ما هي الروح؟ سؤال مربك، محير، غامض. تباينت آراء الفلاسفة والمفكرين حولها، واختلفت من فكر إلى فكر، ومن رأي إلى رأي. وظلت الروح لغزا يقبل التأويل والتعليل. لكن الأديان جميعا تؤكد وجودها، فهي حقيقة لا ريب فيها، منفصلة عن الكون المادي للجسد الفاني، وهي أبدية لا تفنى مع الموت، وإنما تصطحب الجسد خلال إقامته الأرضية، ثم ترحل إلى أمكنة مختلفة باختلاف المعتقدات... رينيه ديكارت يعرف الروح بأنها: «ذات طبيعة لا تمت بصلة للأبعاد والأحجام، أو طبيعة الخصائص المادية التي يتكون منها الجسم». أما «اللامعتقدون» - وهنا لا أعني صفة الملحد - فيرون أن الروح ليست سوى الجسد الحي، ما دام هو حيا لا تنفصل عنه، وتنتهي بنهايته. وهناك من يخلط بين الروح والنفس، فهما ماهيتان لا علاقة لأحدهما بالآخر. فنحن نقول: «نفس خيرة» و«نفس شريرة» كما يقول أمير الشعراء: «والنفس من شرها في مرتع وخم»، أما الروح فهي مجردة عن الأوصاف. يقول باسكال في شرح مفصل في الفارق بينهما: «لو أن رجلا اتكأ على نافذة يشاهد المارة، ومررت أنا تحت نافذته هل يمكنني القول إنه جلس إلى النافذة ليشاهدني، العاشق هل يعشق لجمال المعشوق؟ وماذا عن هذا العشق بزوال الجمال المؤكد بعد حين؟ فهل نعشق في الشخص روحه إذن؟ وكيف لنا أن نعشق شيئا مبهما، ففي الواقع إن عشقنا لشخص ما هو عشقنا لمزاياه، لجماله، لذكائه، للطافته، لكرمه، لفكاهته... وماذا عن الذي يؤمن بالتناسخ، فهل يمكن لمجموعة من الأجساد أن تشترك في روح واحدة مع اختلاف خصالها من شريرة إلى خيرة؟».
إنه جدل لا ينتهي ما دام أن أحدا لم يأت بدليل قاطع. الشاعر، والكاتب، والأكاديمي، والخطاط فرنسوا شينغ François Cheng، الصيني الأصل خصص آخر كتاب له لهذه المسألة تحت عنوان: «عن الروح»، الذي يجمع فيه بين حكمة الشرق وعقلانية الغرب. فقد ولد في الصين، وعاش الحرب الصينية - اليابانية، وشهد مجازر ناتكين الرهيبة عندما قام اليابانيون بقتل عشرات الآلاف من الصينيين. اكتشف الشعر والأدب في سن الخامسة عشرة، ثم هاجر إلى فرنسا في الخمسينات، وهناك شغف، بالاطلاع على الكتاب والفلاسفة الغربيين رغم تأثره بلاو تسو، لكنه تعمق في دراسة باسكال وديكارت، كرس أعماله للبحث عن اللامنظور، والكينونة فوق الوجود المادي، متأثرا بأفكار كانت. يتتبع في كتابه دروب آلام الإنسان، وسعادته، ومواساته من همومه، يبحث في تقارب القارات، والشعوب دون الوقوع في مطب الآيديولوجيات. يقول: «هناك من يبحث في قعر روح الإنسان كدانتي، وشكسبير، وهوغو، ودوستويفسكي، وكثيرين آخرين، خصوصا هؤلاء الذين دفعوا كالمسيح حياتهم ثمنا لقناعاتهم، هكذا فقط يمكن لنور الروح أن تنبعث فعليا».
كتاب «عن الروح» يتوجه فيه شينغ إلى امرأة غير معروفة بسبع رسائل تعبر عن فكره في عملية مسحية للإرث الإنساني لكل النظريات التي ابتدعها المفكرون حول الروح بشفافية ورشاقة منقطعتي النظير. ينتقد شينغ الحتميات المادية التي سادت في القرن الماضي، والحالي، ويرسم كونا متصالحا مع اللامنظور. يقول: «من كوكب الأرض يتصاعد ترنيم يذكر بأن كل روح تحمل في تلافيفها تهويدة منذ الطفولة، ماهية تسبق الجسد، وتبقى حية من بعده... الروح هي العلامة الأكيدة الفردية للإنسان، تميزه عن الآخر، وتفسح المجال لمعرفة القيمة الداخلية لكل ابن أنثى، حتى الأكثر بساطة، واللاقيمة له، في اللحظة التي نتخطى فيها جمالية المادي، نتلمس جمالية الروح، نتوغل في مساحات الطيبة، والعطاء الذي لا ينضب». فكر شينغ وأسلوبه أشبه برفيف فراشة، كضباب صباحي في لوحة صينية، يدفع كل معتقد بالروح إلى التفكير مجددا بالمسألة، وكل من يقرأ هذا الكتاب لن يكون كما كان قبل قراءته. هذا الكاتب الفريد من نوعه الذي دخل الأكاديمية الفرنسية إكراما لأعماله الأربعين يعتبر الأكبر سنا، والأكثر عطاء، والأعمق فكرا.
شينغ يبدأ كتابه بتذكر لقاء في شبابه بفتاة في قطار الأنفاق، وبعيدا عن الانبهار بجمالها، ورقتها، تساءل في أعماقه عن سر النور المنبعث من نظراتها، ويكتشف أن وراء هذا الغلاف الجسدي روحا تربط هذا الجمال الجسدي بجمال أكبر، وأعمق، وأكثر دواما. يقول إن «الطيبة عنصر ضامن لنوعية الجمال، والجمال يجعل الطيبة أكثر جاذبية» وكتلميذ لبروست في الرؤى والإلهام يلغي شينغ حدود تصوراتنا، يخرجنا من وراء قضبان السياسية والاقتصاد وهموم المادة، والسباق المحموم وراء الشهرة، والغنى إلى عالم الطيبة، والمحبة، والتقارب، وعالم الروح الأبدي الذي لا يحده حدود، فهو دائم لا يزول.
الصيني فرنسوا شينغ يبحث عن الروح
مسح لكل النظريات التي ابتدعها المفكرون
الصيني فرنسوا شينغ يبحث عن الروح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة