معارك اليسار الفرنسي على طريق الحكم

قراءة حول أداء مرشحيه إبان عهد «الجمهورية الخامسة»

فرنسوا ميتران
فرنسوا ميتران
TT

معارك اليسار الفرنسي على طريق الحكم

فرنسوا ميتران
فرنسوا ميتران

* تعرف الحقبة السياسية الحالية بـ«الجمهورية الفرنسية الخامسة»، وارتبط تأسيسها بشخصية الجنرال شارل ديغول «منقذ» فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية. أما أول انتخابات رئاسية عرفتها فأجريت يوم 21 ديسمبر (كانون الأول) 1958 فكانت الانتخابات التي تنظم على أساس نظام «المجمع الانتخابي»، حيث يشكل أعضاء المجالس التمثيلية بدءاً بأعضاء المجالس البلدية والعمد، وانتهاء بالبرلمان الهيئة الناخبة. ولكي يفوز المرشح عليه الحصول على 50 في المائة أو أكثر من الأصوات. غير أن هذا النظام ألغي بعد استفتاء نظم عام 1962، واستعيض عنه بالاقتراع المباشر في انتخابات عام 1965.
في الانتخابات الأولى عام 1958 خاض اليسار الفرنسي المعركة ضد الجنرال ديغول بالمرشح الشيوعي جورج ماران، لكن ديغول فاز بغالبية ساحقة بلغت 78.51 في المائة من أصوات «المجمع»، مقابل أقل بقليل من 13 في المائة لماران، وحاز مرشح ثالث هو ألبير شاتليه على النسبة الباقية.

انتخابات 1965
في الانتخابات الثانية عام 1965 مثّل اليسار المرشح الاشتراكي (الرئيس لاحقاً) فرنسوا ميتران، الذي حصل في الدورة الأولى على 32 في المائة من الأصوات، متخلفاً عن الرئيس الجنرال شارل ديغول - المرشح الأبرز لليمين والوسط - الذي حصل على 45 في المائة، وبالتالي اضطر إلى خوض جولة إعادة ضد ميتران. وفي الجولة الثانية الحاسمة فاز ديغول 55 مقابل 45 في المائة لميتران، ليبدأ فترة رئاسية جديدة. وللعلم، ترشح في الجولة الأولى مرشح يساري ثان هو مارسيل باربو، لكنه لم يحصل سوى على 1.15 في المائة من الأصوات.

انتخابات 1969:
أجريت هذه الانتخابات مبكرة عن موعدها الأصلي إثر استقالة ديغول (78 سنة)، في أعقاب خسارته استفتاءً شعبياً لإجراء تعديلات تتصل بمجلس الشيوخ والإدارات المحلية. ولقد خاض اليسار هذه الانتخابات منقسماً ومتشرذماً خلف مرشحين ماركسيين واشتراكيين عدة، أبرزهم القيادي الشيوعي العتيق جاك دوكلو، وعمدة مدينة مرسيليا الاشتراكي غاستون دوفير (صار وزيراً فيما بعد)، وزعيم الحزب الاشتراكي الموحّد ميشال روكار (صار رئيساً للوزراء فيما بعد)، ومعهم الاشتراكي الراديكالي لوي دوكاتيل، واليساري التروتسكي آلان كريفين.
وبسبب تشرذم اليسار عجز مرشحوه عن بلوغ الجولة الثانية التي حسمها المرشح الديغولي ورئيس الوزراء يومذاك جورج بومبيدو لمصلحته، متغلباً على المرشح الوسطي آلان بوهير، رئيس مجلس الشيوخ ورئيس الجمهورية بالوكالة (بحكم رئاسته مجلس الشيوخ) في حينه، بـ58.2 في المائة مقابل 41.8 في المائة. ولقد تصدّر دوكلو مرشحي اليسار في الجولة بحصوله في الجولة الأولى على 21.27 في المائة، محتلاً المرتبة الثالثة خلف بوهير بفارق بسيط (أكثر بقليل من 2 في المائة).

انتخابات 1974:
أجريت بعد وفاة الرئيس جورج بومبيدو إبان شغله منصب الرئاسة. وهذه المرة كان اليسار أقل انقساماً من قوى اليمين والوسط، وبرز فرنسوا ميتران بعد إعادته توحيد صفوف الاشتراكيين وتنظيمهم الحزبي وسحبه إليه نسبة كبيرة من القاعدة الشعبية للشيوعيين. وفي المقابل، انقسم اليمين والوسط بين مرشحين قويين هما المرشح الديغولي جاك شابان دلماس رئيس الوزراء السابق (ورئيس مجلس النواب لاحقاً) وعُمدة مدينة بوردو (بين1947 و1995) ووزير المالية فاليري جيسكار ديستان زعيم تيار الوسط الجمهوري المستقل (يمين الوسط).
وأخفق شابان دلماس، تحت وقع بعض الفضائح التي أثارتها الصحافة الشعبية، في التقدم من الجولة الأولى إلى الثانية؛ إذ احتل المرتبة الثالثة خلف المتصدر ميتران (43.25 في المائة) وجيسكار ديستان (32.6 في المائة)، ولم يحصل إلا على 15.1 في المائة من الأصوات. وكان بين أبرز مرشحي اليسار الآخرين، بجانب ميتران، كل من البيئي رينيه دومون واليسارية المتشددة آرليت لاغييه والتروتسكي آلان كريفين. وفي المقابل، شهدت هذه المعركة إطلالة مرشح جان ماري لوبان اليمين المتطرّف الذي حصل على أقل من 1 في المائة من الأصوات.
ولكن في الجولة الثانية، عادت قوى اليمين والوسط، هذه المرة، فاصطفت كلها خلف جيسكار ديستان ليفوز على ميتران بفارق بسيط (50.8 في المائة مقابل 49.2 في المائة) ويدخل قصر الإليزيه.

انتخابات 1981
شهدت هذه الانتخابات تطوّراً مفصلياً في الحياة السياسية المعاصرة لفرنسا في عهد «الجمهورية الخامسة»؛ إذ أصبح فرنسوا ميتران، زعيم الاشتراكيين واليسار الفعلي، أول رئيس يساري للجمهورية.
المثير في الأمر أن ميتران احتل المرتبة الثانية في الجولة الأولى خلف الرئيس جيسكار ديستان (25.85 في المائة مقابل 28.32 في المائة)، وجاء ثالثاً المرشح الديغولي جاك شيراك، عمدة باريس ورئيس الجمهورية لاحقاً. ولقد جمع شيراك يومها نسبة 18 في المائة، في حين حصل جورج مارشيه، أمين عام الحزب الشيوعي – كان يومذاك ثاني أكبر الأحزاب الشيوعية في أوروبا بعد الحزب الشيوعي الإيطالي – على 15.35 في المائة من الأصوات. وكان أبرز مرشحي اليسار الآخرين في هذه الانتخابات المرشح البيئي بريس لالوند، واليسارية المتشددة آرليت لاغييه، ومرشح الراديكاليين الاشتراكيين ميشال كروبو.
ومن ثم، تقدم جيسكار ديستان وميتران إلى الجولة الثانية الحاسمة، ولكن هذه المرة حقق ميتران فوزه التاريخي بـ51.76 في المائة مقابل 48.24 في المائة لجيسكار.

انتخابات 1988
جدّد فرنسوا ميتران في هذه الانتخابات، مرشحاً عن اليسار، انتصاره واحتفظ بالرئاسة لفترة ثانية. وتحقق للرئيس الاشتراكي ذلك على الرغم من الانقسامات المعهودة في المعسكر اليساري، ذلك أنه بجانب ميتران رشحت القوى والحركات اليسارية عدداً من المرشحين أبرزهم: آندريه لاجوانيي (الحزب الشيوعي) وأنطوان ويشتير (حزب الخضر البيئي) وبيار جوكان (الحزب الاشتراكي الموحّد والرابطة الشيوعية الثورية) وآرليت لاغييه (حزب الشغيلة). ومع هذا تصدّر ميتران الجولة بفارق مريح وتقدّم إلى الجولة الحاسمة جامعاً 34.1 في المائة من الأصوات.
أما في معسكر اليمين والوسط، فتولّى جاك شيراك (رئيس الوزراء بين 1986 و1988) قيادة الديغوليين، واحتل بدعمهم المرتبة الثانية حاصلاً على 19.94 في المائة، متقدماً بذلك على ريمون بار، مرشح الوسطيين - أنصار جيسكار ديستان - (رئيس الوزراء بين 1976 و1981. ووزير الاقتصاد والمالية سابقاً) الذي حصل على 16.55 في المائة. غير أن المؤشر الخطير حقاً الذي حملته هذه الانتخابات كان التصاعد الكبير والمقلق لأصوات اليمين المتطرف؛ إذ حصل جان ماري ماري لوبان هذه المرة على نحو 14.4 في المائة من الأصوات (مقابل أقل من 1 في المائة في الانتخابات السابقة).
وفي الجولة الحاسمة تغلّب ميتران على شيراك بنحو 54 في المائة مقابل نحو 46 في المائة من الأصوات.

انتخابات 1995
في هذه الانتخابات انقسم اليسار، وكذلك اليمين، في الجولة الأولى. إذ مثّل الاشتراكيين ليونيل جوسبان، وزير التربية والرياضة السابق وأمين أول الحزب الاشتراكي (تولى رئاسة الوزراء لاحقاً)، بينما سار الشيوعيون خلف مرشحهم روبير أو، وخاضت المعركة أيضا شراذم يسارية وبيئية أخرى. وفي المقابل، كان المرشحون الأبرز لليمين المرشح الديغولي جاك شيراك ومنافسه إدوار بالادور (رئيس الوزراء بين 1993 و1995) المتمتع بدعم يمين الوسط، وجان ماري لوبان زعيم «الجبهة الوطنية» عن اليمين المتطرف.
ومع أن جوسبان تصدّر المتنافسين في الجولة الأولى بـ23.3 في المائة مقابل 20.84 في المائة لشيراك و18.58 في المائة لبالادور 15 في المائة للوبان، فإن الجولة الثانية الحاسمة أسفرت عن فوز شيراك بـ52.64 في المائة مقابل 47.36 في المائة. وبالتالي، استعاد اليمين الرئاسة.
هذه الانتخابات شهدت عملياً تراجعاً دراماتيكياً في شعبية الشيوعيين؛ إذ عجز مرشحهم روبير أو عن جمع ما هو أكثر من 8.64 في المائة فقط. في حين حصلت اليسارية المتشددة آرليت لاغييه على أكثر من 5 في المائة، والمرشحة البيئية دومينيك فوانييه على أكثر من 3.3 في المائة.

انتخابات 2002
في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأولى التي يشهدها القرن الـ21، كان انهيار اليسار شبه كامل. إذ عجز عن توصيل أي من مرشحيه إلى الجولة الثانية الحاسمة، في حين أكد عنصريو اليمين المتطرف حضورهم. إذ احتل مرشحهم جان ماري لوبان المرتبة الثانية في الجولة، متخلفاً بفارق بسيط نسبياً عن رئيس الجمهورية (16.86 في المائة مقابل 19.88 في المائة لشيراك)، بينما جاء أبرز مرشحي اليسار ليونيل جوسبان (رئيس الوزراء بين 1997 و2002) ثالثاً بفارق ضئيل خلف لوبان؛ إذ جمع 16.18 في المائة من الأصوات.
وفي حين جاء الوسطي فرنسوا بايرو (وزير التربية السابق) رابعاً، حصل عدد من مرشحي اليسار عن بلوغ حاجز الـ6 في المائة، أبرزهم أرليت لاغييه، والوزير الاشتراكي اليساري السابق جان بيار شوفنمان، والمرشح البيئي نويل مامير، والشيوعي الثوري الشاب أوليفييه بيزانسونو. أما المرشح الشيوعي روبير أو ففشل حتى في الحصول على نسبة 4 في المائة.
وفي ضوء نتائج الأولى الكارثية لليسار، وبالأخص للحزب الشيوعي، اصطف اليساريون خلف شيراك لمنع فوز لوبان. وهذا ما حصل؛ إذ فاز شيراك بغالبية كاسحة بلغت أكثر من 82 في المائة من الأصوات، بينما أخفق لوبان في بلوغ الـ18 في المائة.

انتخابات 2007
خاض انتخابات 2007 عن اليسار الوزيرة السابقة سيغولين رويال لتغدو أول امرأة تترشح لرئاسة الجمهورية عن حزب سلطة كبير، ومعها مجموعة من المرشحين اليساريين الآخرين، أبرزهم ماري جورج بوفيه، الأمينة العامة للحزب الشيوعي، وهي أيضاً وزيرة سابقة، والشيوعي الثوري أوليفييه بيزانسونو وآرليت لاغييه وجوسيه بوفيه الناشط ضد العولمة. أما في معسكر اليمين، فكان المرشح الأبرز نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية ووزير المالية السابق، ومعه زعيم «الجبهة الوطنية» جان ماري لوبان عن اليمين المتطرف والمرشح اليميني المناوئ للتكامل الأوروبي فيليب دو فيلييه. وفي الوسط كان هناك الوزير السابق فرنسوا بايرو.
وتصدر ساركوزي تلته رويال الترتيب في الجولة الأولى بـ31.18 في المائة و25.87 في المائة على التوالي، فتقدما إلى الجولة الثانية، التي أسفرت عن فوز ساركوزي جامعاً أكثر بقليل من 53 في المائة من الأصوات مقابل نحو 47 في المائة لرويال.

انتخابات عام 2012
في هذه الانتخابات نهض اليسار من غفوته الطويلة واستعاد الحكم، لأول مرة بعد نهاية فترة فرنسوا ميتران الثانية عام 1995. ولقد تصدر القيادي الاشتراكي فرنسوا هولاند المرشحين المتنافسين في جولة الاقتراع متقدماً على الرئيس نيكولا ساركوزي جامعاً 28.63 في المائة من الأصوات مقابل 27.18 لساركوزي. وكان أبرز مرشحي اليسار الآخرين في هذه الجولة جان لوك ميلونشون الذي جاء رابعاً خلف مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف – التي كانت قد أزاحت أباها جان ماري – عن زعامة «الجبهة الوطنية»؛ إذ حصلت لوبان يومذاك على 17.90 في المائة من الأصوات وميلونشون على 11.10 في المائة. وكان هناك من اليساريين البيئية إيفا جولي وفيليب بوتو المناهض للرأسمالية وناتالي أرتو من اليسار التروتسكي المتشدد.
وفي الجولة الثانية الحاسمة فاز هولاند بالرئاسة لحصوله على 51.64 في المائة مقابل 48.36 في المائة لساركوزي.



ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
TT

ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية

لسنوات عدة، كان الحزب الجمهوري الأميركي يمرّ بتغيير جذري، حيث يتبنى بشكل متزايد الشعبوية الاقتصادية في الداخل والانعزالية في الخارج، ويغيّر مواقفه في العديد من القضايا الاجتماعية. ثم إنه لم يعد فقط حذِراً من بعض المصالح التجارية الكبرى، بل صار معادياً لها. لا، بل أكثر من ذلك، إذ عمل على طرح نفسه ليكون حزب الطبقة العاملة، وكل ذلك تحت شعار «أميركا أولاً». ومع أن الرئيس السابق دونالد ترمب عاد، خلال رئاسته الأولى، إلى آيديولوجية الحزب الجمهوري الأكثر تقليدية بشأن بعض القضايا، فإن اختياره جيمس ديفيد «جي دي» فانس نائباً له على بطاقة الانتخابات الرئاسية المقبلة، هو الذي يمكن، في نهاية المطاف، أن يعزّز مسار الحزب نحو مرحلة جديدة مختلفة. وهذا ما يبدو أنه حدث في مؤتمر الحزب الذي انعقد خلال الأيام القليلة الماضية في مدينة ميلووكي؛ كبرى مدن ولاية ويسكونسن.

الواقع أنه خلال مؤتمر الحزب الجمهوري بميلووكي، لم يقتصر الأمر على اختيار السيناتور جي دي فانس، المعارض لتقديم الولايات المتحدة مساعدات لأوكرانيا، بل تبني الحزب أيضاً خطاباً اجتماعياً مخففاً، بجانب انتقاد الشركات الكبرى، وهو ما عدّه البعض إشارة إلى تراجع دور الإيفانجيليين البروتستانت المتشددين في رسم سياسات الجمهوريين.

ومن فوق منصة المؤتمر، خرج برنامج الحزب خالياً من أي ذكر لـ«الزواج بين رجل وامرأة»، الذي يندرج كعنصر أساسي في مبادئ الحزب منذ فترة طويلة، لمصلحة تعزيز «ثقافة تقدّر قدسية الزواج» و«الدور التأسيسي للعائلات». الأمر الذي رحّب به الجمهوريون المؤيدون لمجتمع المثليين وعدّوه انتصاراً، في حين رآه كثيرون بمثابة ضربة للجناح المحافظ المتشدّد في الحزب، ومن صفوفه قال السيناتور المحافظ السابق، ريك سانتوروم: «هذا برنامج حزب المحافظين البريطاني. هذه ليست منصة محافظة. ترمب يستهدف الوسط مباشرة».

من جهة ثانية، قال مارك شورت، الذي شغل منصب كبير موظفي مايك بنس، نائب ترمب السابق، الذي اختاره عام 2016 للحصول على دعم الإيفانجيليين: «أعتقد أن ما نشهده، الآن، هو هجوم مباشر كامل على التيار المحافظ... يمكنك أن تنظر إلى المنصة، وهي تبتعد عن قضايا مثل الحياة والزواج التقليدي، وتتبنّى التعريفات الجمركية في جميع المجالات». وأردف: «أشعر بأن الحزب ذهب خطوة أخرى إلى الأمام، عندما يكون لديك متحدثون يقولون بشكل أساسي إن (الناتو) كان مخطئاً في موقفه من غزو بوتين لأوكرانيا، ويصفون مَن يخلقون فرص العمل بأنهم (خنازير الشركات)». وخلص إلى القول: «هذا خروج هائل عما كان عليه حزبنا، ولا أعتقد أنه وصفة للنجاح».

ولكن من جي دي فانس؟

بطاقة شخصية وعائلية

وُلد جيمس ديفيد فانس في مدينة ميدلتاون، بجنوب غربي ولاية أوهايو، وأمضى جزءاً من طفولته في مدينة جاكسون، بولاية كنتاكي.

وعلى أثر طلاق والديه تولّى تربيته جدُّه لأمه، بينما كانت الأم تعاني إدمان المخدرات. وبعد تخرّجه في المدرسة الثانوية بمدينة ميدلتاون، التحق بسلاح مشاة البحرية «المارينز»، وخدم 4 سنوات في العراق بمهامّ إدارية، ما مكّنه من توفير كلفة دراسته الجامعية.

وبالفعل، في أعقاب تسريحه من الخدمة العسكرية التحق بجامعة ولاية أوهايو، ثم بكلية الحقوق في جامعة ييل الشهيرة. وبعد تخرّجه عمل في شركة «باي بال»، للملياردير بيتر ثيل، الذي كان شريكاً مع إيلون ماسك فيها. ثم أسّس فانس شركته الخاصة للعمل في رأس المال الاستثماري، ثم رشح نفسه عام 2022 لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، وفاز بالمقعد.

زوجته، أوشا تشيلوكوري فانس، تتحدر من أصول هندية، فولداها مهاجران من الهند. ولقد درست الحقوق في جامعة ييل، وتابعت دراسات عليا في جامعة كمبريدج ببريطانيا. وحققت في مجال المحاماة مسيرة مهنية جداً، وعملت كاتبة لدى قاضي المحكمة العليا جون روبرتس، وقاضي المحكمة العليا بريت كافانو. وفي كتابه «مرثية هيلبيلي» وصفها فانس بأنها «مرشدته الروحية» التي ساعدته على النجاح.

قضايا حملته الانتخابية

يركّز المتابعون، اليوم، على نظرة فانس إلى القضايا التي يرجّح أن تكون محوَر حملته الانتخابية مع ترمب، خلال الأشهر المقبلة، وقد تُهيمن على سياسات البيت الأبيض، في حال فازا بالسباق.

بدايةً، يعارض فانس حقوق الإجهاض بشدة، حتى في حالة سفاح القربى أو الاغتصاب، لكنه مع استثناءات للحالات التي تكون فيها حياة الأم في خطر. وكان قد أشاد بقرار المحكمة العليا الأميركية التي أبطلت هذا الحق، وكان عنواناً رئيساً لترشحه لعضوية مجلس الشيوخ عام 2022، لكنه، رغم ذلك، التحق بموقف ترمب الذي يعارض حظر الإجهاض على المستوى الفيدرالي ويتركه للولايات.

قضية الهجرة كانت أيضاً في طليعة اهتمامات حملته عام 2022، وعكست آراؤه، إلى حد كبير، آراء ترمب، فهو مع إكمال بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، وأعلن أنه «سيعارض كل محاولة لمنح العفو للمهاجرين غير الشرعيين، الذين عدَّهم مصدراً للعمالة الرخيصة التي تُخفّض أجور العمال الأميركيين، وتأتي على حساب 7 ملايين أميركي خرجوا من سوق العمل». ثم إنه يفضل ما سمّاه «النظام القائم على الجدارة للمهاجرين»، الساعين إلى الاستقرار في أميركا، قائلاً إن الحدود المفتوحة مصدر للمخدّرات غير المشروعة وتدفق «مزيد من الناخبين الديمقراطيين إلى هذا البلد».

فانس يدعم بقوة، في المقابل، فرض تعرفات واسعة النطاق، خاصة على البضائع المستوردة من الصين؛ «لأنها تشكل تهديداً غير عادل للوظائف والتجارة الأميركية». ولقد قال: «نحن بحاجة إلى حماية الصناعات الأميركية من كل منافسة». ويتوافق موقفه هذا، إلى حد كبير، مع ترمب، الذي اقترح فرض تعرفة جمركية قد تصل إلى 100 في المائة، على بعض البضائع الصينية، وتعرفات شاملة بنسبة 10 في المائة على كل البضائع الواردة إلى البلاد.

وحول البيئة، يرى فانس أن «تغير المناخ لا يشكل تهديداً»، مشككاً في الإجماع العلمي على أن ارتفاع درجة حرارة الأرض ناجم عن النشاط البشري، ولذا يؤيد بقوة صناعة النفط والغاز التي تهيمن على ولايته أوهايو، ويعارض توليد الطاقة من الرياح والطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية.

إرث الريغانية

على صعيد آخر، أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية، إذ إنه من أبرز «حمائم» الأمن القومي في الحزب، ويعزّز يد القوى الانعزالية الحريصة على التراجع عن إجماع الحزب الجمهوري المتشدد الذي استمر منذ عهد رونالد ريغان. وإذا ما فاز ترمب في الانتخابات، فسيحظى أنصار الإحجام عن التدخل الخارجي بنصير قوي وصريح لهم إلى جانب ترمب.

ومثالاً، فانس من أبرز المعارضين لدعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. وسبق له أن قال، في مقابلة إذاعية مع الحركي اليميني المتشدد ستيفن بانون: «أعتقد أنه من السخف أن نركز على هذه الحدود في أوكرانيا». وتابع: «يجب أن أكون صادقاً معك، لا يهمُّني حقاً ما يمكن أن يحدث لأوكرانيا...». وفعلاً، قاد فانس، قبل أشهر، معركة فاشلة في مجلس الشيوخ؛ لمنع إرسال حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 60 مليار دولار لأوكرانيا. وكتب، في مقالة رأي بالـ«نيويورك تايمز»، موضحاً: «لقد صوتت ضد هذه الحزمة في مجلس الشيوخ، وما زلت معارضاً لأي اقتراح للولايات المتحدة لمواصلة تمويل هذه الحرب.. بايدن فشل في توضيح حتى الحقائق الأساسية حول ما تحتاج إليه أوكرانيا، وكيف ستغيّر هذه المساعدة الواقع على الأرض».

وعلى مواقف كهذه اتهمته ليز تشيني - التي كانت زعيمة كتلة الجمهوريين بمجلس النواب قبل إقالتها لمعارضتها ترمب - على منصة «إكس»، بـ«أنه يستسلم لروسيا ويضحّي بحريّة حلفائنا في أوكرانيا.. لم يعد حزب ترمب الجمهوري هو حزب لنكولن أو ريغان أو الدستور». غير أن فانس أكد أن تقديم المساعدات لأوكرانيا يتماشى تماماً مع إرث رونالد ريغان. وشرح: «انظر، أعتقد أن ريغان كان رئيساً عظيماً، لكنه أيضاً تولى الرئاسة قبل 40 أو 45 سنة في بلد مختلف تماماً».

أما بالنسبة للشرق الأوسط، فإن فانس مؤيد ثابت متحمس لإسرائيل، قبل وطوال حربها في غزة، ودافع عن سياساتها في مواجهة الانتقادات المتزايدة بشأن عدد القتلى المدنيين الفلسطينيين. وعندما نظر أعضاء مجلس الشيوخ في مشروع قانون ينص على توفير مساعدات عسكرية لكل من إسرائيل وأوكرانيا، رفض فانس ذلك، وكتب: «لدى إسرائيل هدف يمكن تحقيقه.. أما أوكرانيا فلا».

ثم إنه ردَّد تصريحات رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، عن «الحاجة إلى القضاء على (حماس)»، بعد هجوم «حماس»، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وهاجم الرئيس جو بايدن؛ لتأخيره شحن الأسلحة إلى إسرائيل، معترفاً بالضحايا المدنيين في غزة، لكنه ألقى اللوم على «حماس» وليس على إسرائيل.

وأخيراً، بشأن علاقة فانس بترمب، تجدر الإشارة إلى أنه أعاد تشكيل نفسه تماماً باعتباره نصيراً متحمساً لحركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» الترمبية، إذ إنه لم يدعم ترمب في السابق، ولم يصوِّت له عام 2016، بل ذهب أبعد ملمّحاً بأنه يمكن أن يكون «هتلر أميركا»، منتقداً خطاباته المناهضة للمهاجرين والمسلمين، لكنه تحوّل فجأة إلى أحد أبرز المدافعين عنه، قائلاً إنه «كان مخطئاً» في تقييم سياساته.

أيضاً أيّد فانس ادعاءات ترمب بتزوير انتخابات 2020، وشكّك في أن (نائب الرئيس) مايك بنس كان في خطر، لأنه رفض، بصفته رئيساً لمجلس الشيوخ، منع التصويت الذي يؤكد صحة فوز بايدن. ومما صرّح به فانس، لشبكة «سي إن إن» قوله: «أعتقد أن أهل السياسة يحبّون المبالغة في الأمور من وقت لآخر. يوم 6 يناير كان يوماً سيئاً، لكن فكرة أن دونالد ترمب عرّض حياة أي شخص للخطر عندما طلب منهم الاحتجاج سلمياً فكرة سخيفة»... وقد حظي بعدها بدعمه للترشح في مجلس الشيوخ عام 2022.