التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

بين رفض الآخر والتصدي للتسامح

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية
TT

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

هل كان لا بد للهندوسية بدورها أن تقع في فخ التطرف الأصولي، الذي لم تنج منه ديانة سماوية أو شريعة وضعية في العقود الأخيرة؟ ذات مرة من ستينات القرن الماضي، وصفت رئيسة وزراء الهند المغدورة أنديرا غاندي بلادها بأنها «عالم في حد ذاتها»، وقد أصابت بالفعل، إذ إن التركيبة السكانية والدينية للهند مثيرة، فهناك 900 مليون من الهندوس، و180 مليون مسلم، و40 مليون مسيحي، و30 مليون سيخي، و15 مليون بوذي، مما يعنى أنها فسيفاء يمكن أن تتنافر وتتصارع، لولا أن قادة الهند والمؤسسين الآباء نزعوا فتيل الانفجار الطائفي والعرقي، إلى وقت قريب. كانت العلمانية هي حائط الصد الذي جنب الهند حالة التشظي الطائفي، وإعادة إطلاق سيرة الهويات القبلية، وقد مضت المحكمة العليا في الهند منذ بضع سنوات في طريق حظر استغلال «الأديان والطوائف» كمنطلقات للترويج لبرامجهم السياسية، وجمع أصوات الناخبين.
في هذا السياق، أعلن كبير القضاة في المحكمة الأعلى في الهند، تي إس ثاكور، أنه لا يسمح لأي سياسي بالسعي وراء الأصوات باسم الطائفة أو العقيدة أو الديانة، مضيفاً: إن عملية الانتخابات يجب أن تكون ممارسة علمانية، والثابت أن الدستور الهندي ينص على أن الهند «دولة علمانية»، غير أن الأحزاب السياسية في الآونة الأخيرة دأبت على العزف على الأوتار الدينية والطائفية، واعتبرتها أدوات استقطاب سياسي، ومعياراً رئيسياً لاختيار المرشحين، والتقرب كذلك من الناخبين. ما الذي جرى في الهند وأدى إلى تغير الأوضاع، وتبدل الطباع، وحوّل التعايش بين أبناء الهند إلى تناحر وعنف دموي مصبوغ بصبغة طائفية، بدلاً من التسامح؟
يبدو أن صعود القوميات، وارتفاع وتيرة الشعبويات حول العالم، قد أصاب الهند بدورها، ومضت بها في طريق ضيق، عبر تزمت الآيديولوجيات والدوغمائيات المكذوبة، عوضاً عن رحابة التلاقي المعرفي والإنساني، وهي حالة نراها في أوروبا وأميركا والعالم العربي، وفى غالبية بقاع وأصقاع الأرض.
عبّر الهندوس عن أصوليتهم في العامين الأخيرين، عندما وقع اختيارهم على رئيس وزراء (ناريندرا مودي) وصف بأنه مثال للشخص المتعصب قومياً، والمتطرف دينياً، والمبشر بالأصولية الهندوسية في كل الأحوال. وقد ارتفع الجدل الأصولي في الهند في الأيام القليلة الماضية، بعد أن فاز حزب بهاراتيا جاناتا القومي بأغلبية كبيرة جداً في انتخابات ولاية أوتار براديش، ويبلغ تعداد سكانها نحو 200 مليون نسمة، بينهم نحو 40 مليون مسلم.
وفي أعقاب النتيجة، فوجئ الهنود والعالم من حولهم باختيار رئيس الوزراء (مودي) رجلاً يعد الأكثر كراهية للمسلمين، وأيضاً للمسيحيين والسيخ والبوذيين، في الهند، ويدعي يوغي أديتياناث، وهو راهب هندوسي يصفه ميلان فايشناف، الباحث بمؤسسة كارينغي للسلام الدولي، بأنه «متطرف فيما يتعلق بخطاباته، غوغائي متعجرف للغاية، يحرك مشاعر الناس، وهو شخص لا يشتهر بشيء سوى إخلاصه لصورة متشددة من القومية الهندوسية».
هذا الوصف أكده، بل وعززه، المؤلف والمؤرخ الهندي راما شاندران غوها بقوله: «إنها لحظة مهمة وقلقة؛ إن التطرف يتحرك ليصبح هو التيار السائد».
يعنّ للمرء أن يتأمل جلياً المشهد الهندي المنقلب اليوم، في ظل رئيس وزراء كما الإله جانوس له وجهان؛ أحدهما يقابل به رؤساء العالم والمحدثين الغربيين، بوصفه صاحب مشروع تنموي لبلاده، فيها الوجه الآخر يختفي خلف قناع التطرف القومي الهندوسي.
والشاهد أن اختياره لأديتياناث، المنادي بتطهير الهند من الديانات الأخرى، الذي اقترح في عام 2014 أن تضم المساجد في الهند تماثيل الآلهة الهندوسية، وهو اقتراح يمضي في ازدراء وتحقير الديانة الإسلامية، ويطعن مسلمي الهند في صلب إيمانهم، بات حجر زاوية لأصولية هندوسية قاتلة آتية ولا شك!
أصولية أديتياناث، المعين حديثاً من قبل مودي، دعته كذلك لاتهام الراهبة المسيحية صاحبة «نوبل للسلام»، الأم تيريزا، بأنها تشارك في مؤامرة كبرى غرضها تحويل الهند إلى المسيحية، وقد شبه نجم بوليوود شاه روخ خان بالإرهابيين.
مثير جداً شأن الأصوليات حول العالم؛ إنها لا تتشابه فقط، بل تكاد تتطابق: خذ مثلاً الأصولية الأميركية، التي بلورت رؤاها عام 1997 عبر ورقة استراتيجية تسمى «PNAC»، وفيها رأى المحافظون الجدد من الأميركيين أن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرناً أميركياً بامتياز، بمعنى أن تبسط أميركا سطوتها ومنعتها، قوتها ونفوذها، على سائر البلاد وعموم العباد حول الكرة الأرضية.
وبالضبط هذا ما ينادي به أديتياناث، الذي يرى أن القرن الحالي يجب أن يكون قرن «الهندوتفا»، أي الهندوسية القومية، ليس في الهند وحدها، بل في باقي أنحاء العالم.
يذهب المراقبون للشأن الهندي إلى أن قرار مودي تعيين أديتياناث إنما جاء استجابة للتوجه الشعبوي بين الهندوس، باعتباره سياسياً يمتلك القدرة على تمثيل الهندوسي، غير أن التساؤل كيف فات مودي أنه بذلك يطلق شرارة الصدام الأصولي في بلاده، خصوصاً في ظل أحلام هندوسية لمؤسسات ومنظمات لا تداري ولا تواري رؤيتها الأحادية للهند من الناحية الدينية، وتطلق مشروعات تبشيرية هندوسية بهدف واضح، هو تحويل الهند إلى بلد هندوسي مائة في المائة؟
هنا، وكما في كل مكان، تتخفى الأهداف السياسية وراء القناعات الأصولية، وتحركها من وراء الستار، مهما كان الثمن على النسيج الاجتماعي وتماسكه، فمودي بدا واضحاً من خلال تعيينه الأخير أنه يكافئ أديتياناث على مساعدته لحزب بهاراتيا جاناتا وحلفائه على الفوز بـ325 من عدد مقاعد برلمان ولاية أوتار براديش، البالغ 403 مقعد.
لكن هذه المكافأة لم تضع في الحسبان تبعاتها واستحقاقاتها على حالة السلم الطائفي في ولاية تبلغ مساحتها حجم دولة البرازيل. مكافأة لرجل سعى، وما زال يسعى، لبناء معبد هندوسي في موقع المسجد الذي كان موضع جدل مطول على مدار عقود من الزمن، رجل جل همه حظر مطلق لإقامة مذابح للأبقار، وهي عمد الاقتصاد الذي يباشره المسلمون في الهند، فالأبقار مقدسة عند الهندوس، والوضع ليس على هذا النحو إسلامياً، رجل امتدح حظر الرئيس ترمب سفر المسلمين من 7 بلدان ذات أغلبية مسلمة، بل ورأى أن الهند لا بد أن تتبع هذا النهج نفسه.
السحب التي تتجمع فوق سماوات الهند تخبرنا أن الشتاء الأصولي الهندوسي في عهد مودي سيكون قارساً في تطرفه، لا سيما أن وراءه تاريخاً غير ناصع من العنف والرفض للمسلمين في الهند. ففي عام 2000، عندما كان ناريندرا مودي يتولى حكم الولاية، قتل عشرات من المسلمين خلال أعمال شغب، وهزت تلك المذبحة التي تعد واحدة من أفظع المذابح الهند. ولاحقاً، في فبراير (شباط) عام 2002، تسلق حشد من الهندوس الجدار الخارجي لمنطقة جولبارج السكينة في «أحمد آباد»، أكبر مدن جوجارت، قبل أن يحرقوا المنازل التي حوصرت داخلها عائلات مسلمة، واحترقت نساء وأطفال حتى الموت.
لا ينتظر المرء خيراً أو تغيراً إيجابياً في مقبل الأيام، سيما أن الإعلام الهندوسي الموجه لا ينفك يشيع أفكار ورؤى التعصب والرفض للمسلمين، بل باتت كذلك المنظمات الهندوسية القومية وحلفاؤها، من أمثال «المنظمة الوطنية القومية» و«حزب الشعب» و«جيش شيف» الهندوسي العالمي، منابر لزرع الكراهية والبغض تجاه المسلمين، ولصالح الأحزاب الهندوسية القومية المتعصبة، بغرض لا يخفى على أعين أحد، أي زيادة رصيد الأصوات الانتخابية، وهو ما يجري أمام أعين النظام وأجهزة الأمن هناك، وكأن في الأمر تواطؤاً واضحاً وفاضحاً.
في هذه الأجواء، تكاد تكون الهند العلمانية تتراجع إلى الوراء لصالح الهند الراديكالية، وتبدو المواجهات الطائفية، ومن ورائها الصراعات الأهلية، قائمة وآتية، ومع الأسف يبقى المسلمون هم الضحية الأولى، بالفعل والقول.
لم تكن قد مضت على تعيين أديتياناث بضعة أيام إلا وسقط القتلى، وأصيب الجرحى، إثر اندلاع أعمال عنف وشجار بين تلاميذ مدرسة مسلمين وهندوس في ولاية جوجارات، مسقط رأس رئيس الوزراء الهندي مودي، فقد هاجم نحو 5 آلاف شخص السكان المسلمين، وأشعلوا النار في عشرات المنازل والسيارات، في قرية فادافالى بمنطقة تاتان، بعدما اشتكى تلاميذ هندوس من سلوك تلاميذ مسلمين.
ولعل الكارثة الأكبر التي تنتظر الهند تتخفى الآن وراء ما يعرف بـ«فيلق الشباب الهندوسي»، الذي يعد الذراع الطويلة لتيار القومية الهندوسية، وقائده يدعى برامود كومار مال، ومهمته العمل من أجل الحركة القومية، وهو يقول: «إننا لا نريد أن يتفكك هذا البلد، فهناك كثير من الحركات التي ترغب في تفكيك النظام، ونحن نريد أن نوقفهم، ونجعل الناس يدركون هذا الأمر».
اللغة واللهجة الأصولية التي يتحدثها كومار تشير إلى اتجاهات الرياح بالنسبة للمسلمين بنوع خاص، وهى لا تختلف كثيراً عن تلك التي يتحدث بها رجالات اليمين العنصري الأصولي في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية.
يرى كومار أن كثيراً من المسلمين في الهند يعملون ضد المصالح الهندية، ويضيف: «تماماً كما اكتشف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الكثيرين منهم، سنكتشف نحن أيضاً في الهند الكثيرين»، وكأن في الأمر مطابقة، وليس فقط محاكاة.
لغة الاستعلاء الفوقي الأصولي ولهجته لا تبشر بأي خير مقبل لمسلمي الهند، فحين يتحدث عمن يسميهم الأقليات الدينية في الولاية يقول: «إن هذه البلاد تنتمي إليهم، ما داموا يشعرون بأنهم مواطنون لهذه البلاد، وبأنهم يجب أن يحترموا الدين القومي، تماماً كما تقبلت الهندوسية كثيراً من الأديان الأخرى».
الخطاب هنا عنصري بامتياز، فالحديث عن مسألة الدين القومي شمولية سلطوية واضحة تدفعنا للتساؤل: وماذا عن بقية الأقليات الدينية الأخرى في الهند، وعن أوضاعها في ظل هذه الأصولية الهندوسية المتصاعدة؟
الشاهد أن الأقلية المسيحية في الهند تأتي في المرتبة الثانية، من حيث العدد، وهي تعاني بدورها من ظلامية الأصولية الهندوسية، ورأس حربتها النافذ «فيلق الشباب الهندوسي» الذي بات الآن يحاصر كنائس المسيحيين، متهماً إياهم بالتبشير، وإخراج الناس عن الدين القومي للبلاد.
في شهادته أمام اللجنة الفرعية لشؤون أفريقيا والصحة العالمية وحقوق الإنسان، تحدث أخيراً محامي منظمة «اتحاد الدفاع عن الحرية»، ايهمنا أرورا، قائلاً: «إن الهند، على الرغم من تقليدها الطويل المعروف بالتسامح الديني، دخلت في العقود الأخيرة إلى معاناة الأصولية الدينية والعنف ضد الأقليات الدينية».
الهجومات ضد المسيحيين الهنود لا تختلف كثيراً عن ما يلاقيه المسلمون الهنود. وعبر السنوات القليلة الماضية، تنوعت ما بين الاعتداء على الكنائس وحرقها، وكذا تدنيسها، واختطاف وقتل المسيحيين، واغتصاب فتياتهم ونسائهم، من قبل الجماعات الهندوسية المغرقة في تطرفها. والإشكالية الأكبر التي تبين أن فيروس الأصولية قد نخر في عظام الدولة الهندية، تتمثل في أن الشرطة لا تتخذ الإجراءات المطلوبة لحمايتهم، ولا لمطاردة الجناة، والقبض عليهم، ومن ثم تسليمهم للعدالة.
هناك كذلك تعنت حكومي واضح وفاضح ضد المسيحيين الهنود، فالحكومات المتعاقبة، خصوصاً منذ أن جاء مودي إلى الحكم، تفرض تشريعات مغلظة وظالمة تتعارض مع أساسيات الديمقراطية، حجر الزاوية الرئيسي في بناء الهند التي عرفها العالم رمزاً للتنوير، ومع شرعة حقوق الإنسان الموقعة عليها منذ وقت طويل، وكذلك تفرض تشريعات غير إنسانية ضد المؤمنين المسيحيين، بادعاء مقاومة تحول الهنود من الهندوسية إلى المسيحية.
لقد بات المسيحيون الهنود تحت رحمة الجماعات الأصولية الهندوسية، خصوصاً جماعة كرست نفسها لمطاردتهم وملاحقتهم، ويطلق عليها اسم «Vishwa hindu parishad»، وأضحى على هؤلاء الاستغاثة بالشرطة من أجل تمكينهم من الصلاة، وإقامة شعائرهم الدينية، وكثيراً ما تتوانى الأخيرة عن نجدتهم.
يستدعي المشهد الهندي الحالي إعادة قراءة وتقييم لفكرة الدولة العلمانية الهندية، التي تتقلص مساحتها اليوم لصالح الدولة الأصولية، وهل كانت الهند دولة علمانية ديمقراطية بالمعنى الحقيقي أم أن هناك شكوكاً حقيقية تحوم حول المشهد.
بحسب الموسوعة البريطانية الأشهر، فإن الدولة العلمانية هي كيان سياسي، السلطة فيه محايدة تجاه مواطنيها، منزوعة الهوى الديني، بعيدة عن الحكم على الأفراد بحسب الهوية أو العقيدة أو الإيمان، وتعامل جميع مواطنيها بشكل متساوٍ بغض النظر عن انتماءاتهم أو تفسيراتهم أو أفكارهم الدينية.
هذا التوصيف لا يتفق كثيراً مع الهند التي نراها اليوم، حيث التمييز على أساس ديني قائم، وللأسف آت، رغم أن الدستور الهندي يلغي الفروقات الطبقية منذ عهد الاستقلال، فقد أثار أخيراً مقطع مصور لمتشددين هندوس يهاجمون أفراداً من المسلمين الداليت (طائفة منبوذة مهمشة في أسفل الهرم الاجتماعي) غضباً واسعاً في صفوف أبناء هذه الطبقة الدنيا في الهند، مما يعنى أن نظام الطبقات لا يزال متجذراً في المجتمع الهندي.
هناك مفارقة كبيرة جداً في تعيين أديتياناث، أو ظهور «فيلق الشباب الهندوسي»، وهي أن الهندوسية لا يوجد لديها كتاب مقدس إلزامي يدعو للتبشير، أو إدخال الآخرين إلى حضنها أو حصنها، وعلى هذا فهي ليست موئلاً أو منبعاً للأصولية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ إنها تختلط وتلتقي بالآخر، وتكاد تنصهر معه، مما دعا كثيرين للإعجاب بـ«التعددية الداخلية الهندوسية» التي وصفت بأنها غريبة ومحيرة.
كان أفضل وصف قدمه جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، لبلاده هو أنها «لوحة قديمة نقشت عليها طبقة تلو طبقة من الفكر والأحلام، ومع ذلك لم تطمر أية طبقة لاحقة، أو تمحو، ما كتب سابقاً بصورة كاملة».
لكن أصوليي الهند، قديماً وحديثاً، من أمثال فاينك سافا ركار، يصرون على أن الهند «أمة هندوسية»، وإن كان يعيش بينها أقليات لها الحق في ممارسة دينها.
إنه التلاعب الأصولي نفسه بالكلمات والعبارات، وهو جزء واضح من ظاهرة إقليمية وعالمية، تتقلص فيها الـ«نحن» لصالح «الأنا»، وتتوازى فيها العلمانيات لصالح الأصوليات.
ما يجري في الهند اليوم انعكاس لا يقبل الشك لدعاوى مظلوميات هندوسية تاريخية تستحق إعادة القراءة، تذهب إلى أن الهندوس تم اضطهادهم من قبل المسلمين أولاً، ثم من قبل المسيحيين البريطانيين ثانياً، وأنهم لن يتعافوا إلا إذا تخلصوا من كل ما هو مسلم وبريطاني في تاريخهم.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.