نهر جيانتسي (كما يُـنطق اسمه بالصينية) هو ثالث أطول نهر في العالم، واسمه يعني «النهر الطويل». وهو أطول نهر في قارة آسيا، وحسب «إنسوكلوبيديا بريتانيكا» هو أطول نهر يجري في بلد واحد. الفيلم التسجيلي الذي حققه سو سِـن هو، بدوره، أطول فيلم تم تصويره عن هذا النهر بين أفلام عدة، بينها التسجيلي Up the Yangtze ليونغ تشانغ (2007) الذي لم يزد كثيراً عن ساعة ونصف وCrosscurrent ليانغ تشاو (2016) الروائي المؤلف من 116 دقيقة. مدة عرض هذا الفيلم الإنسيابي الكامن بين التطويل والإبداع 156 دقيقة. «مناظر جانغتزي»، الذي شهد عرضه العالمي الأول في المهرجان الفرنسي «سينما دو ريل» ما بين الثالث والعشرين من الشهر الماضي والثاني من هذا الشهر، بسيط التركيب: كاميرا فوق سفينة تنطلق من مصب النهر في حوض شنغهاي طلباً لآخر نقطة يمكن الوصول إليها وهي نقطة قريبة من مقاطعة تيبت. لا مقابلات ولا حوار ولا تعليق (لكنه ليس صامتاً في الوقت ذاته) مصوّر بكاميرا فيلمية على عدة سنوات (كما نفهم من عناوين مصاحبة)، وقائم على توليف بسيط يحافظ على المنحى التأملي طوال الوقت بسحبات طويلة للمشاهد (أحياناً أكثر مما يجب) تجبر المشاهد على التفكير الوجداني والتمعن. الماثل على الشاشة هو فيلم يلخص رحلة قد تتطلب فيلماً من 156 ساعة وليس 156 دقيقة. لكن ما هو قريب من الإعجاز ما يثيره من اهتمام ومتابعة؛ كونه يلتقط منذ البداية أشكال الأشياء (الماء، الجسور، السواحل، ثم الجبال والبراري)، ويهبط على الشواطئ ليلتقط أشكال الناس أيضاً. في هذا الشأن، نتابع حياة صينيين نزلوا من درجة التهميش إلى حيز أسوأ: متشردون يبحثون في القمامة، رجال يعيشون في غرف بلا سقف وقليل من الأعمدة والجدران. متوترون ومجانين هائمون، ورجل يشغل نفسه بقطع العقد في جذوع الأشجار. في مجملها حياة مهدورة تحت أنواع العوز والتلوّث البيئي. المدن التي يمر الفيلم بها غالبها ليس في حال أفضل. يمر على نانجينغ وتونغ لي وداتانغ وتشونبينغ والكثير سواها. معظمها مدن كاحلة مثل السماء الرمادية التي يصوّر المخرج فيلمه تحتها. بعضها فقط يتلألأ عاكساً حياة أفضل، وإحداها (وانشان) مبنية على أنقاض أخرى غارقة في الماء. الفيلم ليس سياحيا، وقصد المخرج تصوير البيئة المهدورة والنهر الملوث (لا ينسى أعمدة الدخان على الأرض) وهو يستعرض من حين لآخر كوارث وقعت وعدد ضحاياها. بذلك هو فيلم منحاز (وبالتالي قد لا يكون صادقاً)، لكن له الحق في ذلك؛ إذ لا يختلق المشاهد، بل ينقلها عاكساً صينا قد تكون بالغة الثراء في عالم اليوم، لكن مئات الملايين من أناسها يعيشون في العوز.
يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم. ويُذكّر الفيلم أن الصحافة في تاريخها العريق، دائماً ما وجدت نفسها أمام مسؤوليات وتحديات عديدة. في هذا الفيلم الذي أخرجه ريثي بَنه عن الأحداث التي عصفت في بلاده سنة 1978 اقتباسات عن كتاب الصحافية إليزابيث بَكَر (Becker) وعن تجربتها بصفتها واحدة من 3 صحافيين دُعوا لمقابلة بُل بوت، رئيس وزراء كمبوديا وأحد قادة منظمة «الخمير الحمر» (Khmer Rouge) المتهمة بقتل ما لا يقل عن مليون و500 كمبودي خلال السبعينات. الصحافيان الآخران هما الأميركي ريتشارد دودمان، والأسكوتلندي مالكوم كالدويل.
لا يبدو أن المخرج اتّبع خُطى الكتاب كاملةً بل تدخّل بغايةِ ولوج الموضوع من جانب الحدث الذي وضع حياة الثلاثة في خطر بعدما جاءوا للتحقيق ومقابلة بُل بوت. في الواقع دفع الأميركي حياته ثمناً لخروجه عن جدول الأعمال الرسمي والتقاطه صوراً تكشف عن قتلٍ جماعي. وفي الفيلم لحظة مختصرة لكنها قاسية التأثير عندما يَلقى الصحافي حتفه غرقاً في نهر دُفع إليه.
الفرنسية إيرين جاكوب التي تؤدي شخصية الكاتبة بَكَر تُعايش بدورها الوضع بكل مأساته. تُفصل عن زميلها ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وتمر بدورها بتجربة مخيفة لم تكن تعلم إذا ما كانت ستخرج منها حية.
في باطن هذا الفيلم الجيد على تواضع إنتاجه، تُطرح أسئلة فيما إذا كان الصحافي يستطيع أن يقبل التحوّل إلى جزءٍ من البروباغاندا. وهل هو أداة لنقل الرأي الرسمي بغياب حرية التعبير؟ وماذا لو فعل ذلك وماذا لو لم يفعل؟
هو ليس بالفيلم السّهل متابعته من دون معرفة ذلك التاريخ ودلالاته حول العلاقة بين النُّظم الفاشية والإعلام. والحرية التي لا تُمنح لصحافيين محليين هي نفسها التي لا تُمنح كذلك للأجانب ما دام عليهم نقل ما يُقال لهم فقط.
* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».
THE WRESTLER ★★
* إخراج: إقبال حسين شودهوري (بنغلاديش).
يقترب الرجل المسن موجو (ناصر أودين خان) وسط أشجار ليست بعيدة عن شاطئ البحر وينتقل من واحدة لأخرى ماداً يديه إليها كما لو كان يريد أن يدفعها بعيداً أو أن يُزيحها من مكانها. ومن ثَمّ يتركها ويركض صوب أخرى ليقوم بالفعل نفسه قبل أن يعود إليها. يبعث هذا المشهد على تكراره سخرية غير مقصودة. قد تكون طريقة قديمة لممارسة تمارين المصارعة أو التدريب الوحيد المُتاح في تلك القرية، لكن موجو جادٌ في محاولته لدفع الأشجار إلى الخلف أو تغيير مواقعها، استعداداً لملاقاة مصارع أصغر منه سنّا وأكبر حجماً في المباراة المقبلة.
هناك كثير مما يتأمله المخرج شودهوري بطيئاً قبل تلك المباراة وما بعدها. بعضُ المشاهد لديها نسبة معقولة من الشِّعر الناتج عن تصوير الطبيعة (ماء، أشجار، حياة... إلخ) وبعضها الآخر لا يفضي إلى تقدير خاص. في نصف الساعة الأولى يعكس المخرج شغفاً ما بتصوير شخصياته من الخلف. عندما يتخلى المخرج عن هذه العادة لاحقاً، يستبدل بتلك اللقطات سلسلة من المشاهد البعيدة عن شخصياته في الغالب. هنا يتحسّن تأطير اللقطات على نحوٍ نافع ولو أن شغله على الدراما يبقى غير ذي مكانة.
يطرح الفيلم مشكلة رجلٍ لا يريد الاعتراف بالواقع ويتحدى من هو أكثر قوّة منه. يحقّق طموحه بلقاء المصارع الآخر ويخفق في التغلب عليه. في الواقع يسقط أرضاً مغشياً ومن ثمّ نراه لاحقاً في بيت العائلة قبل أن يعود إلى تلك الأشجار ليصارعها. المخرج (ثاني فيلم له) طموح، لكن أدواته التّعبيرية وإمكانياته التي تفرض نفسها على السيناريو وحجم الفيلم بأسره، محدودة.
* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».
ONE OF THOSE DAYS WHEN HEMME DIES ★★★
* إخراج: مراد فرات أوغلو (تركيا).
قرب نهاية الفيلم يبدأ الشاب أيوب مراجعة ما مرّ به طوال اليوم. لقد انطلق غاضباً من المُشرِف على العمل عندما شتم أمّه. يعمل أيوب في حقلٍ لتجفيف الطاطم. ويعرف المخرج كيف يوظّف المكان، درامياً (سهل منبطح تحت شمس حامية وصعوبة العمل)، وجمالياً (تلك الثمار المقطوعة إلى نصفين والملقاة فوق شراشف على مد النظر).
نقطة الخلاف أن أيوب يُطالب بأتعابه، لكن المُشرف على العمل لم يتقاضَ المال بعد ليدفع له، مما يؤجّج غضب أيوب فينشب شجار بينهما. يركب دراجته النارية وينطلق صوب بلدته. في منزله مسدسٌ سيتسلّح به وفي البال أن يعود لينتقم. معظم الفيلم هو رحلة على الدراجة التي تتعطل مرّتين قبل إصلاحها عند المساء. الأحداث التي تقع على الطريق وفي القرية الصغيرة تُزيّن الموضوع بشخصيات تدخل وتخرج من الحدث الرئيسي الماثل. في أحد هذه الأحداث الثانوية يُساعد أيوب رجلاً عجوزاً اشترى بطيخة ولا يستطيع حملها، فيوصله والبطيخة إلى داره. وفي مشهد آخر يستمع لتوبيخ زوج شقيقته لأنه كان عرض عليه العمل في شركته ورفض. لا يقول لنا الفيلم لماذا رفض ما ينتقص من بنية الموضوع وأسباب عزوف أيوب على تنفيذ وعده لنفسه بالانتقام.
اعتمد المخرج هذين المشهدين وسواهما لملء الوقت الممتد بين عزم أيوب على الانتقام وعزوفه عن ذلك. لكنه هذه المشاهد ضرورية رغم أن الفيلم ينتهي من دون أن يبني حجة دامغة لقرار أيوب النهائي. هذا الفيلم دراما مصوّرة جيداً ومكتوبة بدراية، رغم الهفوات المذكورة.
* عروض حالياً في مهرجان «مراكش»
★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز