فلوبير... راهب الأدب الفرنسي

سيرة جديدة عن صاحب «مدام بوفاري»

غوستاف فلوبير
غوستاف فلوبير
TT

فلوبير... راهب الأدب الفرنسي

غوستاف فلوبير
غوستاف فلوبير

على قمة الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر يتربع - إلى جانب فيكتور هوجو - ثلاثة عمالقة هم: غوستاف فلوبير، وستندال، وأونوريه دى بلزاك. إنهم الثلاثة الذين جعلوا من ذلك القرن قرن الرواية الفرنسية بامتياز.
ومن بين هؤلاء الثلاثة يتمتع فلوبير (1821 - 1880) بمكانة خاصة، فهو بما يشبه إجماع الآراء مبدع الرواية الأوروبية الحديثة، وذلك بأعماله «مدام بوفاري» (1857) «وسلامبو» (1862) و«التربية العاطفية» (1869)، فضلاً عن قصصه القصيرة التي تحمل عنوان «ثلاث حكايات» (1877)، وأشهرها «قلب بسيط». وفلوبير هو موضوع كتاب جديد نتوقف عنده هنا. إنه كتاب باللغة الفرنسية عنوانه «فلوبير» من تأليف ميشال وينوك ترجمه إلى الإنجليزية نيكولاس إليوت، وصدر عن مطبعة جامعة هارفارد في 528 صفحة Flaubert، by Michel Winock، translated by Nicholas Elliot، Harvard University Press.
يولي هذا الكتاب أهمية كبرى لمزاج فلوبير الشخصي، وكيف انعكس على كتاباته بما تتضمنه من إدانة عميقة للجنس البشري والبورجوازية بصورة خاصة. وفي عرض للكتاب بمجلة «ذا سبكتيتور» البريطانية، 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، يقول كاتب العرض جريام روب إن فلوبير اكتسب نفوراً عميقاً من الجنس البشري منذ مرحلة مبكرة من حياته. ربما كان هذا - إلى جانب مزاجه الشخصي - راجعاً إلى تأثير أبيه (الذي كان جراحاً بارزاً في مدينة روان ورجلاً حر التفكير) وإلى روح العصر بعامة.
لقد انتهت مغامرة نابليون بسقوطه، وغربت شمس الحركة الرومانتيكية لتحل الواقعية محلها. والـ«ليسيه» الذي التحق به فلوبير في روان زاد من نفوره من زملائه. ومثل كثير من المراهقين البورجوازيين في ثلاثينات القرن التاسع عشر وجد نفسه وقد انقشعت أوهامه عن السياسة يقرر أن يغدو كاتبا. يقول: «فلنثمل بالحبر ما دمنا لا نملك رحيق شراب السماء». ولازمه الإيمان بالأدب حتى النهاية وحتى آخر عمل له وقد تركه ناقصا وهو «معجم الأفكار المتلقاة» بمعنى الكلشيهات المقولبة المحفوظة التي يتداولها الناس دون تفكير. وقد أراد بهذا العمل أن يكون «موسوعة الغباء الإنساني».
ويتساءل وينوك في مطلع كتابه: «لماذا نكتب سيرة جديدة لحياة فلوبير والمكتبة ملأى بالسير السابقة؟ لقد قضى فلوبير أغلب حياته في بيت صيفي يطل على نهر السين يكتب لمدة 24 ساعة في اليوم أو بالأحرى يكتب ويمزق ويرمي بما كتب في سلة المهملات، وإن استنقذ منها بين الحين والحين جملة هنا أو عبارة هناك.
وحين كان يرفع عينيه عن الورق كان يرى صواري السفن التي تعبر النهر. وفي إحدى المرات رأى مسلة فرعونية من الأقصر تعبر النهر في طريقها لكي تنصب في باريس. هكذا كان أغلب حياته: فرنسي من بلاد الغال، ضخم قوي، ذو شارب هائل وأنف قوية وحواجب غزيرة وعينان زرقاوان. يغمس قلمه في محبرة على شكل ضفدع.
على أنه - وهذا ما ييسر مهمة كاتبي سيرته بعض الشيء - كان كثير الأسفار خاصة إلى مصر. ورسائله إلى عشيقته لويز كوليه في فرنسا تحوي أوصافاً شائقة لمشاهداته هناك. وعند عودته صار يحضر ولائم عشاء مع أقرانه من الأدباء في باريس، ويستقبل في بلاط الإمبراطور نابليون الثالث وزوجته الإمبراطورة أوجيني. ولكنه في النهاية يعود إلى بيته ويغلق عليه باب غرفته متصارعا مع الكلمات.
ويقول وينوك إنه يريد أن يسجل «حياة رجل في القرن الذي عاش فيه». وتحمل عناوين الجزء الأخير من كتابه ما يشير إلى الظلال المحزنة التي ارتمت على سنوات فلوبير الأخيرة: نوبات الصرع التي كانت تعاوده منذ مطلع حياته وخسائره المالية. هذه فصول تحمل عناوين من نوع: «نوبات الكآبة صعوداً وهبوطاً» (الفصل الخامس والعشرون) «الإفلاس المالي والثكل» (الفصل السادس والعشرون).
ويخصص «وينوك» جزءا كبيرا من كتابه لرسائل فلوبير الشخصية ورواياته وهي في الواقع أهم ما في الأمر. كان من عادته أن يتلو جمله بأعلى صوته من شرفة بيته لكي يختبر وقعها الموسيقي. وكان يعاني الأمرين من صياغة الجملة الواحدة وتكاد مسوداته تتمزق من فرط الحذوف والإضافات والتعديلات.
وعلى امتداد 4 أصائل وأمسيات راح يقرأ على أصدقائه - وهم يستمعون في صمت - قصته الأشبه بقصيدة نثر طويلة، التي استغرق ثلاث سنوات كاملة في تأليفها، وعنوانها «غواية القديس أنطونيوس». أما موضوعها فهو عن قديس مسيحي من القرن الثالث الميلادي واجه غواية خيالات الإغراء الجنسي في صومعته المنعزلة بصحراء وادي النطرون في مصر.
وحين فرغ فلوبير من قراءة روايته قال له أصدقاؤه بصراحة: هذا لن ينفع، فإما أن تعيد كتابتها كاملة من جديد وإما أن تلقي بها في نار الموقد. وقد آتى نقدهم القاسي هذا ثماره، فإنه حين نشر الصيغة النهائية للرواية بعد خمسة وعشرين عاما جاءت أفضل كثيرا من النص الأول الذي تلاه عليهم. وحين ظهرت روايته العظيمة «مدام بوفاري» في 1857 شكا من أنها اشتملت على بضعة أخطاء طباعية وأنه في تأليفها كرر إحدى الكلمات أكثر مما ينبغي!
ويؤكد هذا الكتاب ما ذهب إليه ناقد سابق هو مارتن تيرنل في كتابه المسمى «الرواية في فرنسا» من أن فلوبير كان كاتبا عظيما ولكنه كاتب عظيم به خطأ ما. والمشكلة لا تكمن في عيوب عارضة تشوب عمله وإنما في صميم ذلك العمل نفسه. فهو كاره للجنس البشري عاجز عن التعاطف مع شخوصه الروائية.
لقد كتب يقول: «ذهبت إلى المدرسة وأنا لا أتجاوز العاشرة، وسرعان ما استشعرت نفورا عميقا من الجنس البشري». وفي أبريل (نيسان) 1845 كتب إلى أحد أصدقائه يقول: «إن مصاريع قلبي قد أغلقت منذ زمن طويل وهجرت درجاته. وقديماً كان أشبه بنزل صاخب تتصاعد منه الضوضاء ولكنه قد غدا الآن خاوياً ورناناً كقبر واسع بلا جثة».
ويقول في خطاب إلى صديقه ماكسيم دي كام: «إنه لغريب ذلك القدر الضئيل من الإيمان بالسعادة الذي ولدت به. فعندما كنت صغيراً جداً كنت أتوقع الشر من الحياة. لقد كانت أشبه بنتن يفوح من مطبخ عفن الرائحة وتطرده المروحة. وما كنت لتحتاج إلى أن تأكل أي شيء من ذلك المطبخ لكي تدرك أنه خليق بأن يجعلك تتقيأ». هذا روائي غريب ذو شخصية معقدة، ولكن إضافته إلى فن الرواية وعبقريته التخيلية وبصيرته النفسية كلها حقائق ساطعة لا سبيل لنكرانها.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.