«متحف التاريخ والحضارات» في الرباط يفتح أبوابه مجدداً

يقترح سفراً في تاريخ المغرب وحضاراته المتعاقبة

قطع من المعرض الدائم بـ«متحــف التاريــخ والحضــارات» بالرباط
قطع من المعرض الدائم بـ«متحــف التاريــخ والحضــارات» بالرباط
TT

«متحف التاريخ والحضارات» في الرباط يفتح أبوابه مجدداً

قطع من المعرض الدائم بـ«متحــف التاريــخ والحضــارات» بالرباط
قطع من المعرض الدائم بـ«متحــف التاريــخ والحضــارات» بالرباط

بعد سنة على إغلاقه، لصيانة وتأهيل بنايته، وإعادة ترتيب مجموعة معرضه الدائم، أعيد فتح المتحف الأثري بالرباط، تحت اسم جديد هو «متحف التاريخ والحضارات».
وكان المتحف الأثري بالرباط، قد وضع، على غرار المتاحف المغربية الثلاثة عشر الأخرى، تحت وصاية «المؤسسة الوطنية للمتاحف»، منذ سنة 2014. ولكونه متحفاً ذا أهمية وطنية، وبحكم مجموعاته ذات الصيت العالمي، فقد كان ترميمه من المشروعات الأولى للمؤسسة، إلى جانب «متحف القصبة للثقافات المتوسطية» بطنجة، الذي أعيد فتح أبوابه، خلال الصيف الماضي.
وتمكن السينوغرافيا الجديدة، زيادة على المعدات الوسائطية الجديدة، من إبراز قيمة زيارة «متحف التاريخ والحضارات» وإضافة بعد علمي إليها؛ حيث لم تعد للزيارة قيمة أثرية فقط، بل تحولت إلى مسار بيداغوجي ومواضيعي، يقترح خلاصة للتاريخ المغربي ولمختلف حضاراته، متحولاً إلى سفر حقيقي عبر العصور.
وتم بناء نواة المتحف، حسب وثيقة تقديمية، في ظل الحماية الفرنسية، في عشرينات القرن الماضي، لإيواء «مصلحة الآثار»؛ حيث إن حفريات وليلي الشهيرة ابتدأت، منذ 1915، بتعهد من الجنرال ليوطي الذي نصّب لويس شاتلان مديراً للحفريات، بعد أن استدعت أهمية ووفرة اللّقى المكتشفة إحداث دائرة للآثار، سنة 1918. وقد استخرجت، خلال عمليات التنقيب، قطع بأهمية أثرية وفنية كبرى، عرضت على زوار وليلي في متحف على مقربة من الموقع الأثري. وفي 1930، قررت «مصلحة الآثار» نقل المجموعات الأثرية إلى الرباط، داخل مبناها الإداري. وما بين 1931 و1932، تم إحداث مقر إداري ملحق بقاعتين معدتين لعرض المجموعات القادمة من بناصة وتاموسيدا. وفي 1952، تم إنشاء قاعة كبيرة بيضاوية الشكل موجهة مبدئياً لعرض مجموعات ما قبل التاريخ، لكنها احتضنت في الأخير القطع الأثرية البرونزية الرومانية.
وحفز وفرة اللّقى ونقل المجموعات الأثرية من وليلي إلى الرباط سنة 1957، وكذا ازدهار السياحة ومتطلبات الزوار المتعطشين لمعرفة تاريخ البلاد، على عصرنة مبنى المتحف، بهدف استعمال أنجع وعرض جديد للمجموعات. وفي فبراير (شباط) 1960، افتتح متحف آثار ما قبل الإسلام، الذي كان قد حمل اسم لويس شاتلان في يوليوز (تموز) 1955.
* مسار المعرض الدائم
يقدم «متحف التاريخ والحضارات» لزواره مجموعة أثرية ذات غنى فريد؛ وذلك لضمها شهادات مادية من مختلف الحضارات التي توالت على المغرب، منذ فترة ما قبل التاريخ إلى غاية الحضارة الإسلامية.
وتجمع سينوغرافيا المتحف الجديدة بين مسارين: مسار تاريخي يروي تاريخ المغرب، منذ فترة ما قبل التاريخ إلى فترة الحضارة الإسلامية؛ ومسار موضوعاتي يركز على مجموعات الرخام والبرونز القديم.
* مسار تاريخي
يعزز المسار التاريخي، الذي يبتدئ من بهو المدخل بمحطة رقمية تفاعلية، توضح للزائر المعالم الجغرافية الضرورية لفهم المجموعة المتحفية، وذلك بتحديدها المواقع الأثرية الأساسية.
ويُستقبل الزائر، عند دخوله إلى المتحف، بتمثال رخامي كبير الحجم للملك الموريتاني «بطليموس» (القرن الأول)، قبل أن يكتشف قاعة رئيسية مبلطة بنسخة من عمل فني لفسيفساء هندسية بوليلي. وتنقسم هذه القاعة شقين، خصص أحدهما لحقبة ما قبل التاريخ والآخر لحقبة العصور القديمة.
بالنسبة لحقبة ما قبل التاريخ، يضم القسم الأول، من هذه القاعة، مجموعات تغطي فترات العصر الحجري القديم، العصر الحجري الحديث وعصر المعادن. ويكتشف الزائر أُول الآثار الدالة على وجود الإنسان في المغرب، ودلائل على الثقافة المادية لمختلف حضارات ما قبل التاريخ. ويتكون هذا القسم، أساساً، من جماجم الإنسان العاقل المنتمي إلى فترات العاتيرية والموستيرية والأوشتاتية (الإيبيروموريسية). ويضاف إلى بقايا الرفات البشرية، اللقى المتعلقة بمختلف جوانب الحياة اليومية لعصور ما قبل التاريخ، من أسلحة صيد (مكاشط ونبال مذيلة، فأس،...) وقطع من السيراميك (وعاء، زجاجة،...)، وحلي. ثم التطرق إلى الطقوس الجنائزية لعصور ما قبل التاريخ من خلال واجهتين زجاجيتين تعرض قبرين.
ويبحر الزائر، في الجناح الأيسر من القاعة، في العصور القديمة للمغرب، التي توالت عليها الحضارات الفينيقية، الموريتانية والرومانية، من خلال مجموعة من القطع البرونزية والسيراميكية والرخامية.
ويتم عرض الحقبة الفينيقية، من خلال القطع الأثرية المتعلقة بالعلاقات التجارية بين المغرب وشرق البحر المتوسط، حيث يتاح للزوار مشاهدة مصابيح من السيراميك وخزف ذي نقوش، وغيرها من القطع التي تمثل هذه الحقبة المزدهرة. في حين يتم عرض العصر الموريتاني، من خلال قطع خزفية من موقع بناصة، بالخصوص، الذي كان مركزاً مهما لإنتاج السيراميك؛ ويشمل قطعاً متعلقة بالتجارة (جزء من أمفورا، جرة)، وبالحياة اليومية (مصابيح، أكواب، مغرفة)، وبالأثاث (تمثال أبو الهول، مصباح سريري).
ويأتي القسم الإسلامي استمراراً للمسار الزمني للمعرض، حيث يكتشف الزائر المغرب من خلال السلالات الحاكمة المختلفة التي توالت على البلاد (الأدارسة، المرابطين، الموحدين، المرينيين والعلويين)، من خلال البقايا الأثرية المكتشفة في المواقع الأثرية الإسلامية ببليونش وسجلماسة والكتبية.
ويعرض هذا القسم مختلف القطع الأثرية، التي تشمل عناصر معمارية (أنابيب، تيجانا وأعمدة) وعناصر الديكور (الخشب، الجص والزليج) وأغراضا علمية (إسطرلابا، مكتبا، تحفا) وأدوات يومية (قطعا من سيراميك أحادية اللون ومتعددة الألوان، أطباقا، أواني زجاجية) وأدوات القياس والعملة (مقياس الزكاة، عملات فضية وذهبية لمختلف السلالات التي حكمت المغرب).
ولا يعرف إلا القليل عن الفترة الانتقالية ما بين العصور القديمة والعصر الإسلامي، ونادراً ما تم توثيقها. ورغم ذلك، فهي ممثلة تمثيلاً جيداً في «متحف التاريخ والحضارات»، وذلك من خلال مجموعة من القطع التي تظهر الطقوس الدينية اليهودية والمسيحية التي كانت تمارس خلال هذه الفترة.
وعلى يمين القاعة الرئيسية، يوجد فناء في الهواء الطلق تعرض فيه مجموعات حجرية تتألف من نقوش صخرية، ونقوش ليبية ولاتينية إلى جانب لوحات نذرية قديمة وشواهد إسلامية منشورية الشكل.
* مسار موضوعاتي
يستعرض المسار الموضوعاتي التماثيل الرخامية المجلوبة، أساساً، من بناصة ووليلي. وإلى جانب هذه القطع الرئيسية، تعرض، أيضاً، مجموعة من التحف البرونزية التي تقدم الموضوعات التصويرية الخاصة بتراث المغرب القديم. فعلى يسار قاعة الرخام توجد مساحة مخصصة للأعمال الفنية القديمة المصنوعة من الرخام الأبيض، تحتوي على روائع النحت الروماني التي تم العثور عليها بالمغرب. وهناك، على سبيل المثال، رئيس الآلهة جونو، وتمثال لفينوس في حالة خجل، وقاعدة منقوشة لتمثال لسولبيسيوس فيليكس وتماثيل ذات رداء ومذابح، أيضاً.
وتنفتح القاعة المخصصة للرخام على قاعة بيضاوية الشكل تمكن الزائر من اكتشاف فضاء مخصص لمجموعة غنية من القطع النقدية البرونزية.
ويبقى البرونز من المواد الرئيسية التي شكلت منها القطع الأثرية للمواقع الشهيرة عالمياً، كوليلي وبناصة وتاموسيدا، والتي تمثل خبرة وإتقان الصانع القديم، حيث تقترح النماذج الكبيرة للمنحوتات القديمة ومختلف جوانب الحياة القديمة الأقسام الرئيسية في هذه القاعة.
ويتم تقديم جزء من القطع البرونزية في هذا القسم الموضوعاتي، مستعرضاً البرونز في الحياة اليومية، في الحياة الدينية وفي المجال العسكري. وتأتي هذه الموضوعات الرئيسية معززة بتيمات فرعية غنية، تشمل عربة حصان (تُرْس، عناصر عربة، خواتم نير، قلائد، مشاجب) وقطع الإضاءة (مصابيح، عناصر شمعدانات، كماشة فتائل) والأثاث الداخلي (مصابيح الحائط وعناصر السرير، عناصر المائدة)، والزينة (مجوهرات، إطارات مريا، مزهريات للعطور).
وإذا كان محور هذا القسم يتمثل، أساساً، في تمثال جوبا الثاني، فإعادة بناء سرير روماني يظل هو، أيضاً، عنصراً ذا أهمية تاريخية كبرى في هذا المتحف.
* القطع الرئيسية للمجموعة
يضم «متحف التاريخ والحضارات» مجموعة أثرية استثنائية، تبرز بينها على الخصوص قطع رئيسية، تختصر غنى تاريخ المغربي وتميز حضارته. ومن هذه القطع يكون الزائر مع تمثال جوبا الثاني (ملك أمازيغي كان تابعاً لروما. حكم المغرب في الفترة الممتدة من 25 قبل الميلاد إلى 23 للميلاد) وتمثال نصفي لكاتون (سياسي روماني عاش في الفترة الأخيرة للجمهورية، حفيد كاتو الأكبر، والخصم الشرس لقرطاج. وهو مدين بلقبه إلى مدينة أوتيكا، في تونس، حيث انتحر، بعد فوز منافسه قيصر في تابسوس في 46 قبل الميلاد)؛ وتمثال شاب متوج بلبلاب (تمثال يحمل على رأسه غصنين من اللبلاب يلتقيان عند الجبين والرقبة، الشيء الذي يعكس تأثر رومان وليلي بالأسلوب الفني للنخبة الغنية بروما)؛ كلب في حالة هجوم (اكتشف سنة 1916 في منزل على مقربة من قوس كركلا)؛ ومغرفة ليكسوس (استخدمت في المآدب لغرف النبيذ ولصبه في الأكواب)؛ تمثال بطليموس (من الرخام، ويرجع للأمير بطليموس ابن جوبا الثاني وكليوباترا)؛ وتمثال غزالة شالة (تم اكتشاف هذا التمثال البرونزي المذهب خلال حملة التنقيب لسنة 1971 بشالة).



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)