عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين

موجة جديدة من التطرف في منطقة غير آمنة تشهد اضطرابات

عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين
TT

عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين

عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين

أسهمت عدة عوامل متداخلة في عودة تنظيم القاعدة في الساحل والصحراء للضوء من جديد، وهذه المرة باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». وتأتي هذه العودة ضد مجريات التاريخ الانشطاري للحركات الإرهابية التي عرفت انقسامات حادة منذ 2002. كما تأتي هذه العودة بعد التراجع الجغرافي لدولة البغدادي في العراق وسوريا. فقد استطاع الزعيم التاريخي الطارقي إياد أغ غالي قبل أسابيع قليلة بداية الشهر الماضي، توحيد 4 فصائل إرهابية قدمت بيعتها لتنظيم القاعدة بقيادة الظواهري. ويبدو أن هذا الاندماج بين كلٍّ من «جماعة أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطين»، سيشكل بداية لموجة جديدة من الفعل الإرهابي في منطقة غير آمنة، وتشهد اضطرابات سياسية وتناحرات عرقية وإثنية؛ وتشير أول عملية للتنظيم لما يمكن أن يحدث في المستقبل، حيث نفذ التنظيم الإرهابي الوليد أول عملية له بعد ثلاثة أيام من ولادته بهجوم على موقع عسكري في مالي قرب الحدود مع بوركينا فاسو بداية الشهر الماضي، وأدى إلى مقتل 11 جندياً من مالي والاستيلاء على بعض العتاد العسكري المهم.
ضمن هذا المسار الجديد، يمكن الحديث عن تطور في وعي التنظيم الجديد؛ ذلك أن اختيار إياد أغ غالي، زعيم «جماعة أنصار الدين»، قائداً للتنظيم الجديد يدخل لأول مرة عامل الرمزية التاريخية و«جانب التحرر» ليدمج في فكري ديني قتالي. فإياد أغ غالي وهو يخوض «حربه المقدسة» اليوم عمد في خطاب إعلان الولادة، إلى الاستحضار المكثف لمطلب الطوارق في الاستقلال والتحرر؛ واعتبر نجاحه في توحيد الجماعات الإرهابية، بداية لمرحلة جديدة من معركة شعب الطوارق والعرب المتضررين من الأنظمة السياسية المحلية والدول الأجنبية التي جاءت بجيوشها للمنطقة. من جهة أخرى لم تخل كلمة زعيم التنظيم الجديد «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، من الإعلان عن الاختيار العقدي والمذهبي الذي لخصه في رؤية تنظيم القاعدة بقيادة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وأمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وأمير حركة طالبان الملا هيبة الله.
* رجل يظهر وقت الحرب
يعتبر إياد غالي المولود سنة 1954 بمدينة كدال بمالي واحداً من أبرز القادة التاريخيين للطوارق المنتمين لقبيلة إيفوغاس ذات الثقل الاجتماعي والسياسي. كان الزعيم وهو طفل شاهداً على الصراع السياسي الذي خاضه الرئيس السابق موديبو مع المشيخات القبلية، وهو صراع انتهى بتنحية قبيلة إياد غالي من السلطة. ونظراً لما كانت تلعبه قبيلته سياسيا وعسكريا من دور مهم شمال مالي وخاصة بمنطقة كيدال، فقد كان غالي منذ تسعينات القرن العشرين واحداً من الشباب الذين انخرطوا في العمل العسكري ضد السلطة المركزية بمالي، خاصة بعد التهميش الذي لحق بالطوارق من دولتي النيجر ومالي في ثمانينات القرن الماضي. في هذه الفترة استغل معمر القذافي الوضع الأمني المضطرب في الساحل والصحراء، فكوّن مجموعات طوارقية مسلحة تابعة له، وكان إياد أغ غالي ضمن المجموعة التي أرسلها القذافي للقتال في لبنان ضد القوات الصهيونية إلى جانب نائبه في قيادة التنظيم الوليد سنة 2017 «الشيخ أوسا» بداية ثمانينات القرن الماضي في جنوب لبنان. بعد عودته كان إياد غالي من أبرز قادة «الجبهة الشعبية لتحرير أزواد»، المطالبة بالاستقلال عن مالي، في مرحلة تسعينات القرن الماضي. غير أن التمرد انتهى بوساطة جزائرية سنة 1992؛ وعاد من جديد إياد أغ غالي للعب دور مركزي في إخضاع حركات رافضة للاتفاق، مما أكسبه مزيدا من الشعبية.
صقلت تجربة غالي الشخصية، واكتسب خبرة حربية في مشاركته إلى جانب الجيش الليبي في الحرب الليبية التشادية، وهو ما طبع حياته بالطابع العسكري، سواء في الفترة التي كان يتبنى فيها بعض الأطروحات القومية، أو الفترة التي تبنى فيها الفكر «الجهادي العالمي».
ظل غالي قيادة من رموز الطوارق الذي يتوارى وقت الاستقرار ويعود للسطح بقوة في وقت الأزمة والصراع العسكري؛ وهذا ما يجعل من الرجل واحداً من مفاتيح ومشعلي الأزمة في شمال مالي خاصة. ولعل خلفيته وإرثه في التمرد على الدولة، وفي الوقت نفسه قدرته على لعب دور الوسيط السياسي بين القبائل والسلطة المركزية تجعل منه شخصية غير عادية. يظهر ذلك في الدور المركزي الذي لعبه الرجل في تهدئة واستتباب الأمن بشمال مالي بعد اتفاق 1992 بين الطوارق والدولة المالية.
فقد عمل إياد غالي، بالإضافة لمجموعة من القيادات المنتمية لقبيلة إيفوغاس والمتزعمين للحركة الأزوادية المطالبة بالاستقلال عن مالي، على الاستفادة من اتفاقية السلام بخلق وضع جديد على المستوى الاقتصادي؛ حيث استفاد الرجل وزعماء قبليون آخرون من النشاط التجاري الذي يمر عبر أراضٍ لا تخضع للسيطرة التامة للسلطة الموريتانية والمالية والنيجرية. غير أن وصول «القاعدة» للقارة الأفريقية وضربته القوية سنة 1998 بمدينتي نيروبي بكينيا ودار السلام بتنزانيا، عجلت من انتعاش الفكر المتطرف على مستوى دول الساحل والصحراء، كما خلقت وضعاً معقداً جديداً يتمثل في التداخل بين التيارات الإرهابية ومنظمات المافيا العالمية المتاجرة في تهريب المخدرات والبشر والأسلحة.
* الوسيط التاجر
وفي خضم هذا التطور النوعي ظهر مرة أخرى غالي «أسد الصحراء» كما تلقبه قبيلته، ليلعب دورا بارزا في الوساطة بين المجموعات الإرهابية وبعض الدول مثل فرنسا وألمانيا؛ حيث أثمرت تدخلاته بداية من عام 2000، بالإفراج عن رهائن غربيين، كانت تنظيمات تابعة لـ«القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي» قد اختطفتهم بالمنطقة. وعاد الرجل من جديد للعب دور الوساطة، حيث ساعد سنة 2003 في إطلاق 14 رهينة أوروبية أغلبهم من الألمان، اختطفتهم «القاعدة» بجنوب الجزائر. وهنا أدرك الرجل بحكم خبرته في الصحراء وخلفيته العسكرية، وثقله القبلي، أن التيارات الإرهابية أصبحت عنصرا فاعلا على مستوى دول الساحل والصحراء، وأن فكرها المتطرف وصل لشباب الطوارق، والقبائل العربية المدافعة عن المناطق الأزوادية.
في سنة 2006 شهدت منطقة شمال مالي تمردا جديدا للطوارق، انتهى باتفاق جديد بين المتمردين والسلطة ببماكو، ولضمان الأمن والاستقرار بالمنطقة وافق الرئيس المالي على تشكيل مجموعة عسكرية نظامية مشتركة من العرب والطوارق ترأسها محمد آغ غامو، من قبيلة إيفوغاس. في هذه المرحلة سيشهد نشاط التيارات الإرهابية تزايدا محموماً، مستغلاً بذلك ضعف سيطرة الدول المجاورة لمالي على حدودها، وكذلك قدرة «القاعدة في الغرب الإسلامي» على كسب الأنصار في مختلف القبائل الممتدة من جنوب الجزائر إلى مالي والنيجر وتشاد.
كما أن الولايات المتحدة الأميركية تنبهت للوضع وقدمت للسلطات بمالي مساعدات عسكرية، وأرسلت فرقة خاصة سنة 2007 بهدف محاصرة تحركات «تنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، التي دخلت في علاقة مناصرة مع «القاعدة».
غير أن غالي على ما يبدو لم يتحول لزعيم ديني، لسبب رئيسي وهو علاقته القديمة بمعمر القذافي، ودور غالي في منظومة التهريب التي رعاها الرئيس الليبي السابق، للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الدولية لما بعد لوكيربي، والتي ظلت صامدة لليوم، رغم تحول الفاعلين فيها.
ويكفي أن نشير على سبيل المثال إلى أن تهريب السجائر إلى أسواق شمال أفريقيا عبر مناطق الأزواد تطور منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، وسيطر عليه تجار كبار عبر موريتانيا - عبر بنين والتوغو - وعبر النيجر وبوركينا فاسو، إلى ليبيا والجزائر والمغرب. وتشير الأمم المتحدة في عام 2009 إلى أن نحو 60 في المائة من سوق التبغ الليبية تأتي عبر سوق التهريب هذه، والذي تستفيد منه القبائل والزعامات القبلية.
في ظل هذه التطورات استطاع «أسد الصحراء» أن يستغل سيطرة قبيلته على كيدال وعدة مناطق؛ خاصة بعد رحيل الشيخ أغ باهانغا ومقتل القائد بركة شيخ، في 11 أبريل (نيسان) 2008 قرب مدينة كيدال. ومن تلك الفترة تعتبر الحركات الأزوادية، إياد أغ غالي زعيم «نصرة الإسلام والمسلمين»، أقدم وأبرز زعيم للمتمردين الطوارق.
بعد هذه الأحداث بدأ إياد أغ غالي يظهر توجهه الديني الذي كان يحسب على تنظيم «الدعوة والتبليغ»؛ غير أنه سرعان ما تبين أن الزعيم الطوارقي متأثر بأفكار «القاعدة»، وأنه يمنحها طابعا محليا يراعي ما هو قبلي وإثني. وظهر هذا جليا بعد سقوط القذافي، وبالضبط في سنة 2011. حيث أسس غالي «جماعة أنصار الدين»، التي كانت تهدف إلى بعث الحالة الدينية الإسلامية للشعب الأزوادي، وتطبيق الشريعة وإقامة حكم إسلامي في شمال مالي خاصة. وضمت المقاتلين الطوارق القادمين من ليبيا، والمنشقين عن الجيش المالي، كما استفادت الجماعة من تدفق أنواع مختلفة من الأسلحة المنهوبة من الخزائن بعد انهزام القذافي وأنصاره.
تحول الوضع بمالي بشكل سريع وتدخلت فرنسا ومجموعة من الدول لمحاصرة الوضع المتدهور وسيطرة الحركات التابعة لـ«القاعدة» على مالي؛ غير أن هذا التدخل الفرنسي (عملية سرفال) الذي يشرف عليه أكثر من 4000 جندي فرنسي، بالإضافة لقوات ألمانية وبريطانية؛ وإضافة للولايات المتحدة في فبراير (شباط) 2013، وإضافة اسم غالي إلى قائمة الإرهاب لم يحل دون رجوع إياد أغ غالي للساحة من جديد وهذه المرة باعتباره رمزاً تاريخياً وموحداً لتيارات إرهابية كانت إلى حدود شهرين متنازعة وتخترقها خلافات فقهية وإثنية وعرقية.
ويمكن القول إن التحول الجديد في مسار التنظيمات الإرهابية وقدرتها على الاندماج، يشكل مرحلة جديدة من مراحل المواجهة المفتوحة بين الإرهاب ودول الساحل والصحراء والقوى الغربية المعنية بالمنطقة. ويبدو أن هذه المرحلة ستعرف مراجعات من قبل عدة تنظيمات بما يراعي قدرتها على الصمود وإعادة الانتشار، ولعل ميلاد تنظيم «نصرة الإسلام والمسلمين»، هو تعبير عن قدرة مهمة لهذه التنظيمات على التكيف مع ظروف المواجهة وسياقاتها، في وضع إثني وعرقي شديد الحساسية، مزقته تاريخيا الصراعات المسلحة، ولا يجمعه إلا الدين.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس (الرباط)



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.