف.ب)

> شهدت بلدان شمال أفريقيا تاريخياً تجارب عديدة للعمل المشترك والوَحدة، كانت غالباً تبرّر محاولاتها «الوحدوية» بتقاطع المصالح وبالرصيد التاريخي. إذ توحّدت منطقة شمال أفريقيا منذ القدم في إمبراطوريات ودول عديدة، كانت عاصمتها طوال قرون، قبل ميلاد المسيح وبعده، مدينة قرطاج في عهد القرطاجنيين والرومان والبيزنطيين (روم الشرق).

وخلال السنوات الثلاثين الماضية، عُقدت مئات الاجتماعات الوزارية والفنية المغاربية بمشاركة وفود عن الدول الخمس (المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا)، لكن لم تُعقد أي قمة خماسية خاصة بالاتحاد المغاربي منذ سنوات. وفي 24 أغسطس (آب) 2021، أعلنت الجزائر رسمياً قطع علاقاتها مع الرباط بعدما اتهمتها بـ«الضلوع في أعمال عدائية».

الحسن الثاني (رويترز)

وفي ما يلي بعض أبرز المحطات التاريخية والسياسية:

- منذ الفتوحات العربية والإسلامية في القرن السابع ميلادي أصبحت القيروان وتونس، ثم فاس عواصم لدول مغاربية «موحّدة» من ليبيا شرقاً إلى المغرب والأندلس غرباً.

- إبان عهد الدولة العثمانية في القرن الـ16 كانت دولتا تونس والجزائر تابعتين لإسطنبول إدارياً وثقافياً، لكنهما تمتّعتا باستقلالية نسبية. في حين لم تبسط الإمبراطورية العثمانية نفوذها العسكري والسياسي المباشر على المغرب.

- في عهد الاحتلال الفرنسي لبلدان شمال أفريقيا في القرنين الـ19 و20 توحّدت قيادات الحركات الوطنية في شمال أفريقيا، وشكّلت منذ أوائل القرن الـ20 منظمات للعمل المشترك من أجل التحرر الوطني.

- منذ مرحلة ما بين الحربين العالميتين أسّست «مكاتب المغرب العربي» في القاهرة ودمشق وبرلين وغيرها لتنسيق المواقف في الكفاح ضد الاحتلال الفرنسي لتونس والجزائر والمغرب... والاحتلال الإيطالي لليبيا.

- في أبريل (نيسان) 1958 عُقد في مدينة طنجة المغربية المؤتمر الأول لقيادات الأحزاب والحكومات الوطنية في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. وأسفر هذا المؤتمر عن توصيات عديدة، من بينها دعم الحركة الوطنية الجزائرية حتى إنجازها الاستقلال، ثم إنجاز «الوحدة المغاربية الشاملة».

معمّر القذافي (رويترز)

- بعد استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، اندلعت «حرب الرمال» بينها وبين المغرب؛ بسبب خلافات حدودية وصراع حول مناطق صحراوية حدودية ضمّتها فرنسا للجزائر قبل اعترافها باستقلال المغرب.

- في أعقاب وصول العقيد الليبي معمّر القذافي ورفاقه «الضباط الأحرار» إلى الحكم في ليبيا مطلع سبتمبر (أيلول) 1969، توالت محاولاته تشكيل «جمهوريات عربية متحدة» مع دول عدة، بينها تونس والجزائر والمغرب.

- في يناير (كانون الثاني) 1974 أبرم العقيد معمّر القذافي والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في جزيرة جربة السياحية التونسية، اتفاقية وحدة نصّت على «الانصهار الكامل بين تونس وليببا» في دولة واحدة سُمّيت يومذاك «الجمهورية العربية الإسلامية»، على أن يكون الرئيس الحبيب بورقيبة رئيساً لهذه الدولة والعقيد القذافي نائباً له ووزيراً للدفاع. إلا أن هذه التجربة الوحدوية فشلت بعد أيام لأسباب داخلية وخارجية. وبعد ذلك نظّمت محاولات وحدوية عديدة بين تونس وليبيا والجزائر بدعم من القذافي والرئيس الجزائري هواري بومدين، لكنها أسقطت بسبب اعتراض بورقيبة وعواصم إقليمية، وكذلك نُظمت محاولات وحدوية بين ليبيا ومصر والسودان بمبادرة من القذافي... أُسقطت جميعها لاحقاً.

- في نوفمبر (تشرين الثاني) 1975 تخلّت إسبانيا عن جُلّ مستعمراتها في المغرب، وخاصة عن الصحراء. وفي حين تمسك المغرب بالوحدة الترابية لكل أقاليمه الجنوبية والشمالية، دعمت الجزائر وليبيا جبهة «بوليساريو» الانفصالية.

- عام 1984، أُبرمت «اتفاقية التعاون والإخاء» بين تونس والجزائر وموريتانيا، وكانت نوعاً من «الوَحدة التي تدفع في اتجاه تقاطع المصالح دون اندماج كامل».

الحبيب بورقيبة (فرانس24)

- في 13 أغسطس 1984، أُبرمت في مدينة وجدة المغربية معاهدة «الوحدة المغربية - الليبية» من قِبل العاهل المغربي الحسن الثاني والزعيم الليبي معمّر القذافي رداً على «معاهدة الإخاء» التونسية - الجزائرية - الموريتانية.

- في فبراير (شباط) 1989، أبرمت اتفاقية تأسيس «الاتحاد المغاربي» في مدينة مراكش المغربية من قِبل الملك الحسن الثاني والرؤساء الجزائري الشاذلي بن جديد والتونسي زين العابدين بن علي والموريتاني معاوية ولد الطايع والليبي معمّر القذافي. وأسست أمانة عامة لـ«الاتحاد المغاربي» مقرّها الرباط على أن يكون أمينها العام تونسياً.

- في ديسمبر (كانون الأول) 1994 قرّر العاهل المغربي الحسن الثاني تجميد عضوية بلاده في المؤسسات المغاربية احتجاجاً على تمادي الجزائر في دعم «بوليساريو».