التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

بين رفض الآخر والتصدي للتسامح

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية
TT

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

هل كان لا بد للهندوسية بدورها أن تقع في فخ التطرف الأصولي، الذي لم تنج منه ديانة سماوية أو شريعة وضعية في العقود الأخيرة؟ ذات مرة من ستينات القرن الماضي، وصفت رئيسة وزراء الهند المغدورة أنديرا غاندي بلادها بأنها «عالم في حد ذاتها»، وقد أصابت بالفعل، إذ إن التركيبة السكانية والدينية للهند مثيرة، فهناك 900 مليون من الهندوس، و180 مليون مسلم، و40 مليون مسيحي، و30 مليون سيخي، و15 مليون بوذي، مما يعنى أنها فسيفاء يمكن أن تتنافر وتتصارع، لولا أن قادة الهند والمؤسسين الآباء نزعوا فتيل الانفجار الطائفي والعرقي، إلى وقت قريب. كانت العلمانية هي حائط الصد الذي جنب الهند حالة التشظي الطائفي، وإعادة إطلاق سيرة الهويات القبلية، وقد مضت المحكمة العليا في الهند منذ بضع سنوات في طريق حظر استغلال «الأديان والطوائف» كمنطلقات للترويج لبرامجهم السياسية، وجمع أصوات الناخبين.
في هذا السياق، أعلن كبير القضاة في المحكمة الأعلى في الهند، تي إس ثاكور، أنه لا يسمح لأي سياسي بالسعي وراء الأصوات باسم الطائفة أو العقيدة أو الديانة، مضيفاً: إن عملية الانتخابات يجب أن تكون ممارسة علمانية، والثابت أن الدستور الهندي ينص على أن الهند «دولة علمانية»، غير أن الأحزاب السياسية في الآونة الأخيرة دأبت على العزف على الأوتار الدينية والطائفية، واعتبرتها أدوات استقطاب سياسي، ومعياراً رئيسياً لاختيار المرشحين، والتقرب كذلك من الناخبين. ما الذي جرى في الهند وأدى إلى تغير الأوضاع، وتبدل الطباع، وحوّل التعايش بين أبناء الهند إلى تناحر وعنف دموي مصبوغ بصبغة طائفية، بدلاً من التسامح؟
يبدو أن صعود القوميات، وارتفاع وتيرة الشعبويات حول العالم، قد أصاب الهند بدورها، ومضت بها في طريق ضيق، عبر تزمت الآيديولوجيات والدوغمائيات المكذوبة، عوضاً عن رحابة التلاقي المعرفي والإنساني، وهي حالة نراها في أوروبا وأميركا والعالم العربي، وفى غالبية بقاع وأصقاع الأرض.
عبّر الهندوس عن أصوليتهم في العامين الأخيرين، عندما وقع اختيارهم على رئيس وزراء (ناريندرا مودي) وصف بأنه مثال للشخص المتعصب قومياً، والمتطرف دينياً، والمبشر بالأصولية الهندوسية في كل الأحوال. وقد ارتفع الجدل الأصولي في الهند في الأيام القليلة الماضية، بعد أن فاز حزب بهاراتيا جاناتا القومي بأغلبية كبيرة جداً في انتخابات ولاية أوتار براديش، ويبلغ تعداد سكانها نحو 200 مليون نسمة، بينهم نحو 40 مليون مسلم.
وفي أعقاب النتيجة، فوجئ الهنود والعالم من حولهم باختيار رئيس الوزراء (مودي) رجلاً يعد الأكثر كراهية للمسلمين، وأيضاً للمسيحيين والسيخ والبوذيين، في الهند، ويدعي يوغي أديتياناث، وهو راهب هندوسي يصفه ميلان فايشناف، الباحث بمؤسسة كارينغي للسلام الدولي، بأنه «متطرف فيما يتعلق بخطاباته، غوغائي متعجرف للغاية، يحرك مشاعر الناس، وهو شخص لا يشتهر بشيء سوى إخلاصه لصورة متشددة من القومية الهندوسية».
هذا الوصف أكده، بل وعززه، المؤلف والمؤرخ الهندي راما شاندران غوها بقوله: «إنها لحظة مهمة وقلقة؛ إن التطرف يتحرك ليصبح هو التيار السائد».
يعنّ للمرء أن يتأمل جلياً المشهد الهندي المنقلب اليوم، في ظل رئيس وزراء كما الإله جانوس له وجهان؛ أحدهما يقابل به رؤساء العالم والمحدثين الغربيين، بوصفه صاحب مشروع تنموي لبلاده، فيها الوجه الآخر يختفي خلف قناع التطرف القومي الهندوسي.
والشاهد أن اختياره لأديتياناث، المنادي بتطهير الهند من الديانات الأخرى، الذي اقترح في عام 2014 أن تضم المساجد في الهند تماثيل الآلهة الهندوسية، وهو اقتراح يمضي في ازدراء وتحقير الديانة الإسلامية، ويطعن مسلمي الهند في صلب إيمانهم، بات حجر زاوية لأصولية هندوسية قاتلة آتية ولا شك!
أصولية أديتياناث، المعين حديثاً من قبل مودي، دعته كذلك لاتهام الراهبة المسيحية صاحبة «نوبل للسلام»، الأم تيريزا، بأنها تشارك في مؤامرة كبرى غرضها تحويل الهند إلى المسيحية، وقد شبه نجم بوليوود شاه روخ خان بالإرهابيين.
مثير جداً شأن الأصوليات حول العالم؛ إنها لا تتشابه فقط، بل تكاد تتطابق: خذ مثلاً الأصولية الأميركية، التي بلورت رؤاها عام 1997 عبر ورقة استراتيجية تسمى «PNAC»، وفيها رأى المحافظون الجدد من الأميركيين أن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرناً أميركياً بامتياز، بمعنى أن تبسط أميركا سطوتها ومنعتها، قوتها ونفوذها، على سائر البلاد وعموم العباد حول الكرة الأرضية.
وبالضبط هذا ما ينادي به أديتياناث، الذي يرى أن القرن الحالي يجب أن يكون قرن «الهندوتفا»، أي الهندوسية القومية، ليس في الهند وحدها، بل في باقي أنحاء العالم.
يذهب المراقبون للشأن الهندي إلى أن قرار مودي تعيين أديتياناث إنما جاء استجابة للتوجه الشعبوي بين الهندوس، باعتباره سياسياً يمتلك القدرة على تمثيل الهندوسي، غير أن التساؤل كيف فات مودي أنه بذلك يطلق شرارة الصدام الأصولي في بلاده، خصوصاً في ظل أحلام هندوسية لمؤسسات ومنظمات لا تداري ولا تواري رؤيتها الأحادية للهند من الناحية الدينية، وتطلق مشروعات تبشيرية هندوسية بهدف واضح، هو تحويل الهند إلى بلد هندوسي مائة في المائة؟
هنا، وكما في كل مكان، تتخفى الأهداف السياسية وراء القناعات الأصولية، وتحركها من وراء الستار، مهما كان الثمن على النسيج الاجتماعي وتماسكه، فمودي بدا واضحاً من خلال تعيينه الأخير أنه يكافئ أديتياناث على مساعدته لحزب بهاراتيا جاناتا وحلفائه على الفوز بـ325 من عدد مقاعد برلمان ولاية أوتار براديش، البالغ 403 مقعد.
لكن هذه المكافأة لم تضع في الحسبان تبعاتها واستحقاقاتها على حالة السلم الطائفي في ولاية تبلغ مساحتها حجم دولة البرازيل. مكافأة لرجل سعى، وما زال يسعى، لبناء معبد هندوسي في موقع المسجد الذي كان موضع جدل مطول على مدار عقود من الزمن، رجل جل همه حظر مطلق لإقامة مذابح للأبقار، وهي عمد الاقتصاد الذي يباشره المسلمون في الهند، فالأبقار مقدسة عند الهندوس، والوضع ليس على هذا النحو إسلامياً، رجل امتدح حظر الرئيس ترمب سفر المسلمين من 7 بلدان ذات أغلبية مسلمة، بل ورأى أن الهند لا بد أن تتبع هذا النهج نفسه.
السحب التي تتجمع فوق سماوات الهند تخبرنا أن الشتاء الأصولي الهندوسي في عهد مودي سيكون قارساً في تطرفه، لا سيما أن وراءه تاريخاً غير ناصع من العنف والرفض للمسلمين في الهند. ففي عام 2000، عندما كان ناريندرا مودي يتولى حكم الولاية، قتل عشرات من المسلمين خلال أعمال شغب، وهزت تلك المذبحة التي تعد واحدة من أفظع المذابح الهند. ولاحقاً، في فبراير (شباط) عام 2002، تسلق حشد من الهندوس الجدار الخارجي لمنطقة جولبارج السكينة في «أحمد آباد»، أكبر مدن جوجارت، قبل أن يحرقوا المنازل التي حوصرت داخلها عائلات مسلمة، واحترقت نساء وأطفال حتى الموت.
لا ينتظر المرء خيراً أو تغيراً إيجابياً في مقبل الأيام، سيما أن الإعلام الهندوسي الموجه لا ينفك يشيع أفكار ورؤى التعصب والرفض للمسلمين، بل باتت كذلك المنظمات الهندوسية القومية وحلفاؤها، من أمثال «المنظمة الوطنية القومية» و«حزب الشعب» و«جيش شيف» الهندوسي العالمي، منابر لزرع الكراهية والبغض تجاه المسلمين، ولصالح الأحزاب الهندوسية القومية المتعصبة، بغرض لا يخفى على أعين أحد، أي زيادة رصيد الأصوات الانتخابية، وهو ما يجري أمام أعين النظام وأجهزة الأمن هناك، وكأن في الأمر تواطؤاً واضحاً وفاضحاً.
في هذه الأجواء، تكاد تكون الهند العلمانية تتراجع إلى الوراء لصالح الهند الراديكالية، وتبدو المواجهات الطائفية، ومن ورائها الصراعات الأهلية، قائمة وآتية، ومع الأسف يبقى المسلمون هم الضحية الأولى، بالفعل والقول.
لم تكن قد مضت على تعيين أديتياناث بضعة أيام إلا وسقط القتلى، وأصيب الجرحى، إثر اندلاع أعمال عنف وشجار بين تلاميذ مدرسة مسلمين وهندوس في ولاية جوجارات، مسقط رأس رئيس الوزراء الهندي مودي، فقد هاجم نحو 5 آلاف شخص السكان المسلمين، وأشعلوا النار في عشرات المنازل والسيارات، في قرية فادافالى بمنطقة تاتان، بعدما اشتكى تلاميذ هندوس من سلوك تلاميذ مسلمين.
ولعل الكارثة الأكبر التي تنتظر الهند تتخفى الآن وراء ما يعرف بـ«فيلق الشباب الهندوسي»، الذي يعد الذراع الطويلة لتيار القومية الهندوسية، وقائده يدعى برامود كومار مال، ومهمته العمل من أجل الحركة القومية، وهو يقول: «إننا لا نريد أن يتفكك هذا البلد، فهناك كثير من الحركات التي ترغب في تفكيك النظام، ونحن نريد أن نوقفهم، ونجعل الناس يدركون هذا الأمر».
اللغة واللهجة الأصولية التي يتحدثها كومار تشير إلى اتجاهات الرياح بالنسبة للمسلمين بنوع خاص، وهى لا تختلف كثيراً عن تلك التي يتحدث بها رجالات اليمين العنصري الأصولي في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية.
يرى كومار أن كثيراً من المسلمين في الهند يعملون ضد المصالح الهندية، ويضيف: «تماماً كما اكتشف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الكثيرين منهم، سنكتشف نحن أيضاً في الهند الكثيرين»، وكأن في الأمر مطابقة، وليس فقط محاكاة.
لغة الاستعلاء الفوقي الأصولي ولهجته لا تبشر بأي خير مقبل لمسلمي الهند، فحين يتحدث عمن يسميهم الأقليات الدينية في الولاية يقول: «إن هذه البلاد تنتمي إليهم، ما داموا يشعرون بأنهم مواطنون لهذه البلاد، وبأنهم يجب أن يحترموا الدين القومي، تماماً كما تقبلت الهندوسية كثيراً من الأديان الأخرى».
الخطاب هنا عنصري بامتياز، فالحديث عن مسألة الدين القومي شمولية سلطوية واضحة تدفعنا للتساؤل: وماذا عن بقية الأقليات الدينية الأخرى في الهند، وعن أوضاعها في ظل هذه الأصولية الهندوسية المتصاعدة؟
الشاهد أن الأقلية المسيحية في الهند تأتي في المرتبة الثانية، من حيث العدد، وهي تعاني بدورها من ظلامية الأصولية الهندوسية، ورأس حربتها النافذ «فيلق الشباب الهندوسي» الذي بات الآن يحاصر كنائس المسيحيين، متهماً إياهم بالتبشير، وإخراج الناس عن الدين القومي للبلاد.
في شهادته أمام اللجنة الفرعية لشؤون أفريقيا والصحة العالمية وحقوق الإنسان، تحدث أخيراً محامي منظمة «اتحاد الدفاع عن الحرية»، ايهمنا أرورا، قائلاً: «إن الهند، على الرغم من تقليدها الطويل المعروف بالتسامح الديني، دخلت في العقود الأخيرة إلى معاناة الأصولية الدينية والعنف ضد الأقليات الدينية».
الهجومات ضد المسيحيين الهنود لا تختلف كثيراً عن ما يلاقيه المسلمون الهنود. وعبر السنوات القليلة الماضية، تنوعت ما بين الاعتداء على الكنائس وحرقها، وكذا تدنيسها، واختطاف وقتل المسيحيين، واغتصاب فتياتهم ونسائهم، من قبل الجماعات الهندوسية المغرقة في تطرفها. والإشكالية الأكبر التي تبين أن فيروس الأصولية قد نخر في عظام الدولة الهندية، تتمثل في أن الشرطة لا تتخذ الإجراءات المطلوبة لحمايتهم، ولا لمطاردة الجناة، والقبض عليهم، ومن ثم تسليمهم للعدالة.
هناك كذلك تعنت حكومي واضح وفاضح ضد المسيحيين الهنود، فالحكومات المتعاقبة، خصوصاً منذ أن جاء مودي إلى الحكم، تفرض تشريعات مغلظة وظالمة تتعارض مع أساسيات الديمقراطية، حجر الزاوية الرئيسي في بناء الهند التي عرفها العالم رمزاً للتنوير، ومع شرعة حقوق الإنسان الموقعة عليها منذ وقت طويل، وكذلك تفرض تشريعات غير إنسانية ضد المؤمنين المسيحيين، بادعاء مقاومة تحول الهنود من الهندوسية إلى المسيحية.
لقد بات المسيحيون الهنود تحت رحمة الجماعات الأصولية الهندوسية، خصوصاً جماعة كرست نفسها لمطاردتهم وملاحقتهم، ويطلق عليها اسم «Vishwa hindu parishad»، وأضحى على هؤلاء الاستغاثة بالشرطة من أجل تمكينهم من الصلاة، وإقامة شعائرهم الدينية، وكثيراً ما تتوانى الأخيرة عن نجدتهم.
يستدعي المشهد الهندي الحالي إعادة قراءة وتقييم لفكرة الدولة العلمانية الهندية، التي تتقلص مساحتها اليوم لصالح الدولة الأصولية، وهل كانت الهند دولة علمانية ديمقراطية بالمعنى الحقيقي أم أن هناك شكوكاً حقيقية تحوم حول المشهد.
بحسب الموسوعة البريطانية الأشهر، فإن الدولة العلمانية هي كيان سياسي، السلطة فيه محايدة تجاه مواطنيها، منزوعة الهوى الديني، بعيدة عن الحكم على الأفراد بحسب الهوية أو العقيدة أو الإيمان، وتعامل جميع مواطنيها بشكل متساوٍ بغض النظر عن انتماءاتهم أو تفسيراتهم أو أفكارهم الدينية.
هذا التوصيف لا يتفق كثيراً مع الهند التي نراها اليوم، حيث التمييز على أساس ديني قائم، وللأسف آت، رغم أن الدستور الهندي يلغي الفروقات الطبقية منذ عهد الاستقلال، فقد أثار أخيراً مقطع مصور لمتشددين هندوس يهاجمون أفراداً من المسلمين الداليت (طائفة منبوذة مهمشة في أسفل الهرم الاجتماعي) غضباً واسعاً في صفوف أبناء هذه الطبقة الدنيا في الهند، مما يعنى أن نظام الطبقات لا يزال متجذراً في المجتمع الهندي.
هناك مفارقة كبيرة جداً في تعيين أديتياناث، أو ظهور «فيلق الشباب الهندوسي»، وهي أن الهندوسية لا يوجد لديها كتاب مقدس إلزامي يدعو للتبشير، أو إدخال الآخرين إلى حضنها أو حصنها، وعلى هذا فهي ليست موئلاً أو منبعاً للأصولية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ إنها تختلط وتلتقي بالآخر، وتكاد تنصهر معه، مما دعا كثيرين للإعجاب بـ«التعددية الداخلية الهندوسية» التي وصفت بأنها غريبة ومحيرة.
كان أفضل وصف قدمه جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، لبلاده هو أنها «لوحة قديمة نقشت عليها طبقة تلو طبقة من الفكر والأحلام، ومع ذلك لم تطمر أية طبقة لاحقة، أو تمحو، ما كتب سابقاً بصورة كاملة».
لكن أصوليي الهند، قديماً وحديثاً، من أمثال فاينك سافا ركار، يصرون على أن الهند «أمة هندوسية»، وإن كان يعيش بينها أقليات لها الحق في ممارسة دينها.
إنه التلاعب الأصولي نفسه بالكلمات والعبارات، وهو جزء واضح من ظاهرة إقليمية وعالمية، تتقلص فيها الـ«نحن» لصالح «الأنا»، وتتوازى فيها العلمانيات لصالح الأصوليات.
ما يجري في الهند اليوم انعكاس لا يقبل الشك لدعاوى مظلوميات هندوسية تاريخية تستحق إعادة القراءة، تذهب إلى أن الهندوس تم اضطهادهم من قبل المسلمين أولاً، ثم من قبل المسيحيين البريطانيين ثانياً، وأنهم لن يتعافوا إلا إذا تخلصوا من كل ما هو مسلم وبريطاني في تاريخهم.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».