«سامحيني يا أم ألبير»

تستعد دار الشروق المصرية لإصدار كتاب قصصي للكاتب أسامة غريب بعنوان «سامحيني يا أم ألبير» حيث يمزج الكتاب بطريقة ممتعة بين الحس الأدبي والسخرية، فن القصة والسيرة الذاتية، وهو يضم 20 قصة تنتظمها ثلاثة خيوط في نسيج واحد.
يأخذ المؤلف، القارئ للمجتمع القاهري في الفترة التي عاشها في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين متجولاً به في أرجاء حي الظاهر بالقاهرة بشوارعه ودروبه وحواريه الذي قضى فيه الكاتب سنوات طفولته وشبابه المبكر، وهو حي جمع أبناء الطبقة المتوسطة بشرائحها المختلفة، إلى جانب الفقراء المهمشين ممن عرفهم وصادقهم وعاش بينهم. تلك الفترة التي عايش خلالها قصصاً وشخصيات خلال فترة التحاقه بالمدرسة الثانوية والجامعة.
يروي أسامة غريب القصص التي عاشها، وكان فيها قريباً من البطل، متابعاً له وشاهداً عليه. يكتب عن راوية فاتنة الشارع التي تحولت قصة حبها إلى مأساة، سرحان البواب الذي راح ضحية ولعه بالنساء، روماني صبي المكوجي وقصة اكتشافه لدلالة اسمه، رحلته إلى الباطنية برفقة ميمي مفتاح، وجارته «أم ألبير» التي يطلب منها أن تسامحه.
هنا قصة من الكتاب، الذي سيصدر قريباً:
جمعة... ملك البيزنس
منذ شاهدت سعاد حسني بالتلفزيون في الصغر صرت ممسوساً بها، ثم أصبحت زبوناً دائماً لدور العرض التي تعرض أفلامها. كنت على أعتاب المرحلة الإعدادية عندما بدأت بمشاهدة فيلم «غروب وشروق» في سينما بارك بميدان السكاكيني، ثم شاهدت «الحب الضائع» بسينما ريالتو بالظاهر، وفيلم «الخوف» بسينما مصر بشارع الجيش، وبعده جاء فيلم «زوزو» الذي انتظرته كثيراً حتى انتهى عرضه من سينما أوبرا وجاء يتهادى إلى سينمات الدرجة الثالثة حيث شاهدته بسينما سهير في العباسية، وفي الوقت نفسه عُرض لها فيلم آخر سيء الحظ لا أظن الكثيرين سمعوا به وهو فيلم «غرباء» من إخراج سعد عرفة، ولقد أحببت هذا الفيلم إلى جانب «على من نطلق الرصاص» أكثر من غيرهما رغم أنهما لم يكونا الأكثر شهرة.
عندما ظهرت إعلانات فيلم «أميرة حبي أنا» وملأت أفيشاته الشوارع شعرت بتوتر مصدره عدم القدرة على الانتظار لمدة سنة كاملة حتى ينتهي عرضه من سينما الدرجة الأولى ثم يهبط إلينا في سينما الأحياء.
كانت سينما الحي هي أجمل مظهر للمدنية أحببته في حياتي... في حينا وحده (الظاهر) كان يوجد أكثر من 10 دور عرض سينمائي، وقد حدثني الأقدمون أن العدد كان أكثر من ذلك في السابق.كانت تجاورنا بشارع الظاهر سينمات «ريالتو الشتوي وريالتو الصيفي وفاليري وماجيستك»، غير سينما فيكتوريا بشارع بورسعيد، وبارك بالسكاكيني، والتاج بشارع أحمد سعيد ومصر وهوليود بشارع الجيش.
لم أستطع الانتظار ووجدت نفسي أقوم بالادخار من المصروف حتى جمعت قيمة التذكرة وتوجهت إلى سينما راديو التي كانت تعرض الفيلم. وقفت بالطابور ودفعت ستة عشر قرشاً ونصف ثمن التذكرة.
بالصدفة لمحت «جمعة» زميلي بالمدرسة يقف بالممر الذي تقع به السينما لشراء الآيس كريم في انتظار الدخول مثلي. شاغبته متسائلاً: من أين لك بثمن تذكرة السينما وأنت البائس المعدم؟ إن عهدي بك زبوناً وفياً لسينما هوليود التي يرتادها اللصوص والشواذ!
قال: عمي الذي في البرازيل مات وترك لنا مزارع بن تجري فيها الخيل!.
كان جمعة من أشقياء الفصل الذين يشاركون في كل نشاط أسود... لعب قمار... خطف شنط سيدات، وقد عرفت منه أنه حصل على ثمن التذكرة من حصيلة لعب الثلاث ورقات داخل حديقة الأزبكية.
وقفت معه نتحدث ريثما يقومون بتجهيز صالة العرض، ولاحظنا أن تجارة السوق السوداء قد نشطت بعد إغلاق شباك التذاكر. مر بجوارنا شاب يهتف طلباً لشراء تذكرتين من أي أحد يرغب في بيع تذاكره. وجّهته نحو سماسرة التذاكر الموجودين بالمكان فأخبرني بأن مخزونهم قد نفد، وأنه يريد تذكرتين بأي ثمن له ولخطيبته. اعتذرت بعدم قدرتي على حل مشكلته... لكن للغرابة فوجئت بزميلي جمعة ينبري عارضاً بيع تذكرته بربع جنيه. وافق الشاب على الفور وأخرج نقوده طالباً شراء تذكرة أخرى. تلفّت جمعة حوله ثم استقر نظره علي واقترب هامساً: هات تذكرتك بسرعة. قلت له: لا يا حبيبي أنا لن أبيع تذكرتي... لقد جئت لمشاهدة الفيلم لا للربح في التذكرة. تدخل الشاب طالب التذكرة وناشد ضميري ألا أخذله أمام خطيبته التي كان على وشك فسخ الخطبة معها، واليوم قد تصالحا وطلبَتْ منه أن يأخذها لتشاهد سعاد حسني. من جانبه لم يتردد جمعة في طرق الحديد وهو ساخن فأمسكني من ذراعي وأخذني جانباً وقال: يا أخي هذه فرصة... لنبع التذاكر ونحقق ربحاً ونأتي لمشاهدة الفيلم غداً ومعنا ثمن العشاء أيضاً.
بدأ اعتراضي يضعف بعد تردد، ثم بدأت ألمح معقولية الفكرة، فمنحته التذكرة وأنا أقول لنفسي إن اليوم مثل الغد.
في الطريق قام جمعة بعدة عمليات حسابية خرج منها بأن هؤلاء الذين يبيعون التذاكر على باب السينما بعد أن يشتروها من الشباك يحققون مكاسب خيالية. أمّنت على كلامه فقال: إذا فعلنا مثلهم نستطيع أن ندخل السينما بالمجان، كما يمكننا أن نشتري كل كتب الألغاز وروايات أرسين لوبين وأجاثا كريستي. قلت: هل تقصد أن نتاجر في التذاكر مثل هؤلاء؟.
قال: ومالهم هؤلاء؟ إنهم يحققون ربحاً حلالاً من تجارة مشروعة!... ثم سرح جمعة بخياله قبل أن يقول بحسرة: ولكن مشروعاً كهذا يحتاج لرأسمال. قلت: طبعاً... هذا مشروع كبير يحتاج على الأقل لخمسين قرش!.
قال جمعة: لا... إننا يجب أن نبدأ على كبير ورأس المال ينبغي ألا يقل عن جنيهين.
لعب الكلام برأسي وتخيلت أنني سأستطيع النزول لسور الأزبكية لأغترف من الكتب المعروضة على الرصيف بغير حدود، غير سندوتشات الشاورمة التي سنشتريها من إكسلسيور قبل أن ندخل السينما كل يوم ببلاش!.
في اليوم التالي التقينا على باب دار العرض مبكراً وقمت بتسليمه جنيهاً كاملاً حصلتُ عليه من سلفيات جمعتُها من إخوتي بضمان المشروع، ووضع هو مثله. لم أشأ أن أسأله عن كيفية تدبيره للجنيه لأنني لم أرغب في الاطلاع على تفاصيل جريمة!
مشينا نحو سينما راديو والأحلام الوردية تداعب عقولنا. أخبرني جمعة أن هذه مجرد بداية لأن لديه مشروعات أكبر سيدخلني معه فيها بعد أن يصير بحوزة كل منا عشرة جنيهات.
سألته عن مشروعات المستقبل فلمح إلى نيته التوجه في المرحلة المقبلة نحو المسرح حيث التذاكر أغلى والربح أوفر. عندما وصلنا إلى السينما مضى جمعة نحو الشباك ليشتري بالجنيهين 12 تذكرة.
عاد إلي متهللاً وفي يده التذاكر: سنبيع عشر تذاكر ونشاهد الفيلم بتذكرتين، ثم يتبقى لنا بعد استرجاع رأس المال خمسون قرشاً مكسباً صافياً وهو أول الغيث.
بعد ذلك وقفنا نتابع الطابور أمام الشباك حتى تلاشى بعد نفاذ التذاكر وتم إغلاق الشباك.
في اللحظات التالية يبدأ الشعور بتعطش السوق ويسود الإحساس بأهمية أي تذكرة تظهر في أي يد وتصير لها قيمة مساوية للهفة طالب الشراء. هنا نزل جمعة بكل ثقله واندمج في الزحام يعرض البضاعة، ومن الواضح أن الطلب كان عالياً مما حدا بالرفيق جمعة إلى أن يرفع السعر ويجعله 35 قرشاً للتذكرة، وبهذا فقد ارتفعت الأرباح لعنان السماء!... يا للوغد الناصح الذي يعرف من أين تؤكل الكتف... يبدو أن جمعة موهوب في البيزنس، إنه يفهم لغة السوق ويستجيب لنبضه بسهولة... كم أنا محظوظ بك يا جمعة... سينما وفلوس وعشاء... أحمدك يا رب.
لكن... يا إلهي!... ما هذا الذي يحدث؟... هل حقيقي ما أراه؟... إن عصبة من الشبيحة الشداد ينقضون على صديقي ويلكمونه ويركلونه ويسددون إليه الضربات في كل أنحاء جسمه... إن جمعة يجري فيلحقون به ويعرقلونه فيقع منكفئاً على وجهه وتنقض عليه الطغمة الباغية فتنتزع التذاكر من يده وتختطف الفلوس، وكبيرهم يزعق فيه بصوت جهوري ألا يأتي إلى هنا أبدا وإلا فالموت سيكون مصيره.
أبصرت جمعة يقوم من على الأرض يلملم ملابسه التي تمزقت ووجهه معفر بالتراب وقد تغيرت معالمه، وشاهدته وهو يتغلب على الألم ويطلق ساقيه للريح تاركاً ممر العقاب الرهيب!. من الواضح أن منفذي الاعتداء الغاشم بحق جمعة هم تجار السوق السوداء الذين فيما يبدو لا يسمحون للدخلاء بالتعدي على مناطق نفوذهم.
برغم الصدمة والترويع أخذت أقزقز اللب وأتظاهر بمطالعة الأفيش ثم مشيت متصنعاً الهدوء وابتعدت عن المكان خشية أن يدركوا أنني شريك جمعة في البضاعة!
أما فيلم «أميرة حبي أنا» فقد شاهدته بعد ستة أشهر عندما هبط من عليائه وعُرض في سينما ريالتو بالظاهر حيث التذكرة بثلاثة قروش ونصف!