«مجلة الدراسات الفلسطينية»: القومية الإسلامية التركية ونهاية «النموذج»https://aawsat.com/home/article/893856/%C2%AB%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%85%D9%88%D8%B0%D8%AC%C2%BB
«مجلة الدراسات الفلسطينية»: القومية الإسلامية التركية ونهاية «النموذج»
بيروت:«الشرق الأوسط»
TT
بيروت:«الشرق الأوسط»
TT
«مجلة الدراسات الفلسطينية»: القومية الإسلامية التركية ونهاية «النموذج»
«أين تقع فلسطين؟»، سؤال يطرحه إلياس خوري في افتتاحية عدد «مجلة الدراسات الفلسطينية» رقم 110 (ربيع 2017)، ممهدا لملف العدد الذي يسعى للإضاءة على التحولات الدولية الدينية والقومية، من انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة «تتويجاً لتحولات كبرى تعصف بعالمنا وتجتاح الشرق الأوسط» إلى أوروبا التي تبدو على شفير التفكك مجددا «تحت ضربات اليمين الفاشي» وليس انتهاء بالهند «التي تبدو أسيرة التيار القومي الهندوسي»، و«وصولا إلى روسيا البوتينية» [....] «أمّا فلسطين فتجد نفسها تحت ضربات القومية الدينية اليهودية من جهة، والعجز السياسي الداخلي من جهة أخرى، وفي منطقة تحاصرها الدول القومية الدينية من جميع الجهات». في ملف «التحولات الدولية والقوميات الدينية» يقرأ نديم روحانا الواقع الإسرائيلي في مقالة بعنوان: «انتصار الصهيونية أو هزيمتها»، ويكتب علي الجرباوي عن «مستقبل فلسطين في عهد ترمب المضطرب»، ويحلل ميشال نوفل «ترمب وإسرائيل وفلسطين في دوامة المنظومة العالمية». وعن نهاية النموذج التركي يقرأ الصحافي والمحلل التركي جنكيز تشاندار «القومية الإسلامية التركية ونهاية النموذج التركي»، ويختتم الباحث والأكاديمي عمر تاشبينار الملف بمقالة بعنوان: «ثقافة إيران الاستراتيجية: الموازنة بين القومي والإسلامي». في باب «مقالات»: «مقدمة في التاريخ الشعبي: الحالة الفلسطينية» لخالد عايد، و«الانتفاضة الأولى: الأمل وخيبة الأمل» لخالد فراج، يفتح العدد 110، محور المؤتمر السابع لحركة فتح وتداعياته، لاعتبارات عدة «أولها التحول في وظيفة ما كان حركة لتحرير فلسطين إلى سلطة إدارة ذاتية في ظل الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان الاستعماري الصهيوني، ثم الاعتقاد من خلال هذا التحول أنه ما زال ممكناً البناء على أوهام عملية أوسلو وصولا إلى تحقيق مشروع الدولة الفلسطينية!!»؛ وقد شارك في هذا المحور: معين الطاهر ووليد نويهض ووليد العمري ونافذ أبو حسنة. دراسة واحدة تضمنها العدد، للكاتب كوبي بيليد، بعنوان: «الشهادات الشفوية والمصادر الأرشيفية والحرب العربية الإسرائيلية في سنة 1948: نظرة عن كثب إلى احتلال قرية فسّوطة الجليلية»، والتي يتناول فيها الظروف والمصادفات التي قضت بعدم تهجير قرية فسوطة الجليلية، بينما تم تهجير ثم تدمير كل القرى المحيطة بها. «مقابلة/ شهادة» العدد هي لليلى شهيد أجراها جيروم هانكنس ونشرت على نطاق ضيّق، وتعيد «مجلة الدراسات الفلسطينية» نشرها تحت عنوان «جان جينيه الأسير العاشق.. ومجزرة شاتيلا»، فيها سرد عن تلك المجزرة التي لن تمحو آثارها كل التطورات والمتغيرات، وعن جان جينيه «عاشق الفلسطينيين». وعن شاتيلا أيضا تحقيق أجراه أنيس محسن بعنوان «شاتيلا: مخيم لا يشبه نفسه»، يظهر فيه ما جرى من متغيرات ديموغرافية وعمرانية واجتماعية في المخيم، الذي بات أي شيء سوى ذلك المخيم المقاوم المذبوح مرتين. وفي «وقائع القدس»، إعادة نشر لمقالة وليد الخالدي «أرض السفارة الأميركية في القدس: المُلكية العربية والمأزق الأميركي»، انطلاقاً من وعد ترمب بنقل مبنى السفارة من تل أبيب إلى القدس. وعن الموضوع نفسه تقرير لعبد الرؤوف أرناؤوط بعنوان: «نقل السفارة الأميركية إلى القدس قنبلة موقوتة»؛ وختاماً التقرير الفلسطيني لخليل شاهين: «حكومة نتنياهو تقتنص الفرص لتعميق الضم والتطبيع الإقليمي»، والتقرير الإسرائيلي لأنطوان شلحت: «نتنياهو يستقوي بترمب».
كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.
سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.
لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.
ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.
ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.
لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.
الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟
قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته
اللقاء الأخير
كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!