أنا مثل مصطفى سعيد متأرجحة بين الشرق والغرب

حنان الشيخ  -  «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح
حنان الشيخ - «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح
TT

أنا مثل مصطفى سعيد متأرجحة بين الشرق والغرب

حنان الشيخ  -  «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح
حنان الشيخ - «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح

ما زلت أذكر حين كنت في العشرين من العمر، كيف أقبلت على قراءة رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، بكل جوارحي. كيف شدني الخيال الخصب لهذه الرواية، وكيف خاطب أسلوبها الجميل حواسي. فأنا لم أكن قد اعتدت من قبل مثل هذه الكتابة التي تتدفق حيوية وذكاء وسخرية. تتحدث عن شخصية مصطفى سعيد الأكاديمية حين ماج الحنين وعربد، فإذا بها تطفو من قاع النهر حيث طُمرت لسنوات طويلة، لتجد نفسها فجأة على سطح الماء وجها لوجه في مواجهة الشخصية الثانية التي حلت محلها، شخصية المزارع في قرية على ضفاف النيل في السودان، المتزوج من امرأة قروية أنجبت له اثنين من البنين، كأنه لم يكن أكاديميا عاش في لندن وحاضر في جامعاتها بعد أن أتم دراسة الاقتصاد في أكسفورد واشتهر بنبوغه، وألف ونشر الكتب، وقرأ الشعر الإنجليزي، وشاهد مسرحيات برناردشو، واستمع إلى بيتهوفن، وارتاد حانات همستد وتشيلسي وجمع النساء الإنجليزيات ليتحلقن حوله كأنهن مجرد حبيبات مسبحة له، فتسقط أكثر من حبة منهن في ظروف غامضة ومأساوية.
إنهما شخصيتان لإنسان واحد، تبحثان عن هوية واحدة في رحلتهما ما بين الشرق والغرب، ولكن الحضارتين الشرقية والغربية تصارعتا في داخله بحثا عن حقيقة صاحبهما أمام الحياة وشباكها، علما بأن جوهر الشخصيتين هو الإنسان ذاته. كل هذا بأسلوب أشبه بالمونولوغ، كأنه يصف حالة نفسية؛ لغة شعرية كالنثر، تتراوح بين العامية السودانية والعربية الفصحى، فإذا بي أقف أمام رواية نفاذة وشفافة في آن.
كأن الطيب صالح جمع كل تراث الروايات العربية من قبل وكومه حتى أصبح هرما وتركه خلفه، ليتقدم بكل صفاء يحسد عليه ويبتدئ ببناء هرم خاص به، شيده فوق أرضية من القرآن الكريم، والمتنبي... من الطفولة والخيال، ومن أحاديث الكبار حوله، وراح ينسج نسجا يتفرد به، فينقلني إلى القرية السودانية التي يصفها بجمل منسابة كالنيل، يسير حاملا معه أغصان الشجر الرقيقة وأعشاش العصافير، حاملا معه الحياة، لأجد نفسي أنا القارئة كذلك النهر؛ أنساب مع الكلمات بلا ملل ولا كلل، فينقلني إلى اللب، الجوهر، ولو بجملة واحدة على لسان إحدى شخصيات الرواية، وليدب الشوق بي - أنا الكاتبة ذات الرواية الواحدة آنذاك - إلى أشخاص من عائلتي ومحيطي، كنت قد أقصيتهم بعيدا عني بحجة أنهم ليسوا عصريين، ولا يماشون أفكاري، ولا يتلذذون الشعر الذي أقرأه، أو الأغاني التي أسمعها. وجدتني أعتذر منهم جميعا لأني كنت أخجل بهم، فأضمهم إلى صدري وأفكاري، وأدخلهم رواياتي وقصصي القصيرة، ثم لأذهب أبعد من ذلك، مؤكدة أن من حق الكاتب أن يكتب ما يشاء؛ أن يجهر بحقيقة مجتمعه من غير مواربة، ويتناول الحديث عن المحظورات بتلك الصراحة الجميلة، الجريئة ذات النزعة الإنسانية المتفتحة... وبتشجيع من شخصيات هذه الرواية، بخاصة بنت مجذوب التي كانت تجلس في مجلس الرجال بكل ثقة وتتحدث بشتى الموضوعات، وتحلف مثلهم بالطلاق، وتنفث سجائرها كما ينفثون.
أذكر عندما وصلت إلى نهاية الرواية، كيف وقفت خلف باب غرفتي خشية أن يراني أحد وأنا أضرب صدري وأهز رأسي بعنف غير مصدقة هول ما فعلتْه حسنة أرملة مصطفى سعيد بالرجل الذي زوّجت به غصباً عنها.
والآن، إذ أعود إلى هذه الرواية، فلأني متأرجحة بين الشرق والغرب كمصطفى سعيد، ضائعة في هويتين، في عالمين، بين الذي كونني، وبين الذي أعيش في كنفه، محاولة أن أتمثل به، والذي حتى إذا أبعدته عني؛ عاد والتصق بي كالدبق.



«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.