يلف الرجال السودانيون حول رؤوسهم قطعة قماش بيضاء تتراوح طولاً وقصراً بين 4 إلى 10 أمتار، لتقيهم لفح حر الاستواء، وتزينهم، وتحدد مقاماتهم الاجتماعية وهويتهم الوطنية، وولاءاتهم الدينية. إنها «العِمّة السودانية» غطاء الرأس المكمل للزي القومي السوداني، المكون عادة من «الجلابية، العراقي، السروال الطويل، الملفحة، المركوب، وأحياناً العباءة».
يكون السوداني في أبهى حالات زهوه بنفسه وهو يرتدي زيّه الكامل، الذي يعرف به بين غيره، ويعطيه مقامه الاجتماعي بين أهله وناسه، وتحدد عمامته موقعه الطبقي، بل وتوجهاته الفكرية والدينية بل والجهوية، فكل مجموعة ثقافية سودانية لها شكل لعمامتها وحجمها، ولكل طبقة خاماتها في اختيار العمامة.
وتلعب العمامة – ويختصرونها بالعِمّة – أدواراً كثيرة في حياة الرجل السوداني، فهي من جهة تقي رأسه حر الاستواء اللافح، ويعكس بياضها الناصع حرارة الشمس العمودية على الرؤوس معظم فصول العام، ومن جهة أخرى تملؤه بالزهو الوطني. ففي البلاد العربية يعرف «الزول» بالعمامة «المقنطرة» على رأسه، وهي تكمل زيّه الفضفاض. كما تلعب دوراً في إمكانية استخدامها كغطاء حال الحاجة، إضافة لبعدها الصوفي و«الروحي» فهي كما يقول البعض «كفن» يحمله على رأسه استعداداً للموت الذي قد يفاجئه في أي زمان أو مكان.
ويرى الباحثون في التراث الشعبي أن جذور «العمة السودانية» ترجع إلى كون السودان وريثا لمكونات ثقافية وحضارات أفريقية ونيلية وعربية، أو كما يقول الأستاذ في الجامعة القطرية حاج الدوش المحامي، في ورقة منشورة له: «الحضارة السودانية هي نتاج طبيعي لما يسمي بالعالم القديم، وملتقى للحضارات القديمة وبوابة نحو قارة أفريقيا وآسيا وأوروبا».
ويعد الدوش العمارة والأدوات والأسلحة والطعام والملابس، شكلاً من أشكال التواصل بين الشعوب والحضارات، ويقول: «غالباً ما تتشكل الأزياء الشعبية عبر التاريخ ولفترات طويلة، ينتج من خلالها الزي المميز لشعب ما، ويعتبر الدين والمعتقد من الأمور الجوهرية التي يتشكل منها اللباس».
ويوضح أن العمامة «زي عربي» عرف قبل البعثة النبوية، وهو المكافئ للتيجان عند الروم والفرس، وأن «العمائم هي تيجان العرب»، لكنها تلاشت بمرور الوقت وتبقت منها العمامة «السودانية والعمانية والموريتانية» عربياً، وعمامات رجال الهند وبلاد ما وراء النهر التي تأثرت بانتشار الإسلام.
ويرجح الدوش دخول العمامة إلى السودان إلى مرحلة ما قبل الإسلام بفترات طويلة، عن طريق التواصل التجاري بين بلاد السودان والعرب، لكنها أخذت بعداً دينياً بعد انتشار الإسلام في السودان، والاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ثبت أنه لبس العمامة البيضاء والخضراء والحمراء والسوداء، ولاستحباب تغطيه الرأس عند الصلاة.
وتصنع «العمة السودانية» من أقمشة قطنية بيضاء، ومتوسط طولها 5 أمتار، وقد تقصر عن ذلك وتطول لتصل 10 أمتار. وعادة ما تكون من قماش «التوتال» الإنجليزي أو السويسري الفاخر ناصع البياض، لكنها قد تكون من أقمشة أخرى أرخص حسب المستوى الاجتماعي.
وتلف العمامة حول الرأس بطرق مختلفة، وتعكس كل طريقة الشريحة الاجتماعية والجغرافية والدينية لمرتديها، وتلبس تحتها «طاقية» من الحرير الأحمر كما في أوقات سابقة، لكن بدخول الصناعة «الصينية» مجال الأزياء السودانية، اختفت طواقي الحرير الحمراء التي تشغلها النساء لرجالهن، وكلما كبرت العمامة وتكورت وزاد بياضها فهذا يدل على رغد العيش الذي يعيشه مرتديها.
ويرتدي الحرس الرئاسي السوداني «الجمهوري» زياً عسكرياً، العمة الملفوفة بطريقة خاصة واحدة، من مكوناته، وكانت العمة ضمن الزي المدرسي في المدارس الابتدائية والوسطى، قبل تغيير السلم التعليمي في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري.
وتختلف أنواع العمامات، ينطقونها «العمم»، منها عمم المشهورين والتجار ورجال المجتمع، ومنها السياسي والديني، وتدل خامتها وطولها ودرجة بياضها على المكانة الاجتماعية لمرتديها، ما جعل 4 عمم تأخذ شهرتها في تاريخ العمائم السودانية المعاصر، وأشهرها عمة الرئيس الأسبق جعفر النميري، الذي طبع صورته وهو يرتديها على العملة الوطنية «الجنيه»، وهو ما أدى لإحراقه بعد سقوط حكمه بالثورة الشعبية في أبريل (نيسان) 1985. وعمة المغني الشهير كمال ترباس، ورجل الأعمال الشهير بابكر حامد ود الجبل، والصحافي الإسلامي حسين خوجلي، وخامسة مزركشة ومطرزة هي عمة الفنان التشكيلي الشهير راشد دياب.
ويقول الفنان التشكيلي راشد دياب، إن العمة السودانية نتجت عن هجين أزيائي بين العمامة العربية، وتيجان ملوك النوبة في الحضارات القديمة، والعمة «أم قرينات» في عهد ملوك الفونج، وأغطية الرأس المصنوعة من جلود الحيوانات عن قبائل الرّحل قديماً.
ويوضح دياب في حديثة لـ«الشرق الأوسط»، أن السودانيين يرتدونها لأبعادها الجمالية والسلطوية، ولأسباب وظيفية تتمثل في الحفاظ على رطوبة الرأس من شمس السودان الحارقة، وأحياناً دليلاً على الاختلاف والتميز. ويضيف: «لكن العمة بشكلها الحالي لم تأخذ مكانها زيّاً وطنياً إلا بعد أن نهضت المدن، وانتعش الرأسمال». ويتابع: «صار حجمها يدل على مكانة مرتديها، فكلما كبُرت كبرت المكانة الاجتماعية لمن يلبسها، وكأن رأسه يكبر بكبر عمته، لذلك عندما يلبس أحدهم عمة حائلة اللون فيعني هذا أنه من الشرائح الضعيفة».
وبحسب دياب، فإن الفنانين والمشاهير يستغرقون وقتاً طويلاً في لف العمة، قد يتجاوز ربع ساعة، وبعضهم يتركها ملفوفة عند مدخل الدار ليضعها على رأسه متى خرج، يقول: «أعتز بالزي السوداني، خاصة الذي أصممه بنفسي، وهو لم يتغير كثيرا منذ عهد دولة الفونج، ومنذ كنت صغيراً كانت تغريني الثياب الناصعة بشخبطتها بالقلم حيث تشبه السبورات البيضاء. وحين كبرت اشتغلت على زخرفتها؛ لأن الأبيض الكثير بالنسبة لي مزعج، لكن الناس كانوا يرون أني قد شوهت البياض».
ويحتفظ كل من الطائفتين الدينيتين الكبيرتين في السودان «الأنصار والختمية» بشكل خاص للعمة التي يرتديها، من حيث الطول وطريقة الارتداء. فطائفة الأنصار ترتدي عمة قصيرة مشدودة على الرأس ومثلثية الشكل حول الجبين، ويتدلى خلفها جزء من القماش يعرف باسم «العزبة»، ودرج زعيم الأنصار الصادق المهدي وأنجاله على ارتدائها بهذا الشكل.
أما تلك التي يرتديها زعيم طائفة الختمية محمد عثمان الميرغني وأهل طائفته، فهي تلبس بطريقة دائرية عن الوجه، وهي قصيرة جداً ومشدودة ولا تتدلى منها «عزبة» كما هي الحال في عمة الأنصار. ويختلف الناس في طريقة لف العمة، فهي تبدأ من اليمين لليسار عند البعض والعكس عند الآخرين، وتكون منسدلة أو مبرومة أو مكورة مثلثية أو دائرية عند البعض، فيما يكتفي البعض بوضع قماش العمة حول كتفيه. وتلبس في المناسبات الاجتماعية مثل الزواج ومجالس العزاء وجلسات الصلح القبلي «الجودية» وفي الأعياد والمناسبات الوطنية، بل وحتى في المناسبات البروتوكولية، فرؤساء السودان صاروا يحرصون على ارتداء الزي القومي السوداني، والعمة واحدة من مكوناته في مشاركاتهم الخارجية.
«العِمّة السودانية»... هوية وزينة وحاجة
أكبرها عمامات ترباس وود الجبل وأصغرها عمامة «الختمية»
«العِمّة السودانية»... هوية وزينة وحاجة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة