محمد شكري وغراهام غرين... سيرتان تتقاطعان وتفترقان

دراسة مقارنة للسير الذاتية العربية والغربية في «الذات بين الحجاب والسفور»

محمد شكري  -  غراهام غرين
محمد شكري - غراهام غرين
TT

محمد شكري وغراهام غرين... سيرتان تتقاطعان وتفترقان

محمد شكري  -  غراهام غرين
محمد شكري - غراهام غرين

يصدر قريباً عن دار «نيلسون» ببيروت كتاب «الذات بين الحجاب والسفور - دراسة مقارنة بنيويّة وسيكولوجيّة لسيرتي محمد شكري وغراهام غرين» للدكتورة هيبة عبد الصمد. وهو مقارنة للسيَر الذاتية العربية والغربية من خلال سيرتي شكري وغراهام غرين. والمنهج المتّبع في الكتاب هو منهج التحليل النفسي الذي يكشف طريقة طرح الأفكار ودور الأسلوب واللغة في كشف المستور والمنسي عن قصد أو عن غير قصد، والتعبير عن رؤية الماضي بعيون الحاضر دون أي تزييف أو تدوير، كما يبرز رغبة الراوي في العودة إلى أعماقه، والتعرّف بذاته وذات الغير، من خلال العودة إلى الجذور، والحنين إلى الطفولة وإعادة بعثها في رحم زمن كتابة السيرة. هنا مقتطفات مسهبة من الفصل الثالث المعنون «الذاكرة والنسيان»:
الأمر المشترك بين الكثيرين من كتبة السيرة الذاتية هو أنه بعد إبراز المشكلة، ‏ومواجهة الحقائق - موضوع الصراع - تبقى المصالحة مع الذات هي الحل الجذري ‏لغربة الذات عن ذاتها، ولتسلل الذكريات إلى اللاوعي. لذلك، إذا عدنا إلى قضية الإلغاء المعنوي والمادي للولد بسبب سوء تصرف الأب، نجد أن للولد ردة فعل من المستحيل كبتها ‏أو تجاهلها. والكبت خطر على النفس ويخلف فيها آثاراً سلبية. والشفاء لا يتم إلا بالتفريج عن ‏الكبت من خلال إحضار الذكريات إلى الوعي، واستخراج المكبوت المتمثل بالصراع ‏الداخلي المتربص في أعماق الشخصية.
‏أما لماذا تكبت الذكريات؟ يرد كلفن هال على ذلك، ‏استناداً على آراء فرويد، ‏إلى ‏سببين: «إما أن تكون الذكريات ذاتها مؤلمة، ‏أو أن تكون الذكرى مرتبطة بشيء مؤلم». ‏وإذا كانت كتابة السيرة الذاتية هي العلاج الذي به يتماثل المريض النفس للشفاء، فإن كشف ‏المحجوب والسفور عن المكبوت في اللاوعي هو مهمة توازي مهمة الطبيب النفسي المعالج ‏الذي يكتشف الكبت ويواجه به المريض.
‏والكبت يتكوّن إبان الطفولة نتيجة للضغط والسلطة والظلم والقمع لبعض أو لكثير ‏من الرغبات الطفولية التي قد تكون بالغة الأهمية في هذه المرحلة الحساسة من العمر ‏وردود الفعل تتكون لحماية هذه الرغبات وللمحافظة على مساحة من الاستقلالية في ‏الشخصية بدءاً من وعي المرء لذاته. والكبت هو كبح الأفكار والمشاعر قبل أن تصل إلى ‏الوعي. ولكن هذه المشاعر تبقى مخزّنة في العقل الباطن ومن المستحيل نسيانها، إنما ‏إمكانية تناسيها واردة. والردود على حالات الكبت والحرمان يستخدمها الإنسان لحماية ‏نفسه من السلطات التي تهدم حريته وحتى لحمايته من نفسه إذ يثور على تصرفاته، وينقلب ‏على مبادئه ويتغير. والكبت: «قد يمنع شخصاً من رؤية الأشياء بوضوح، أو يشوه شيئاً ‏يراه، أو يموه المعلومات الواردة من أعضاء الحس بغية حماية (الأنا) من أن أمر خطير أو ‏مثير للقلق. كذلك، يمارس الكبت نشاطه على ذكريات الصدمات النفسية أو على ذكريات ‏تجارب مرتبطة بصدمات نفسية». والفريق الضعيف هو دائماً العنصر الذي يبحث عن ‏الحماية لأنه يكبت القلق والخوف في اللاوعي لديه، وبذلك لا يستعيد الذكريات المتعلقة ‏بالأحداث الحساسة في مراحل حياته إلا بصدمات نفسية تحرره من عقدته المزمنة.
‏يشكل الولد، مع الأم، الجانب الآخر من التوازن العائلي. إنه الحزام المشترك ولكن ‏الضعيف، ضد أنواع السلطة، إنه الجانب المسالم المستسلم، المستضعف والمستهان؛ ‏والفريق الذي لا صوت له سوى صوت البكاء والصلاة والتهدئة. هذه الصورة تتكرر وتبرز ‏بوضوح في السير الذاتية العربية أكثر منها في السير الأجنبية، بل تكاد تكون نمط الحياة ‏العربية الاجتماعية العامة. إنها انعكاس للتقاليد السائدة: «ففي أغلب تلك القصص، ‏يجسد ‏الأب التقاليد الاجتماعية ويمثلها تماماً، أما الأم، من الناحية الأخرى، فهي الضحية الوحيدة، تماماً كأولادها. فالأولاد، وخصوصاً الشبان منهم، تعطى لهم إمكانية الثورة على هذا ‏المجتمع، ‏سراً أو جهراً، ‏كردّة فعل على سوء تصرفات آبائهم ومجتمعاتهم. بمعنى آخر، ثورة على بيئتهم».
‏وهذه الثورة ليست إلا أحد ردود الفعل التي تظهر وإن متأخرة على السلطة المختلفة ‏التي مورست على المرء الذي شعر بالكبت والحرمان وعدم المساواة بالآخرين. وقد تكون ‏ردة الفعل حالة من التعويض عن الإلغاء المعنوي أو المادي السابق، وهذا التعويض هو ‏جزء من العلاج الذي يقود صاحبه إلى الشفاء.
‏وردود الفعل تكون على شكل تصرفات فورية انفعالية تنزلق في الزمن الخبيث، ‏وتختبئ لفترة في حفرة اللاوعي وتنحجب عن الذاكرة إلى أن يأتي زمن ما ومكان ما، ‏تتقن فيه الدور الذي تلعبه فيه. لذلك نجد أن ردود الفعل: «تشوه الواقع، وتجعل الشخصية ‏صارمة ومفتقرة إلى المرونة». وهكذا يعيش صاحب ردة الفعل أسير أفكاره وتصرفاته، ‏وقد يشعر بالذنب تجاه من فكر فيهم بالسوء، حتى وإن ظلموه في حياته. وليس في ذلك ‏مشكلة. المشكلة تبدأ حين تتحول ردة الفعل إلى انتقام حيث يتصرف اللاوعي في المرء على ‏حساب الوعي.
‏فعندما رفع شكري يد الهاون ليقتل أباه حين كان ينهال على أمه بالضرب ويدميها، ‏لم يكن فقط يدافع عنها، بل كان ينتقم لسنوات طويلة من العذاب والقهر والظلم والاستبداد، ‏كان يهرب من ظلم البيت وأجواء الطغيان المادي والمعنوي، ‏وينام في الشوارع وعلى ‏الطرقات. وفى أيام الشتاء الباردة، كان ينام في ركن فرن ويستمع منه كل يوم إلى صلوات ‏الفجر الآتية من بعيد، ‏وإلى بعض أغاني الطرب الرقيق. وذات يوم أيقظه رجل وأكد له أنه ‏يعرفه ويعرف أباه، ولكن شكري أنكر أباه وأنكر أي معرفة أو صلة قرابة بتلك العائلة، ‏وأعلن موت أبيه قبل أن يموت: «- من هو أبوك إذن؟ - مات. - مات؟ - نعم، مات منذ ‏زمان. - ماذا كان اسمه؟ - لا أدري. كنت أعرف اسمه، ‏لكني نسيته. كنت في بطن أمي ‏عندما مات». فنسيان الاسم هنا هو ردة فعل واعية وعملية انتقام محسوبة، تعبر عن ‏غضب شديد وألم نفسي. فحين يتمنى الولد الموت لأبيه في خياله وفي أحلامه آلاف المرات ‏كما فعل شكري، لا تعود علاقته به علاقة طبيعية. وحين يشكك الأب بأبوته لولده، تغيب ‏العاطفة المستقرة والمشاعر العفوية التي تربطه به. فالانتقام ردة فعل طبيعية على علاقة ‏غير سوية بين الولد والأب بغض النظر عن الظالم والمظلوم. ‏يلتقي شكري بأبيه في الشارع أمام رفاقه ويبدأ هذا يضربه، فينهال عليه رفيقا شكري بالضرب ويحطمان عظامه، بينما الولد يتمتع بالمشهد من بعيد: «سمعته يصرخ ويئن ويستغيث. رأيته يغطي وجهه بيديه والدم يسيل من بين أصابعه بغزارة. وقفت بعيداً ‏أنتظر نهاية المشهد.
تمنيت لو أني أشاركهما في ضربه. لو كان في مكان خال من الناس ‏لشاركتهما، كان عزاء لي أن أراه يضرب على مرأى مني حتى يسيل ‏دمه كما سال دمي كلما ضربني». يصور هذا المشهد خلال العلاقة والإصرار على الانتقام. وحين نضج شكري وتحرّر من عائلته، وأصبح يزورها فقط إرضاءً لأمه، مرض أبوه، فصار ‏يهمله ويقلل من مكانته في البيت وينتقم منه على طريقته: «إرضاءً لأمي، بست له رأسه، دون أن نتكلم. الشقاء الذي نلته منه في طفولتي يناله مني في شيخوخته. لا مصالحة بيننا إلى الأبد».
ولقد تبع ذلك ردّة فعل عنيفة عليه حين أجاب أصحابه بأنه: «يستحق أكثر مما حدث له»، فدهش الأصحاب خاصة حين علموا أن المضروب هو أبوه، لا بل أكثر من ذلك، لقد نعته بأبشع الصفات: «نعم، ‏أبي، ‏(أضفت). إنه يستحق أكثر مما فعلتماه له. إنه ‏كلب».
ونصادف في أكثر من مكان نعوت عميقة المعنى وخطيرة الأبعاد ترمز إلى أبيه ‏في مكان آخر: «السابعة مساء. كوخ الشؤم لن ينام إلا بعد ساعات». مثل هذا التدني ‏في مستوى العلاقة بين الأب والولد لا نجده إطلاقاً عند غرين الذي ظل الاحترام المتبادل ‏أساس العلاقة بين الطرفين. وهذا يعود إلى الفرق في المستوى الاجتماعي الذي عاشه كل ‏من غرين وشكري. ففي حين أن شكري تربى بين المقابر وفي المزابل وبين أرجل ‏الحيوانات وفي أحضان اللوطيين والسكارى والمهربين: «لقد عشت مع برابرة الليل في ‏الدروب الضيقة، والحظائر المغثية، والخمارات المريبة». إنه إنسان عاش طفولة استثنائية، وحياة استثنائية وحين تعلم وبدأ يكتب ويتغير لم يصدق ما أدركه: «ابن الكوخ ‏والمزابل البشرية يكتب أدباً وينشر».
‏أما غرين، فقد عاش حياة ترف ورخاء، فدخل المدارس وتعلم وتثقف، ونال ‏رعاية الأب والأم وإن كان الأب بعيداً عن ولده نسبياً والأم ضعيفة ود‏ورها ثانوي. لقد كان ‏يتمتع بفرح الأعياد ويذهب أيام الآحاد إلى الكنيسة للصلاة، وحين تعب نفسياً أرسلته العائلة ‏إلى الطبيب النفسي ليعالج وينال الرعاية المناسبة. وإذا كان هناك من خلل في العلاقة بين غرين وأبيه فهي نتيجة لافتقار غرين للحب والحنان الأبوي، والصراحة التي كانت تطبع شخصية والده. لذا، تميزت علاقته بأبيه بالخوف والرهبة، والشعور بالتوتر الدائم وعدم الاستقرار.
‏والخوف في لغة علم النفس هو شعور ناتج عن خطر حقيقي يتوقعه المرء في حالة ‏الوعي فيثير في النفس التوتر والقلق والاضطراب وهذا الشعور هو نتيجة لما كبته ‏اللاوعي في زمن سابق دون إدراك الوعي.
قد يكون خوفاً من السلطة والسيطرة التي ‏اختبرها المرء في طفولته، فيستمر الشعور رفيقاً في اللاوعي لفترة قد تطول، إلى أن يأتي ‏محرك لهذا الحدث - الخوف في الوعي، فيوقظه ويضعه موضع الحركة ويحرره، ‏والهروب من الواقع هو أحد مظاهر الخوف إذ يعكس رفض الحقائق مهما بلغت د‏رجة أهميتها أو عمق تأثيرها في النفس الإنسانية.
أما في سيرة غرين، فقلما يخلو فصل من البحث عن وسيلة للهروب من الحالة التي هو فيها، والأمثلة كثيرة. فحين كان في سيري ليون، وكما في أي مكان آخر، لم يكن ‏غرين يشعر بأي اكتفاء معنوي. كانت أيام حرب وعدم استقرار، وكان يشعر بالخمول ‏على الرغم من كل إنجازاته الأدبية.



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.