أديلارد الباثي... أوروبا الوسطوية تواجه الحداثة العربية

كانت الأرسطية تعني العرب والمسلمين بوصفهم مترجمي أرسطو والمعلقين عليه

لوحة تصور الحملة الصليبية
لوحة تصور الحملة الصليبية
TT

أديلارد الباثي... أوروبا الوسطوية تواجه الحداثة العربية

لوحة تصور الحملة الصليبية
لوحة تصور الحملة الصليبية

في القرن التاسع الميلادي، توطنت الثقافة العربية لغة وعلماً وفنوناً في إسبانيا إلى حد يشبه ما وصل إليه توطن الثقافة الغربية في مجتمعات العرب والمسلمين اليوم. تنقل المستشرقة الأميركية دوروثي ميتلتزكي في كتابها «المادة العربية في إنجلترا العصور الوسطى» عن المطران ألفارو، مطران قرطبة آنذاك، قوله متأسفاً على حالة الاغتراب التي وصل إليها الشبان المسيحيون في الأندلس بتعلمهم العربية بدلاً من لغاتهم الأم: «من الذي يستطيع بين المؤمنين عندنا أن يفهم النصوص المقدسة وكتب دكاترتنا الذين كتبوا باللاتينية؟... أليس كل شباننا المسيحيين... مهتمين بكل وضوح بتعليمهم الأجنبي ومتميزين في معرفتهم بالبلاغة العربية؟ إنهم يدرسون الكتب العربية، يقرأونها بعناية، ويناقشونها بحماسة... يا للأسف! المسيحيون جهلة بلغتهم، اللاتينيون ليسوا مهتمين باللسان الذي يخصهم».
ذلك الوضع استمر في الأندلس وامتد إلى أجزاء أخرى من أوروبا لمدة قرون، حتى إذا جاء القرن الثاني عشر وجدنا باحثين أوروبيين متخصصين بالدراسات العربية إلى جانب الدراسات اليونانية واللاتينية من أمثال قسطنطين الأفريقي وربروت الكيتوني. كما أن من أمثالهم العالم والباحث الإنجليزي أديلارد أوف باث نسبة إلى مدينته الإنجليزية باث. كان أديلارد رائداً لما عرف في العصور الوسطى بالدراسات العربية التي عرفت آنذاك باسمها اللاتيني «Arabum studia» إلى جانب كونه مترجماً للموروث اليوناني الذي عرفته أوروبا في ترجماته العربية والعبرية. ترجم أديلارد كتاب إقليدس «العناصر» في الرياضيات، وهو ممن ينسب لهم تعريف أوروبا بالأرقام الهندية - العربية الشائعة اليوم.
عاش أديلارد في القرن الثاني عشر، وكان ضمن عدد من الشبان الإنجليز والأوروبيين الذين ذهبوا إلى الأندلس العربية الإسلامية وتعلموا العربية على النحو الذي سبق أن أقلق رجال الدين من أمثال المطران ألفارو. ولا شك أن ذلك التعلم وما صاحبه من نشاط علمي بقدر ما خلق جسوراً للمعرفة والفنون فقد أحدث إلى جانبه توترات ومواجهات تنجم عن رفض الثقافات المتلقية تقبل كل ما كان يأتيها من ثقافة الآخر، لا سيما ما خالف المستقر لدى تلك الثقافات من معتقدات ومعارف وعادات، إلى غير ذلك. إلى جانب أديلارد كان هناك روبرت أوف كيتون، أو روبرت الكيتوني، صاحب أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللاتينية، وبيتروس أو بطرس ألفونسي الذي جمع ودوّن باللاتينية (ويقال بالعربية أولاً) أول مجموعة من الحكايات العربية/ الشرقية تحت عنوان «الديسيبلينا كليريكاليس» التي تترجم أحياناً إلى «تعاليم كهنوتية».
كانت مواجهة أديلارد ممثَّلة إلى حد بعيد لغيرها من المواجهات، سواء في ذلك العصر أو ما تلاه. كانت العلوم العربية مطلوبة في أوروبا التي تبحث عن النهوض حتى في مظان غير مرغوبة بسبب العداء الديني. فقد بدأت الحروب الصليبية حين كان أديلارد يافعاً. بدأت أولاها عام 1095م وهو في الخامسة عشرة، ويمكننا أن نتخيل شاباً يذهب أثناء تلك الحروب إلى بلاد الأعداء ليتعلم. لكن أهمية العلوم العربية كانت تفرض نفسها على الرغم من ذلك. فقد نهضت تلك الأهمية في جانب منها على الأقل على حملها الموروث اليوناني ورغبة الأوروبيين في التعرف على ذلك الموروث من خلال مصادره العربية (والعبرية أيضاً). لكن جانباً آخر كان يأتي من جدة بعض تلك العلوم والمعارف، وهذه الجدة كانت مصدراً لمواجهة مختلفة.
في كتابه الرئيس «مسائل طبيعية» (Quaestiones Naturales)، (نحو 1120م)، وضع أديلارد نفسه مدافعاً عن فلسفة أرسطو وموروثه في مواجهة المعرفة المقبلة من فرنسا (المعرفة الغاليّة/ الفرنسية Gallic أي بلاد الغال). وكانت الأرسطية تعني العرب والمسلمين بوصفهم مترجمي أرسطو والمعلقين عليه. وكان ذلك يعني أيضاً، حسب دوروثي ميتلتزكي، الدفاع عن المنهج التجريبي في المعرفة بدلاً من السلطة المتوارثة والمتعارف عليها، أي الدفاع عن المحدثين في مقابل القدماء. والمحدثون هنا هم العرب المسلمون الذين وضعهم كتاب أديلارد إلى جانب المصادر القديمة المعترف بها؛ وهم الثلاثي: أفلاطون، وبويثيوس وما كروبيوس. يقول أديلارد في التعريف بمؤلَّفه:
عندما عدت إلى إنجلترا منذ مدة ليست بالبعيدة، عندما كان هنري، ابن وليم، يحكم الإنجليز، بعد أن غبت عن وطني بغية الدراسة لمدة طويلة، جاء اجتماع بعض الأصدقاء ممتعاً ومحبباً بالنسبة لي... بين أولئك الذين جاءوا كان ابن أخ لي، شخص مشغول بأسباب الأشياء أكثر من قدرته على تفسيرها، وطلب مني أن أوضح شيئاً جديداً يتصل بدراساتي العربية. شرعت بكتابة بحث أعرف فعلاً أنه مفيد لقرائه، لكني لا أعرف أنه سيبهجهم. ذلك أن هذا الجيل فيه عيب متوطن: إنه لا يرى شيئاً مما يكتشفه المحدثون جديراً بالقبول. لذلك فحين أرى ضرورياً أن أعلن اكتشافاً، علي أن أنسبه إلى أحد غريب بأن أقول «شخص ما قاله وليس أنا». وهكذا، لكي يسمعني أحد فلا بد لسيد أن يكون اخترع كل أفكاري، وليس أنا.
هذه مواجهة جديرة بالاهتمام. إنها مواجهة مع الثقافة المحلية في مقابل الوافد، مع القديم والمألوف في مقابل الجديد والغريب. لكن الأمر يتجاوز ذلك بالطبع إلى السياقات الدينية والسياسية، مع أن إنجلترا لم تكن معنية في ذلك الوقت بالحروب الصليبية قدر ما كانت مناطق من أوروبا أقرب إلى فلسطين. كان نزالاً يحدث بين العالمين الإسلامي والمسيحي ككل سواء في شبه الجزيرة الآيبيرية أو في تخوم أوروبا الشرقية والجنوبية، وفي كل الحالات، كان المسلمون هم الضد. ولربما كانت تسمية الحقل البحثي والمعرفي الذي كان يشغل أناساً مثل أديلارد «الدراسات العربية» بدلاً من «الدراسات الإسلامية» مؤشراً على السعي لتفادي المواجهة مع المختلف الديني وإبقاء العلم في إطار الاختلاف الإثني الأقل خطراً. لذا كانت مهمة أناس مثل أديلارد شاقة، لأنهم رسل معرفة، حين كان مصدر المعرفة هو العدو (أي كما هو الحال اليوم من وجهة نظر التشدد الديني والاجتماعي). على أن تلك المشقة لم تكن فيما يبدو مماثلة لما واجهه أوروبيون سعوا إلى تقديم فكر متطرف في نظر أوروبا المتدينة مثل فكر ابن رشد، كما حدث مع الجماعة المعروفة بالرشديين نسبة إلى الفيلسوف العربي المسلم، وهم جماعة يحسن الحديث عنهم حديثاً مستقلاً.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!