الفساد ينخر في مؤسسات الدولة الأفغانية

«الدفاع» الأفغانية تسرّح نحو 1400 من منتسبي الوزارة بسبب شبهة الرشى

شاحنات تحمل بضائع للناتو في معبر شامان الحدودي الذي أغلقته السلطات الباكستانية مع أفغانستان ما أوقف حركة التجارة إلى البلد غير الساحلي المجاور وفاقم التوتر بين البلدين في أعقاب تفجير انتحاري دموي استهدف ضريحاً في باكستان (إ.ب.أ)
شاحنات تحمل بضائع للناتو في معبر شامان الحدودي الذي أغلقته السلطات الباكستانية مع أفغانستان ما أوقف حركة التجارة إلى البلد غير الساحلي المجاور وفاقم التوتر بين البلدين في أعقاب تفجير انتحاري دموي استهدف ضريحاً في باكستان (إ.ب.أ)
TT

الفساد ينخر في مؤسسات الدولة الأفغانية

شاحنات تحمل بضائع للناتو في معبر شامان الحدودي الذي أغلقته السلطات الباكستانية مع أفغانستان ما أوقف حركة التجارة إلى البلد غير الساحلي المجاور وفاقم التوتر بين البلدين في أعقاب تفجير انتحاري دموي استهدف ضريحاً في باكستان (إ.ب.أ)
شاحنات تحمل بضائع للناتو في معبر شامان الحدودي الذي أغلقته السلطات الباكستانية مع أفغانستان ما أوقف حركة التجارة إلى البلد غير الساحلي المجاور وفاقم التوتر بين البلدين في أعقاب تفجير انتحاري دموي استهدف ضريحاً في باكستان (إ.ب.أ)

أعلنت وزارة الدفاع الأفغانية، أن مركز العدل ولجنة تفتيش ملفات الفساد المتعلقة بالمسؤولين الأمنيين اعتقلت جنرالا رفيعا في الجيش الوطني بتهم تتعلق بالفساد واللعب بميزانية «فيلق 215» المستقرة في ولاية هلمند المضطربة بالجنوب الأفغاني. وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الجنرال، دولت وزيري: إن «الشخص المعتقل هو الجنرال محمد معين فقيري، الذي كان يتولى قيادة «فيلق 215» للجيش بالجنوب، واعتقل بناء على اتهامات وجهت إليه من قبل مركز العدل لمحاربة الفساد الذي أنشئ للقضاء على عمليات الفساد التي تنخر بمؤسسات وزارة الدفاع وباقي المؤسسات الحكومية، وذلك قبل عامين وبعد أن كثرت التقارير التي تتحدث عن تلاعب بالأموال تتورط فيه شخصيات أمنية رفيعة». وأرسل فقيري لتولي قيادة الفيلق 215 للجيش بهلمند مطلع عام 2016 بعد أن أصبح قائده السابق ضالعا في قضايا تتعلق بمدفوعات لجنود ليس لهم وجود على أرض الواقع، وبعد عام بالضبط يتورط القائد الجديد للفيلق في عمليات الفساد نفسها. وأشار هلال الدين هلال، وهو مساعد وزير الدفاع الأفغاني، في مؤتمر صحافي عقده في كابل بأن الوزارة سرحت ما يقارب 1400 من منتسبي الوزارة، بينهم جنرالات وضباط وموظفون لوجيستيون، إضافة إلى الفنيين، وذلك خلال عام 2016 بسبب الاشتباه في تورطهم في عمليات الفساد، مضيفا أن نحو 300 من هؤلاء يخضعون للتحقيق، وبعضهم أصدرت عليهم أحكام بالسجن لفترات متفاوتة، مؤكدا أن الحكومة لن تتهاون مع الأشخاص الذين يتورطون في قضايا الفساد، خصوصا في أجهزة الدولة الأمنية. ولم يتضح كم عدد الأفراد الذين يخضعون للتحقيق، وتم القبض عليهم. من ناحية أخرى، تمت إقالة نحو 1394 فردا، من بينهم بعض الجنرالات. ويتهم بعضهم بالفساد أو الإهمال في الواجب أو الفرار من وحداتهم. كما تشمل القضايا سوء استخدام السلطة والإهمال والسرقة وبيع أسلحة ومواد غذائية واختلاس رواتب الجنود.
ومن بين أبرز المشتبه فيهم، قائد سابق في القوات الأفغانية، بإقليم هلمند جنوبي البلاد، وهو الجنرال معين فقير، الذي تم إلقاء القبض عليه يوم الاثنين الماضي. وندد وزير الاقتصاد الأفغاني عبد الستار مراد مؤخرا بالفساد المستمر في البلاد منذ قدوم القوات الأجنبية بأعداد كبيرة قبل 15 عاما، معتبرا أنه لا يزال من أسوأ أشكال الطغيان الذي تعرضت له البلاد. وكشف تصنيف لمنظمة «ترانسبيرنسي إنترناشيونال» غير الحكومية في تقريرها الأخير، عن أن البلاد انتقلت من المرتبة الـ176 إلى الـ169. وأضاف الوزير مراد إن «أفغانستان تقدمت سبع درجات، لكن تصنيفها لا يزال محرجا جدا، وذلك خلال مؤتمر صحافي لمنظمة (انتغريتي ووتش أفغانستان) التي تحاول منذ عام 2005 لفت الانتباه إلى الفساد ومحاربته». وأضاف مراد: «مع الأسف لم نتمكن من إصلاح المشكلة». ومضى يقول: إن «الأمن مشكلة كبرى، لكن الفساد أسوأ؛ لأنه يتيح لحركة طالبان التغلغل في كل مكان وتنفيذ هجماتها الانتحارية الفساد نوع من الطغيان». إلا أن مدير منظمة «انتغريتي ووتش أفغانستان» سيد أكرم أفضلي، ندد بعدم التزام الحكومة الأفغانية وتساهل الجهات الدولية الدائنة التي تغطي 70 في المائة من موازنة البلاد. وتابع سيد أكرم «خمس وزارات تبنت برامج لمكافحة الفساد وهي المالية والتجارة والصناعة والألغام والاتصالات والنقل. لكنها برامج من أدنى مستوى وكانت لمجرد الإعلان عن شيء بسيط فقط». وكانت الجهات المانحة من 75 دولة تعهدت في بروكسل في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بدفع 15.2 مليار دولار إلى أفغانستان بحلول عام 2020 وطالبته بمزيد من الشفافية. وذكر سيد أكرم «لقد أمهلوا الرئيس الأفغاني أشرف غني حتى عام 2017 لتبني استراتيجية فعلية ضد الفساد. بعدها بأربعة أشهر لم يتحرك شيء. لم نعد نسمع عن شيء. مرة أخرى اكتفت الحكومة بوضع إشارة على الورق».
وكانت منظمة الشفافية الدولية نشرت تقريراً سنوياً صنّفت فيه دول العالم حسب نسب الفساد فيها، وتستند الإحصائيات إلى معدلات حرية الصحافة والشفافية المالية وسيادة القانون.
وتحتل أفغانستان، استنادا إلى إحصائيات المنظمة، المركز الـ166 من أصل 188 دولة، ففي أفغانستان، يضطر ستة مواطنين من أصل عشرة إلى دفع رشى لتسهيل المعاملات الحكومية، وأشار الكثير منهم إلى انتشار الفساد واستفحاله في جميع هياكل الدولة وارتفاع نسبه في سنة 2010، مقارنة بما كانت عليه سنة 2007. وتجدر الإشارة إلى أن أسباب الفساد في أفغانستان متعددة، من بينها اندلاع الحروب وتفشي التخلف والفقر. هذا بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه القوات الدولية المنتشرة ومؤسسات أجنبية في تهيئة المناخ المناسب لتزايد الفساد وتفشيه في كل أركان الدولة، حسب محللين أفغان. وصرح مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان في تقرير نشره بعنوان «الدروس المستفادة»، بأن الولايات المتحدة لم تستخفّ فقط بحجم الفساد المستفحل في أفغانستان، بل زادت الوضع سوءا عبر منح مبالغ مالية طائلة لمتعاقدين غير خاضعين للمحاسبة ولحلفائهم المثيرين للريبة، وقد بادرت الولايات المتحدة بمحاربة الفساد بعد عقد من تفشي مظاهره ولم تقم على إثرها بأي محاولات أخرى جدية للإصلاح الجدي.
وأشار المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان، جون سوبكو، في التقرير نفسه، إلى أن الفساد في أفغانستان قد شهد تراجعاً إلى حدود سنة 2001، إلا أنه منذ ذلك الحين أصبح أكثر تفاقماً، وقال سوبكو في هذا السياق إنه نتج من محاولات تدخل الولايات المتحدة لإعادة إعمار أفغانستان تفشي فساد منظم في كل أجهزة الدولة من محاكم وجيش وشرطة، إضافة إلى الخدمات المصرفية وبقية القطاعات الحيوية الأخرى. لقد أصبح الفساد جزءاً لا يتجزأ من حياة الأفغان منذ سنة 2001، وانعكس ذلك من خلال تحول نظرة الأفغان لظاهرة الرشوة، حيث كانوا يعتبرونها عملاً مخزياً إلا أنه أصبح هناك اتفاق ضمني على أنها شر لا بد منه لحل مشكلاتهم اليومية، خصوصا في الإدارات الحكومية.
كما أن الولايات المتحدة ضخت عشرات المليارات من الدولارات في الاقتصاد الأفغاني، معتمدة على انعدام الرقابة وعلى التعاقد مع جهات مشبوهة، فضلاً عن الشراكة مع أجهزة تابعة للدولة، حيث إن جلّهم متهمون بالفساد.
وقد تعمق الفساد في أفغانستان عندما تعاملت واشنطن مع قادة حروب فاسدين، بحسب خير الدين بيان، المحلل السياسي الأفغاني، حيث يقول «قامت وكالة المخابرات المركزية الأميركية (بتفريغ أكياس نقدية) في مكتب الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، وبالتالي فشلت الولايات المتحدة في معالجة الفساد في وقت مبكر كما عجزت عن دعم حكومة نزيهة وشفافة».
وبحسب الخبراء، فإن مشكلة الفساد في أفغانستان متجذرة وعميقة، ولا يمكن لبرنامج واحد أن يجد لها حلاً، بل بالعكس إن محاولات الولايات المتحدة لمحاربة الفساد والتدخل في الشؤون الداخلية لأفغانستان باءت بالفشل وأصبحت مكلفة للغاية.
وكان المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان قد قدم في تقريره قائمة تتمثل في ستة دروس و16 توصية فيما يخص السياسة الخارجية الأميركية في تعاملها مع أفغانستان، استناداً إلى الأبحاث التي قام بها. هذه التوصيات القيّمة لم تجد صداها المتوقع، من بين هذه التوصيات ضرورة تقديم تكوين مهني للمقاولين والوكلاء الأجانب، ولكن الإجراء الضروري الآن هو إعادة تقييم جذري للسياسة العدوانية الخارجية الفاشلة التي أدت إلى خلق تلك العلاقات المشبوهة في المقام الأول. وتجدر الإشارة إلى أن المشكلة في أفغانستان لا تكمن في الفساد المنظم الذي دعمته الولايات المتحدة، بل في تدخلها في الشؤون الداخلية لأفغانستان، فإذا كنا نرغب في تجنب تكرار الأخطاء، يجب أن تخضع واشنطن إلى التدقيق، مثلها مثل كابول لتجنب مزيد من الفساد الإداري.
واليوم، وبعد مضي أكثر من 15 عاما من الدعم الدولي ومنظمات أممية للنهوض بمؤسسات أفغانستان الرسمية والخاصة، إلا أن الفساد لم يتم القضاء عليه فحسب، بل زادت نسبته في جميع الدوائر الحكومية؛ مما يزيد الطين بلة ويصب ذلك في مصلحة الجماعات الإرهابية التي هي بالمرصاد للاستفادة من أي فشل يرتكب؛ وذلك لاستقطاب مزيد من التعاطف والدعم القبلي لها في مناطق التوتر بالذات.
ففي الولايات الأفغانية التي ينعدم فيها الأمن والاستقرار، ولا تسيطر عليها الحكومة إلا على أجزاء بسيطة منها يلجأ الأفغان في حل مشكلاتهم إلى محاكم (طالبان)؛ لأنها أسرع ولا يدفعون الرشى. يقول زمان خان، وهو أفغاني من قرية شينواري بولاية بروان التي لا تبعد عن العاصمة إلا بضعة كيلومترات: إن محاكم طالبان اليوم أكثر نزاهة، وخالية من التزوير وعمليات الفساد مقارنة مع محاكم رسمية للحكومة، مضيفا أنه راجع قيادة طالبان في حل مشكلة نشبت بينه وبين رجل آخر في القرية على قطعة أرض كان يملكها ولم تستغرق العملية إلا يومين وحلت بين الطرفين، مشيرا إلى أنه لو راجع الحكومة لاستغرق الأمر سنوات، ولاضطر إلى دفع أكثر من ثمن قطعة الأرض للقضاء سبيلا للرشوة، وما يطلق عليه هنا (شيريني) ويعني ذلك (الهدية).
وتتحدث المؤسسات العاملة في القضاء على الإرهاب بأن آلاف الملفات من عمليات الفساد والتزوير تتورط فيها شخصيات حكومية رفيعة، غير أن الحكومة ليس بمقدورها اتهام الأفراد الذين يتمتعون بالنفوذ والقوة، وغالبيتهم من لوردات الحرب السابقين لجرّهم إلى المحاكم، وتشير هذه المنظمات بأن آلاف المدارس وعشرات المناصب في المؤسسات الأمنية أو غير الأمنية توجد على الورق فقط، وتذهب الرواتب الشهرية إلى جيوب أشخاص يتقلدون مناصب رفيعة في الحكومة، مشيرة إلى أن الحكومة تفتقر إلى رؤية واضحة، وتغيب الإرادة السياسية في ملاحقة الفاسدين.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟