عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين

موجة جديدة من التطرف في منطقة غير آمنة تشهد اضطرابات

عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين
TT

عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين

عودة الإرهاب للساحل والصحراء الأفريقيين

أسهمت عدة عوامل متداخلة في عودة تنظيم القاعدة في الساحل والصحراء للضوء من جديد، وهذه المرة باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». وتأتي هذه العودة ضد مجريات التاريخ الانشطاري للحركات الإرهابية التي عرفت انقسامات حادة منذ 2002. كما تأتي هذه العودة بعد التراجع الجغرافي لدولة البغدادي في العراق وسوريا. فقد استطاع الزعيم التاريخي الطارقي إياد أغ غالي قبل أسابيع قليلة بداية الشهر الماضي، توحيد 4 فصائل إرهابية قدمت بيعتها لتنظيم القاعدة بقيادة الظواهري. ويبدو أن هذا الاندماج بين كلٍّ من «جماعة أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطين»، سيشكل بداية لموجة جديدة من الفعل الإرهابي في منطقة غير آمنة، وتشهد اضطرابات سياسية وتناحرات عرقية وإثنية؛ وتشير أول عملية للتنظيم لما يمكن أن يحدث في المستقبل، حيث نفذ التنظيم الإرهابي الوليد أول عملية له بعد ثلاثة أيام من ولادته بهجوم على موقع عسكري في مالي قرب الحدود مع بوركينا فاسو بداية الشهر الماضي، وأدى إلى مقتل 11 جندياً من مالي والاستيلاء على بعض العتاد العسكري المهم.
ضمن هذا المسار الجديد، يمكن الحديث عن تطور في وعي التنظيم الجديد؛ ذلك أن اختيار إياد أغ غالي، زعيم «جماعة أنصار الدين»، قائداً للتنظيم الجديد يدخل لأول مرة عامل الرمزية التاريخية و«جانب التحرر» ليدمج في فكري ديني قتالي. فإياد أغ غالي وهو يخوض «حربه المقدسة» اليوم عمد في خطاب إعلان الولادة، إلى الاستحضار المكثف لمطلب الطوارق في الاستقلال والتحرر؛ واعتبر نجاحه في توحيد الجماعات الإرهابية، بداية لمرحلة جديدة من معركة شعب الطوارق والعرب المتضررين من الأنظمة السياسية المحلية والدول الأجنبية التي جاءت بجيوشها للمنطقة. من جهة أخرى لم تخل كلمة زعيم التنظيم الجديد «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، من الإعلان عن الاختيار العقدي والمذهبي الذي لخصه في رؤية تنظيم القاعدة بقيادة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وأمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وأمير حركة طالبان الملا هيبة الله.
* رجل يظهر وقت الحرب
يعتبر إياد غالي المولود سنة 1954 بمدينة كدال بمالي واحداً من أبرز القادة التاريخيين للطوارق المنتمين لقبيلة إيفوغاس ذات الثقل الاجتماعي والسياسي. كان الزعيم وهو طفل شاهداً على الصراع السياسي الذي خاضه الرئيس السابق موديبو مع المشيخات القبلية، وهو صراع انتهى بتنحية قبيلة إياد غالي من السلطة. ونظراً لما كانت تلعبه قبيلته سياسيا وعسكريا من دور مهم شمال مالي وخاصة بمنطقة كيدال، فقد كان غالي منذ تسعينات القرن العشرين واحداً من الشباب الذين انخرطوا في العمل العسكري ضد السلطة المركزية بمالي، خاصة بعد التهميش الذي لحق بالطوارق من دولتي النيجر ومالي في ثمانينات القرن الماضي. في هذه الفترة استغل معمر القذافي الوضع الأمني المضطرب في الساحل والصحراء، فكوّن مجموعات طوارقية مسلحة تابعة له، وكان إياد أغ غالي ضمن المجموعة التي أرسلها القذافي للقتال في لبنان ضد القوات الصهيونية إلى جانب نائبه في قيادة التنظيم الوليد سنة 2017 «الشيخ أوسا» بداية ثمانينات القرن الماضي في جنوب لبنان. بعد عودته كان إياد غالي من أبرز قادة «الجبهة الشعبية لتحرير أزواد»، المطالبة بالاستقلال عن مالي، في مرحلة تسعينات القرن الماضي. غير أن التمرد انتهى بوساطة جزائرية سنة 1992؛ وعاد من جديد إياد أغ غالي للعب دور مركزي في إخضاع حركات رافضة للاتفاق، مما أكسبه مزيدا من الشعبية.
صقلت تجربة غالي الشخصية، واكتسب خبرة حربية في مشاركته إلى جانب الجيش الليبي في الحرب الليبية التشادية، وهو ما طبع حياته بالطابع العسكري، سواء في الفترة التي كان يتبنى فيها بعض الأطروحات القومية، أو الفترة التي تبنى فيها الفكر «الجهادي العالمي».
ظل غالي قيادة من رموز الطوارق الذي يتوارى وقت الاستقرار ويعود للسطح بقوة في وقت الأزمة والصراع العسكري؛ وهذا ما يجعل من الرجل واحداً من مفاتيح ومشعلي الأزمة في شمال مالي خاصة. ولعل خلفيته وإرثه في التمرد على الدولة، وفي الوقت نفسه قدرته على لعب دور الوسيط السياسي بين القبائل والسلطة المركزية تجعل منه شخصية غير عادية. يظهر ذلك في الدور المركزي الذي لعبه الرجل في تهدئة واستتباب الأمن بشمال مالي بعد اتفاق 1992 بين الطوارق والدولة المالية.
فقد عمل إياد غالي، بالإضافة لمجموعة من القيادات المنتمية لقبيلة إيفوغاس والمتزعمين للحركة الأزوادية المطالبة بالاستقلال عن مالي، على الاستفادة من اتفاقية السلام بخلق وضع جديد على المستوى الاقتصادي؛ حيث استفاد الرجل وزعماء قبليون آخرون من النشاط التجاري الذي يمر عبر أراضٍ لا تخضع للسيطرة التامة للسلطة الموريتانية والمالية والنيجرية. غير أن وصول «القاعدة» للقارة الأفريقية وضربته القوية سنة 1998 بمدينتي نيروبي بكينيا ودار السلام بتنزانيا، عجلت من انتعاش الفكر المتطرف على مستوى دول الساحل والصحراء، كما خلقت وضعاً معقداً جديداً يتمثل في التداخل بين التيارات الإرهابية ومنظمات المافيا العالمية المتاجرة في تهريب المخدرات والبشر والأسلحة.
* الوسيط التاجر
وفي خضم هذا التطور النوعي ظهر مرة أخرى غالي «أسد الصحراء» كما تلقبه قبيلته، ليلعب دورا بارزا في الوساطة بين المجموعات الإرهابية وبعض الدول مثل فرنسا وألمانيا؛ حيث أثمرت تدخلاته بداية من عام 2000، بالإفراج عن رهائن غربيين، كانت تنظيمات تابعة لـ«القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي» قد اختطفتهم بالمنطقة. وعاد الرجل من جديد للعب دور الوساطة، حيث ساعد سنة 2003 في إطلاق 14 رهينة أوروبية أغلبهم من الألمان، اختطفتهم «القاعدة» بجنوب الجزائر. وهنا أدرك الرجل بحكم خبرته في الصحراء وخلفيته العسكرية، وثقله القبلي، أن التيارات الإرهابية أصبحت عنصرا فاعلا على مستوى دول الساحل والصحراء، وأن فكرها المتطرف وصل لشباب الطوارق، والقبائل العربية المدافعة عن المناطق الأزوادية.
في سنة 2006 شهدت منطقة شمال مالي تمردا جديدا للطوارق، انتهى باتفاق جديد بين المتمردين والسلطة ببماكو، ولضمان الأمن والاستقرار بالمنطقة وافق الرئيس المالي على تشكيل مجموعة عسكرية نظامية مشتركة من العرب والطوارق ترأسها محمد آغ غامو، من قبيلة إيفوغاس. في هذه المرحلة سيشهد نشاط التيارات الإرهابية تزايدا محموماً، مستغلاً بذلك ضعف سيطرة الدول المجاورة لمالي على حدودها، وكذلك قدرة «القاعدة في الغرب الإسلامي» على كسب الأنصار في مختلف القبائل الممتدة من جنوب الجزائر إلى مالي والنيجر وتشاد.
كما أن الولايات المتحدة الأميركية تنبهت للوضع وقدمت للسلطات بمالي مساعدات عسكرية، وأرسلت فرقة خاصة سنة 2007 بهدف محاصرة تحركات «تنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، التي دخلت في علاقة مناصرة مع «القاعدة».
غير أن غالي على ما يبدو لم يتحول لزعيم ديني، لسبب رئيسي وهو علاقته القديمة بمعمر القذافي، ودور غالي في منظومة التهريب التي رعاها الرئيس الليبي السابق، للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الدولية لما بعد لوكيربي، والتي ظلت صامدة لليوم، رغم تحول الفاعلين فيها.
ويكفي أن نشير على سبيل المثال إلى أن تهريب السجائر إلى أسواق شمال أفريقيا عبر مناطق الأزواد تطور منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، وسيطر عليه تجار كبار عبر موريتانيا - عبر بنين والتوغو - وعبر النيجر وبوركينا فاسو، إلى ليبيا والجزائر والمغرب. وتشير الأمم المتحدة في عام 2009 إلى أن نحو 60 في المائة من سوق التبغ الليبية تأتي عبر سوق التهريب هذه، والذي تستفيد منه القبائل والزعامات القبلية.
في ظل هذه التطورات استطاع «أسد الصحراء» أن يستغل سيطرة قبيلته على كيدال وعدة مناطق؛ خاصة بعد رحيل الشيخ أغ باهانغا ومقتل القائد بركة شيخ، في 11 أبريل (نيسان) 2008 قرب مدينة كيدال. ومن تلك الفترة تعتبر الحركات الأزوادية، إياد أغ غالي زعيم «نصرة الإسلام والمسلمين»، أقدم وأبرز زعيم للمتمردين الطوارق.
بعد هذه الأحداث بدأ إياد أغ غالي يظهر توجهه الديني الذي كان يحسب على تنظيم «الدعوة والتبليغ»؛ غير أنه سرعان ما تبين أن الزعيم الطوارقي متأثر بأفكار «القاعدة»، وأنه يمنحها طابعا محليا يراعي ما هو قبلي وإثني. وظهر هذا جليا بعد سقوط القذافي، وبالضبط في سنة 2011. حيث أسس غالي «جماعة أنصار الدين»، التي كانت تهدف إلى بعث الحالة الدينية الإسلامية للشعب الأزوادي، وتطبيق الشريعة وإقامة حكم إسلامي في شمال مالي خاصة. وضمت المقاتلين الطوارق القادمين من ليبيا، والمنشقين عن الجيش المالي، كما استفادت الجماعة من تدفق أنواع مختلفة من الأسلحة المنهوبة من الخزائن بعد انهزام القذافي وأنصاره.
تحول الوضع بمالي بشكل سريع وتدخلت فرنسا ومجموعة من الدول لمحاصرة الوضع المتدهور وسيطرة الحركات التابعة لـ«القاعدة» على مالي؛ غير أن هذا التدخل الفرنسي (عملية سرفال) الذي يشرف عليه أكثر من 4000 جندي فرنسي، بالإضافة لقوات ألمانية وبريطانية؛ وإضافة للولايات المتحدة في فبراير (شباط) 2013، وإضافة اسم غالي إلى قائمة الإرهاب لم يحل دون رجوع إياد أغ غالي للساحة من جديد وهذه المرة باعتباره رمزاً تاريخياً وموحداً لتيارات إرهابية كانت إلى حدود شهرين متنازعة وتخترقها خلافات فقهية وإثنية وعرقية.
ويمكن القول إن التحول الجديد في مسار التنظيمات الإرهابية وقدرتها على الاندماج، يشكل مرحلة جديدة من مراحل المواجهة المفتوحة بين الإرهاب ودول الساحل والصحراء والقوى الغربية المعنية بالمنطقة. ويبدو أن هذه المرحلة ستعرف مراجعات من قبل عدة تنظيمات بما يراعي قدرتها على الصمود وإعادة الانتشار، ولعل ميلاد تنظيم «نصرة الإسلام والمسلمين»، هو تعبير عن قدرة مهمة لهذه التنظيمات على التكيف مع ظروف المواجهة وسياقاتها، في وضع إثني وعرقي شديد الحساسية، مزقته تاريخيا الصراعات المسلحة، ولا يجمعه إلا الدين.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس (الرباط)



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.